التوازن في الخطاب الإعلامي لخدمة القضية الوطنية
التوازن في الخطاب الإعلامي لخدمة القضية الوطنية
خضر محمد أبو جحجوح
عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين
عضو رابطة أدباء الشام
تسارع بعض وسائل الإعلام المقروء والمسموعة والمرئية إلى نشر ما تروجه ماكينة الإعلام الصهيونية، دون تدقيق في معطيات الخبر المنشور وتداعياته وانعكاساته على اتجاهات الرأي العام العالمي، والمحلي.
تصيب في بعض الأحيان وتقع في حبائل ما يريده المطبخ الإعلامي الصهيونيّ، بدون قصد في بعض الأحيان، ظنا من تلك الوسائل أن الأخبار والمعلومات المقدمة تصب في خدمة المصلحة الوطنية العليا، وتخدم مشروع المقاومة.
فعلى سبيل المثال حين تكون الهجمة الصهيونية الشرسة على أبناء الشعب الفلسطيني في أوجها، بالقصف الجوي والأرضي والبحري على المدنيين في بيوتهم ومصانعهم وورشاتهم ومزارعهم ومدارسهم، ينبغي الانتباه إلى أن سلم أولويات الخطاب الإعلامي الموجه للرأي العام ينبغي أن يصب في خانة فضح الممارسات الصهيونية بالتركيز على حجم التدمير الصهيوني وبشاعته؛ ببث صور قصف المنشآت المدنية وتفحم المواطنين وتدمير ممتلكاتهم، والتركيز الذي أقصده، هو تركيز متواصل وفق برامج مدروسة مع إيجاد قنوات اتصال مباشرة ويومية مع وكالات الأنباء العالمية، مع الانتباه إلى نشر الحقائق من زاوية النظر الفلسطينية الواقعية.
كما ينبغي توجيه لغة الخطاب فيما يتعلق بمواقع القوة التنفيذية في سياقها الطبيعي؛ ببيان أن هذه المواقع ليست مواقع عسكرية بالمعنى المعروف في لغة الخطاب العسكري الدولي، كما يظن كل من يسمع الخطاب الإعلامي حتى هذه اللحظة، وإنما هي عبارة عن مراكز لا تختلف عن مراكز الشرطة المدنية، تستخدم لأغراض الأمن وحماية المواطنين من القتلة واللصوص وتجار المخدرات والحفاظ على الشارع الفلسطيني من عبث المجرمين.
ولكن نبرة الخطاب الإعلامي حتى هذه اللحظة تبرز المواقع وكأنَّها ثكنات عسكرية مسلحة مزودة بكل ما يتخيله عقل مستقبل الخطاب على مستوى العالم، خصوصا حين تتزامن هذه اللهجة مع لهجة الخطاب الإعلامي الصهيوني التي تروج دائما أنها لا تستهدف مدنيين البتة، وإنما تستهدف مواقع عسكرية ومطلقي صواريخ ومشاركين في أفعال المقاومة.
يؤكد هذا الخلل في الخطاب الإعلامي المحلي تزامن القصف الصهيوني مع عرض صور إطلاق صواريخ المقاومة، حتى إن بعض الوسائل الإعلامية كانت تركز الصور على بطاريات صواريخ (أرض/أرض) التي كانت تستخدم في حرب بيروت إبان الاجتياح الصهيوني للبنان، وكأنها تستخدم في المقاومة في اللحظة التي تبث فيها.
لذلك حين تشتد الهجمة الصهيونية، لا ينبغي المبالغة في إبراز صورايخ المقاومة للرأي العام العالمي، فالأمر رغم أهميته لمستوى تعبئة الجبهة الفلسطينية الداخلية والعربية، والحرب النفسية الموجهة لزعزعة استقرار الجبهة الصهيونية الداخلية وتفكيكها، يبرز الأمر في نظر من لا يعرفون طبيعة ما يدور في فلسطين وكأنه سياق حرب طبيعية بين جيشين يمتلك أحدهما ترسانة مسلحة من ضمنها صورايخ متوسطة المدى، وربما أسلحة غير تقليدية وبيلوجية وصورايخ بالستية كما يحب العدو الصهيوني أن يروّج للرأي العام العالمي، عبر ما يمتلك من قدرات إعلامية محلية وعالمية هائلة، وجيش يشن هجمات لصد القوة التدميرية الهائلة لهذه الصواريخ، مع أن العدو الصهيوني في حقيقة الأمر يشن حربا تدميرية بشتى أنواع الأسلحة المتطورة لتدمير الشعب الفلسطيني والنيل من قوته وعزيمته، وما إطلاق صواريخ المقاومة وجملة أفعال المقاومة إلا ردود طبيعية للمقاومة المشروعة في فلسطين، ومع ذلك فالعدو الصهيوني ووكلاؤه في المنطقة، وأنصاره في العالم، يسعى بكل ما أوتي من قوة إلى قلب الحقائق وتصويرها على غير حقيقتها، فيزداد حجم التأييد العالمي معززا حجم التأييد المتأسس على تجاذبات المصلحة وتوازنات القوى في العالم.
