التزام ... لا إلزام

أ.د/ جابر قميحة

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 الأديب المسلم "أديب رسالي"؛ لأنه في إبداعه ينطلق من التصور الإسلامي في التعامل الفني مع الحياة، والكون، والإنسان. وهو تصور سويّ نزيه لا مكان فيه للنقص، ولا الشذوذ، ولا الهوى، وهو بذلك يتفق مع الفطرة الإنسانية بلا عوج، ولا تخبط.

 وانطلاق الأديب المسلم من هذا "التصور الإسلامي" في إبداعاته يعني أنه "أديب ملتزم" والتزام الأديب المسلم هنا يختلف عن الالتزام المادي الذي تراه في الأدبين الشيوعي، والوجودي، وما دار في فلكهما، وأدق توصيف له هو أنه "إلزام" لا التزام.

 إنه التزام الأديب المسلم ـ كما يقول الدكتور محمد مصطفى هدارة ـ رحمه الله ـ يعد جزءًا لا يتجزأ من عملية الإلهام الفني، وليس خاضعًا لعنصر الاختراع الواعي المتعمد.. إنه جزء من نسيج التجربة التي هي لب الأدب، وكأن الالتزام في الأدب الإسلامي يعني تجارب حية في وجدان الأديب المسلم، وفكره اللذين تشربا التعاليم الإسلامية، بحيث صارت هذه التعاليم وحدها قرارًا طبيعيًا لتجاربه التي تتسع لكل معاني الوجود والحياة".

 فالتزام الأديب المسلم إذن إنما هو استجابة لفطرته السوية من ناحية، وتشربه القيم الإسلامية عقيدة، وديانة، وعلمًا، وثقافة من ناحية أخرى، حتى أصبحت "ميزان" الأشياء في كل شئون حياته، وأصبح الالتزام ـ شكلاً وموضوعًا ـ هو الطابع الأساسي ـ بل الوحيد ـ في مسلكه الخلقي والفني، وما عداه يعد نشوزًا وخروجًا على الأصل النبيل الكريم.

***

 وحتى يكون منبع الالتزام غنيًا ثرارا دائمًا كان على الاديب المسلم ـ كما يرى محمد المجذوب في كتابه أدب ونقد – أن يكون موصولادائما بالقرآن الكريم ـ وسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم - ثم عليه الاتصال بالمؤلفات الموثوقة في نطاق الثقافة الإسلامية المبنية على هذا الأصل.. كي يظل في مسيرته على الطريق الصحيح المستقيم، فلا يزيغ بصره عنها، ولا يطغى".

 ويضاف إلى ذلك طبعًا ضرورة انفتاح الأديب المسلم على المعارف الإنسانية، وأن يتزود بألوان متعددة من الثقافات الأدبية، والاجتماعية، والنفسية، وكل جديد في ميدان العلم.

***

 وقد يذهب بعضهم إلى أن الأديب المسلم ـ بهذا الالتزام ـ يتنازل عن قطع كثيرة من حريته، ويحصر نفسه في نطاق ضيق من الموضوعات.

ولكن الحرية بمفهومها الإنساني السوي لا يقف أمامها الإسلام، فهو الدين الذي حرر الإنسان من استعباد الآخرين، ومن عبودية الدنايا، والغايات الخسيسة، والتعبد لغير الله. ومنطق العقل والواقع يقرران أنه لا حرية بلا "ضوابط"، وإلا تحولت من حرية بانية إلى فوضوية مدمرة.

 والالتزام بالمفهوم الإسلامي لا يضيّق الحدود الموضوعة أمام الأديب، بل على العكس، يجعل كل ما قد خلق الله من مشهود ومغيَّيب في الأرض والسماء، وعالم الإنسان، والحيوان، والروح والطبيعة.. إلخ كلها موضوعات معروضة للأديب المسلم بلا حرج، ولا تحديد، ما دام يعالج موضوعاته من خلال "تصور إسلامي" شريف والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى، والقرآن الكريم عرض للجنس في سورة يوسف، وللشذوذ في قصة لوط، وقومه، وللنوازع والغرائز والعواطف الإنسانية ـ في صورتيها: السامية والهابطة، مبرزًا ما يعكسه كل أولئك من دروس وتوجهيات وعبر، في سور متعددة.

***

 ولا كذلك ما يراه من تضييق فائق، و"إلزام" قهري في آداب أخرى. نكتفي منها بالأدب الشيوعي، فنقرأ للينين" مقالاً كتبه سنة 1905م بعنوان "تنظيم الحزب وأدبه" وفيه يرفض أي نشاط أدبي، أو فني لا يكون في خدمة الحزب الشيوعي، وفيه يقول "لنتخلص من رجالات الأدب غير الحزبيين، لنتخلص من هواة الأدب المثاليين، على قضية الأدب أن تصبح جزءًا من القضية العامة للبروليتاريا، وجهازا صغيرًا من الآلة الاشتراكية الديمقراطية الموحدة، والكبيرة التي تحركها الطليعة الواعية للطبقة العاملة كلها، على النشاط الأدبي أن يصبح عنصرًا مؤلفًا لعمل حزبي اشتراكي ديمقراطي منظم".

 ولعلنا نتذكر مأساة الكاتب الشيوعي "بوريس باسترناك" كاتب رواية "دكتور زيفاجو" التي كان فيها صادقًا مع نفسه، ومع الواقع الإنساني، وفاز بجائزة نوبل، فحوكم وجاء ختام قرار اتحاد الكتاب السوفييت، الصادر في 28 / 10/ 1958م يتهمه بالتدهور السياسي والأخلاقي، وخيانة الشعب والاشتراكية والسلام؛ لذلك أجمعت كل مجالس اتحادات الكتاب السوفيتية ولجانها التنظيمية في كل القطاعات على "فصله من اتحاد الكتاب السوفييت، وعدم اعتباره كاتبًا سوفييتيًا".