التطرّف مكنون السلطات الاستبدادية
د. سماح هدايا
أكان من السهل الإطاحة بهذه الأنظمة الاستبدادية التي تجذّرت عميقا، من دون عمليّة تدمير تطال المجتمع بكل مستوياته، وتفكّك بنى الثقافة العميقة السائدة؟
نظام دقّ أوتاد الفساد والجهل في عمق الأرض... الإطاحة به تتطلّب زعزعة التراب والأرض تحت الأوتاد. لذلك لا غرابة في أن تصحب عمليّة التغيير المتمثّلة في الثورة حربا شرسة وتدميرا بنيويا.
السؤال:
هل ستنتهي الثورة بالخلاص من العنف وتؤمّن في نهاية المطاف الحرية والاستقرار وسعادة الشعب بمطالبه، أم ستنهي بحصاد مأساوي لحرب أهلية وسيطرة متطرفين وانتهازيين وتحيل المعتدلين والمفكرين والمخلصين إلى الوراء؟
من الصعب تأكيد جواب في زمن محدّد؛ لكنّ التداخل بين الانتفاضة والثورة والحرب الأهليّة، أدّى إلى تفاعل شديد وسيستمر التفاعل، ويأخذ مداه ومجاله لبلورة رؤية جديدة وواقع جديد. أما ما يظهر الآن من تشوش وفوضى وعنف، فهو جزء من مرحلة التغييرات، ليس النتيجة النهائية للتغييرات. سيطرة المتطرفين على المجريات القتالية وظهور العقول المتطرفة على المشهد وزج المطالبين بالثأر والانتقام بزخم في الحراك واندماجهم في القتال هو فصل من المعركة ومتناقضاتها؛ فالحرب العنيفة التي قادها تطرف طائفي كانت تتطلب بالمقابل متطرفين قساة للرد عليها. ثم فإنّ متغيرات كثيرة محلية وعالميّة تستجد وتتدخّل لتغيّر في مسار الأمور.
الإدراك العميق بأن الثورة لا تنحصر في إسقاط نظام سياسي حّاكم، وأنها نظام تغيير شامل يلزمه وقت للنمو والتطوّر، سيطوّر الخطاب السياسي ويجعله حيويا قابلا للفعل في حراك ثوري اجتماعي وفكري وسياسي وأخلاقي، وسسيسهم في إنضاج الرّؤية للواقع والماضي والمستقبل؛ فالمظالم التي تفاقمت مع الثورة جاءت نتيجة الاستبداد الطويل والقهر اليومي والجهل. وبالتالي فإن إسقاط نظام طاغ شمولي، لا يمكن أن يحصل بمعزل عن متناقضات حادة وتناحر شديد يفجّر مكنون السلطات الاستبدادية الفرعيّة الكثيرة؛ مثل العشائرية والدينيّة والطائفيّة والعرقيّة النامية في تربة النظام، التي تسهم في إثارة التطرّف.
ظهور التّطرّف بهذا الشكل ليس ظاهرة غريبة أو مخالفة لسير التاريخ؛ لكنّ وجوده لا يعني بالضرورة اللزوم والثبات، وربما هو مرحلي. وبغض النظر عن الموقف المعادي للتطرّف ولأفعال المتطرفين الذين ينطلقون من مسلمات دينيّة فوقيّة إقصائية متطرفة وقبولها؛ فلا يمكن إغفال أن التطرّف هو أحد مكونات الحرب الدائرة. وأن تغلغله في الثورة أمر طبيعي كشكل من أشكال التّصدي للنظام السياسي الطائفي الذي مارس الإرهاب الممنهج بشكل عميق وواسع ضمن شبكة دعم إقليمي متآمر، خصوصا عند اندلاع الثورة السورية، التي تصدى لها بعنف دموي، منذ سلميتها وواجه أطفالها ونساءها ورجالها بوحشية في ظل تواطؤ دولي.
المعتدلون والعاقلون لا يستطيعون، أخلاقيا وفكريا وعاطفيا، خوض حرب طائفيّة عنيقة مع النظام الطاغية ومواجهته بقتال ضار شرس يقابل عنفه وجرائمه المرتكبة بحق الإنسانية. المتطرفون ظهروا ليقوموا بمحاربته، من داخل عقلية مماثلة، ومواجهة بطشه وأجهزة أمنه المرعبة ومقاتلة شبيحته الدمويين.
اللعبة الإقليمية والدوليّة قامت بدورها في تاجيج الحرب الأهليّة بمساعي احتواء الثورة وتغيير مسارها وبتدوير حرب الإبادة ودعم الطغيان وشن الحرب الدولية ضد الشعب الثائر لتحويل الاختلافات الطائفية والعرقية إلى خلافات سياسية وتناقضات وطنيّة واتقسامات أخلاقيّة. التعبئة ضد مقاومة الشعب السوري الثائر، بدأت تعبئة طائفية شاملة وقومية مضادة، مارسها اللاعبون في الساحة السورية من مختلف الجهات. فمقابل ثورة إسقاط النظام، أوجدوا حربا أهلية مذهبية وقومية ليستنزفوا الثورة ويقضوا عليها في محاولة جديدة لإعادة رسم المنطقة داخل جغرافيا سياسية تقسيمية، تحافظ على مواقع اللاعبين ونفوذهم وهيمنتهم.
مع كل المتناقضات والمآسي والتغييرات...؛ فإنّ الثورة بدأت ثورة. والثورة مجرد خطوة لتحقيق الحرية والعدالة؛ لكنّها، وإن أخذت منحى العنف المسلّح والحرب الأهليّة، مستمرّة ولن تتراجع عن مطلبها في التغيير. العدالة محدودة والحرية محدودة وحالة الصراع ضد القهر ستنهك القوى المتصارعة...وستمتد...ويظل هدف الثورة مكافحة القهر والعبودية...المستقبل غالب ومغلوب، لا حياد فيه. والثمن فادح يدفعه الجميع... هي أمر استراتيجي. والأكيد أن المنطقة لن تعود إلى السابق.
مشروع الحرية ليس سهلاً، وتحقيقه يحتاج صبرا وزمنا، فهو تحرر داخلي وتحرر خارجي؛ صراع أفكار وفئات في الداخل. صراع قوى وإرادات في الخارج ومع الخارج. إنه أمر شائك من الصعب التنبؤ بنتائجه؛ لكنه يبقى مشروع تحرر..