ولا يفوتني أن أتوجه بنصيحة الحريص للناطقين الإعلاميين بأن يحسنوا الخطاب في كل ما يتعلق بحجم أسلحة المقاومة وعددها وأنواعها وآخر تطوراتها وأعداد المقاومين، ووسائلهم، لكي لا تفقد المقاومة عنصر المفاجأة والمباغتة، فهما عنصران من أهم عناصر الإثخان في العدو وإرباكه في أحرج المواقف وأشدها ضراوة، ولنترك للعمل الميداني البرهنة العملية على قدرة المقاومة، بالآثار العملية المترتبة على منجزاتها، دون اضطرار للمزيد من التصريحات والتوضيحات التفصيلية الاستباقية، مع الانتباه إلى أن متغيراتٍ كثيرة سياسية وعسكرية وميدانية وجيوسياسية قد تحول دون أن يواكب القول عمل؛ فيأخذ العدو احتياطاته ويبني مخططاته بناء على معلومات جاهزة بين يديه. ويكون لذلك تأثير عكسي على مستويات الجبهة الفلسطينية الداخلية، وإن الدول تحرص على التكتم على أسلحتها وعتادها، ولا تسرب منها إلا ما تريد لإحداث حالة من توازنات الرعب والحرب النفسية.
ينبغي عليهم إذن إيجاد حالة من التوازن بين المعطيات والحقائق على أرض الواقع، والخطط المستقبلية لإيجاد تغيير مرجو وواقع مأمول بشكل علمي مدروس لا تكون فيه للعواطف مجال إلا بقدر محدود مدروس، لأن تغلب العاطفة قد يخرب الكثير من المنجزات والخطط.
لذلك ينبغي على العاملين في مجال صناعة الخطاب الإعلامي وصياغته الانتباه إلى فرق جوهري بين مستويين من مستويات الخطاب الإعلامي:
المستوى الأول هو المستوى العالمي عبر رسالة الخطاب الموجهة نحو الخارج لصناعة رأي عام تتشكل معه اتجاهات لدعم القضية الوطنية الفلسطينية، من خلال بيان تداعيات المأساة التي يحياها الشعب الفلسطيني ، وحجم الهجمة الصهيونية بكافة الأسلحة على شعب فلسطيني أعزل لا يمتلك إلا قليلا من مقومات القتال المادية، والكثير من مقومات الصمود المعنوية.
ومن هنا ينبغي على وسائل الإعلام المختلفة، أن تركز على القصف اليومي وضحاياه وما ينتج عنه من شهداء وجرحى وتدمير للمنازل ومرافق ومقومات البنى التحتية في مجالات الزراعة والصناعة وكافة مقومات الاقتصاد. مع الإلحاح على تكرار المشاهد بشكل يومي منهجي، والعمل على توصيل الرواية الفلسطينية الصحيحة إلى أكبر قدر ممكن من وسائل الإعلام العالمية ومحركات الخطاب الإعلامي والسياسي المؤثرة في الرأي العام وصناعة اتجاهاته.
والمستوى الثاني: هو المستوى المحلي ضمن حدود التعبئة المعنوية للشعب الفلسطيني من جهة، وآليات الحرب النفسية الموجهة للجبهة الصهيونية الداخلية من خلال توجيه خطاب إعلامي يبرز مقومات الصبر والصمود وعدم الرهبة رغم ما تمارسه آلة الحرب الصهيونية، وإعلاء شأن المقاومة ووسائلها القتالية التي توجد حالة من الذعر والرعب داخل الجبهة الداخلية للعدو رغم بدائيتها وقلة إمكانياتها ودقتها، مع قدرة على المناورة السياسية المبرمجة وتحسين مستوى أدائها للعمل بشكل متوازن.
وفي الوقت نفسه ينبغي تطوير آليات الوصول والانتشار وامتلاك وسائل موازية ومكافئة بل ومتفوقة على وسائل الخطاب الإعلامي الصهيوني الذي يسعى جاهدا إلى توصيل الرسائل التي يريدها للرأي العام العالمي والمحلي، وفي هذا السياق أرى أنَّ وسائل الإعلام المحلية نجحت في التركيز على المستوى الإعلامي الثاني الموجه للجبهة الداخلية؛ فاختلط الأمر بين المستويين دون تمييز بين معطيات المادة الإعلامية الموجهة على الصعيدين العالمي والمحلي.
قد يقول قائل إن حجم التعاطف مع العدو الصهيوني لا ينبني على قدرته الإعلامية فقط، بل يتعداها إلى ارتباطات سياسية وعسكرية واقتصادية إقليمية ودولية وفق سياسة تبنى على المصلحة وتوازنات القوة في العالم اليوم، ولن يتأثر الرأي العام العالمي برواية الضعفاء، وهذه المقولة في جزء منها صحيحة ولكن ينبغي عدم التسليم المطلق بها، بالطريقة نفسها التي استطاعت فصائل المقاومة عدم التسليم بنظرية التفوق العسكرية وعملت على كسرها وإحباطها يوما بعد يوم، بتطوير وسائل المقاومة بإمكانات محدودة بدأت من الحجر والزجاجات الحارقة حتى وصلت إلى البنادق والألغام وراجمات الهاون والصواريخ، فالعمل الحثيث على كسر نظرية التعاطف مع العدو الصهيوني محليا ودوليا جزءٌ لا يتجزأ من مهمة الخطاب الإعلامي المتوازن، وهذا يقتضي قدرة فائقة على المواجهة الإعلامية بتسخير الوسائل المتاحة، وتسخير الإمكانات المتوفرة جميعها، والسعي الحثيث إلى وحدة إعلامية في الوقت نفسه الذي تسعى فيه الفصائل إلى الوحدة الوطنية ، كما يقتضي الأمر إيجاد جيل من الإعلاميين المهنيين المتخصصين، ذوي القدرة الفائقة على سبر معطيات الواقع لتحقيق التوازن في شتى المجالات التي تؤسس الخطاب الإعلامي؛ لخدمة القضية الوطنية، وبرنامج المقاومة على المستويين العالمي والمحلي.