ذكرى المولد، رسالة متجدّدة إلى الأمّة

م. محمد عادل فارس

يحتفل المسلمون في ربيع الأول من كل عام بذكرى مولد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، فتُلقى الكلمات والخطب والدروس. ولسنا نرى بأساً في أن تكون لتلك الذكرى ميزةُ إدخال البهجة إلى النفوس، والفرحة إلى القلوب، وإشاعة روح التفاؤل وشد العزائم لدى أبناء هذه الأمة المكدودين، الذين مُنُوا بالهزائم، وتداعت عليهم الأمم ورَمَتْهم عن قوس واحدة..

لكننا لا نرى أن نقف عند المظاهر، بل نخطو خطوة نحو عمل إيجابي فاعل، ونعقد العزم على نقل واقعنا الضعيف، نقلة نوعية على طريق الالتزام والتطبيق الأمثل للمعاني والقيم التي من أجلها بُعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

إن ذكرى المولد تدفعنا إلى أن نُعيد النظر في شؤون حياتنا جميعاً على ضوء الرسالة المحمدية في التعليم والتوجيه، والتشريع والتقنين، والسياسة والاقتصاد، والجندية والقيادة...

إن هذه الرسالة تخاطب قادة المسلمين وزعماءهم، وتذكرهم بالأصول التي أسس عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم دولته، وتدعوهم إلى الاقتداء بها وتلمُّس آثارها، وتُلحُّ عليهم أن يتخَلّوا عما تعلّقوا به من قيم زائفة، ومبادئ باطلة، وشعارات برّاقة، وأن يستشعروا ثِقَلَ التَّبِعَة في أعناقهم، فهم مسؤولون قبل غيرهم عن إقامة شرع الله فيما كان تحت ولايتهم، والمصالحة مع الله تعالى أولاً، ومع شعوبهم المسلمة ثانياً.

 

وهذه الأمة ما رأت عزّاً وكرامة ونصراً كالذي رأته في ظل الإسلام وشريعة الإسلام، فهل يليق بقادتها أن يتخذوا الإسلام وراءهم ظهريّاً، يوَلّوا وجوههم شطرَ مبادئ مفلسة ذاقت منها الشعوب وَيلاً وثبوراً، ثم يطلبوا من الإسلام أن يُقدّمَ لهم الفتاوى لتسويغ ما يقولون ويفعلون ويشرّعون؟!.

وتخاطب رجالات الحركة الإسلامية أن يسيروا على خُطا صاحب الرسالة، ويعملوا على إحياء سنّته، ويجاهدوا لإعلاء رايته، ويجعلوا من أنفسهم نماذج يقتدي بها أبناء الجيل كافة، ويربّوا المجتمع على المعاني الخيّرة، ويتجاوزوا حظوظ أنفسهم لما فيه خير هذه الدعوة المباركة، ويوحدوا الصفوف ويلمّوا الشمل، ويكونوا عوناً لبعضهم بعضاً على البر والتقوى ونصرة الإسلام.

وتخاطب كل مسلم أن يعود إلى الله، وأن يعلم أن الخير لن يأتي من غير الإسلام وأهله، وأنه بالإسلام تنشأ النفوس نشأةً أخرى كما نشأت على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولَ مرة.

إن الذين كانوا يسجدون للأصنام، ويئدون البنات، ويشربون الخمر، ويُشعلون الحروب لأتفه الأمور... هم أنفسهم الذين تحوّلوا بالإسلام إلى قادة الدنيا ومناراتها، وانطلقوا جحافل تنشر الضياء في ربوع الأرض، فمَحَوا دولة فارس المجوسية من الوجود وأزاحوا دولة بيزنطة آلاف الأميال إلى الشمال، وخاضت قوائم خيولهم في مياه المحيط الأطلسي.

فأية رسالة هذه؟ وأية عبقرية في البناء وَهَبَها الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأية مسؤولية يحملها المسلم في كل عصر، وفي هذا العصر الذي هو أحوج العصور إلى رسالة الإسلام؟!.

ولعلّ مما يضاعف المسؤولية ويؤكد أهمية فهم "الرسالة" وترجمتها إلى الواقع الحي، أن الحركة الإسلامية قد دخلت مرحلة من أخطر مراحلها في عصر تداخلت فيه خيوط التاريخ. ولقد جَدَّ الجِدُّ، وللمرحلة ما بعدها.

لقد سقط أحد جناحي الطاغوت العالمي، جناح الشيوعية، وزاد هذا من غرور الجناح الآخر وغطرسته حتى ظن أن العالم كله أصبح كالخاتم في يده، وتفرّد – أو كاد- بالسلطة العليا في المحافل الدولية سياسةً واقتصاداً وعسكراً... ونشِبت المعركة وجهاً لوجه بينه وبين الإسلام المتمثّل بالعقيدة الحق والمنهج القويم والجذور العميقة في التاريخ وفي القلوب، وبالصحوة الإسلامية التي ثبّتت أقدامها، وأثبتت وجودها، وقدّمت نفسها إلى العالم آسياً للجراح، ومنقذاً من المعضلات، وهادياً إلى الحق، وقائداً يملك ما تحلم به البشرية وتنشده.

إن ذكرى المولد رسالة إلى العالم كله أن يفيء إلى الحق والخير والعدل والسلام، أن يفيء إلى الإسلام. ورسالةُ المسلمين عامة وقادتهم خاصة أن يكونوا على مستوى المسؤولية، فيتجاوزوا ذواتهم ويرتفعوا إلى الأفق الرفيع خُلُقاً ووعياً ونضجاً وجهاداً وتضحية...

ورسالة الإسلام بعدئذ منصورة غالبة، بعزّ عزيز، وذُلّ ذليل:

(هُوَ الذي أرسلَ رسولَه بالهُدى ودينِ الحقّ ليُظهِرَه على الدّينِ كلّه ولو كَرِهَ المشركون).