الوثنية السياسية وعبادة القصور
عبد الرحمن يوسف بريك
الشواشنة / الفيوم /مصر
لم تعد كلمة الوثنية – إذا ما ورد ذكرها في أي حديث – تعني فقط المدلول القديم للكلمة والمتمثل في عبادة الأوثان من دون الله ، بل قد اتسع مدلولها مع ازدياد الأوثان غير الحجرية فصار معناها أشمل وأعم .
فإن كانت الأديان جميعها ترفض وثنية العبادة والمعتقد ، فإن ديننا الإسلامي الحنيف شدد على نبذ هذه الوثنية ، وعد أن إنكارها هو المدخل الصحيح للإيمان بالله أو التوحيد وفق المفهوم الإسلامي .
بيد أن الليالي الحبالى تمخضت عن نوع جديد من الوثنية الحديثة ، لم تعد الأحجار تمثل الوثن المعبود الذي تقدم له القرابين ، وتنحر عنده الذبائح ، ويركع عباده بين يديه أو تحت قدميه تذللاً وخضوعاً ، بل صار قصر الملك أو الرئيس أو الأمير أياً كان اسم الحاكم هو الوثن الجديد المعبود الذي تذل له الرقاب ويقال له : سمعنا وأطعنا بكل من بداخله وما بداخله ، تلك هي الوثنية السياسية إن صح التعبير .
فإن كانت الوثنية الدينية هي زيارة القبور والتمسح بها وطلب العون والمدد من ساكنيها من الأموات واليقين الكاذب أنهم يملكون لزوارهم نفعاً أو ضراً ، فإن الوثنية السياسية هي زيارة القصور والوقوف عند أبوابها والتمرغ على عتباتها وتقديم الولاء والطاعة لساكنيها من الأحياء ، واليقين الكاذب أيضاً أنهم يملكون لأنفسهم أو لغيرهم نفعاً أو ضراً من دون الله .
وتعالوا لندرس تلك الظاهرة ونحلل عوامل انتشارها في مجتمع ما ، علنا نستطيع الوقوف على بعض النقاط التي تهم القارئ .
نقول : إن هذه الظاهرة لا تنتشر في المجتمعات الديمقراطية التي تسمح بتداول السلطة ، فالحاكم في هذه المجتمعات شخص من الشعب يختاره الشعب ليتولى أمر الدولة وفق نظامها الموضوع سلفاً ، فهو منفذ سياسة ، فإن حاد أو أخفق في رعاية شعبه اختاروا غيره دون تردد ، لذا فلن يصبح الحاكم في تلك الدول وثناً أبداً .
كما لا تنتشر هذه الظاهرة أيضاً في المجتمعات المتقدمة علمياً ، فالشعب المتعلم الواعي يعرف حقوقه وواجباته ، يؤدي ما عليه دون إبطاء ولا يتردد في المطالبة بحقوقه التي يعرفها جيداً ، ويدرك أن الحاكم مخول من قبل المجتمع للسهر على مصالحه ورعاية شئونه ، كما أن هذا الشعب يعرف جيداً كيف يطالب بحقوقه دون ثورة أو انفعال ، وهو شعب مشغول بتقدمه العلمي عن تقديس شخص كائناً من كان .
ولم تنتشر هذه الظاهرة في المجتمعات التي حكمت بشريعة الله ، فشريعة الله – أياً كانت هذه الشريعة – لا تقدس بشراً من دون الله ، وأكبر مثال على ذلك يوم حكم الإسلام أهله ، فقد كان الحاكم واحداً من المسلمين اختاروه ليرعى شئونهم ، وانظر إلى أبي بكر الصديق – رضي الله عنه - يوم ولي الخلافة ، لقد صعد المنبر وخطب في الناس قائلاً : " أيها الناس لقد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن رأيتم في اعوجاجاً فقوموني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم " ، فلم ير في نفسه العصمة ولا القداسة وما رآها الناس فيه ، وكذلك كان دأب الخلفاء والأمراء من بعده .
بيد أن هناك مجتمعات قدست الحاكم ووضعته إلهاً من دون الله ، فهذه مصر الفرعونية اتخذت الفرعون وثناً يعبد : " قال أنا ربكم الأعلى " ، وعبد الصينيون والهندوس أوثاناً أخرى من دون الله .
وهنا نتساءل : متى تظهر الوثنية السياسية ؟
نقول : إنها تنتشر في المجتمعات الفقيرة التي لا تجد قوت يومها ، حيث يصبح الحاكم مصدر الرزق لها ، بيده إطعامها إن أراد وتجويعها متى شاء ، فتصبح الشعوب طيعة بين يديه ، ترى فيه الوثن الذي لا تستطيع الالتفات بعيداً عنه ، ولا الالتفاف إلا حوله ، يقول فلا يرد قوله ، يأمر فيأتمر الجميع بأمره دون نقاش أو تردد ، يقول رأياً اليوم فيهلل الجميع لرأيه العبقري ، ويأمر بعكسه غداً فيصفقون لحكمته البالغة ، وقراره الرشيد .
وتنتشر هذه الظاهرة أيضاً في المجتمعات التي يقبض حكامها على مقاليد الأمور بالقوة الغاشمة ، فيستبد الخوف بالناس ، يرون القانون ينتهك من أصحاب النفوذ فلا يملكون فعل شئ خوفاً من بطش الحاكم وبطانته ، تهدر حقوقهم فيسكتون ، يعلمون أن القضبان السوداء هي المصير المحتوم لمن يسير عكس تيار الحاكم الغاشم ، وفي هذه الظروف يظهر عباد القصور الذين يمرغون أنوفهم للحاكم وبطانته ، يهللون ويطبلون لكل كلمة يقولها الحاكم ، ألغوا عقولهم ، فكيف يفكرون والحاكم هو المفكر الأوحد ، ولم لا ، أليس هو العارف بكل شئ ؟! ، " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي " .
وتنتشر هذه الظاهرة أيضاً في المجتمعات الجاهلة التي ضرب الجهل أطنابها ، فصار من يعرف شيئاً يسيراً من العلم أياً كان نوعه وثناً لأولئك الجهلاء ، يقول فيفغر الجميع أفواههم بلهاً وجهلاً ، يفتي بأي شئ فيصدقه الجميع ويعملون بما يقول ، حتى وإن أفتاهم بما يهلكهم .
أما العجب العجاب فهو أن تجد الكثير من حملة الشهادات الكبرى في بعض المجتمعات يقومون بدور سدنة الوثن السياسي ، يزينون للناس أفعال الوثن ، يحللون كل حركة وسكنة تبدر منه بأنها الحكمة التي لا يعرفها الكثيرون والتي وراءها المعاني العظيمة التي لا تعيها العقول ، ويزيد الطين بلة أن يكون بعض رجال الدين هم أهم سدنة الوثن السياسي في عصرنا الراهن ، يكيفون ما يقول حتى يوهموا الناس أنه الشرع الحق الذي ينبثق من صميم الدين .
لكن ، حينما تبدأ الشعوب في الإفاقة وتعرف أن حكامها ما هم إلا بشر مثلهم ، إلا وتبدأ المعركة بين سدنة الوثن وحملة المعاول التي تريد هدم الأوثان الزائفة ، قد تستمر طويلاً هذه المعركة ، وقد تزهق فيها أرواح الكثيرين من حملة معاول الإصلاح ، لكن في النهاية ، لا بد أن يأتي الفتى إبراهيم بمعوله فيهدم الأوثان الزائفة ويعلق معول الإصلاح على كتف كبيرهم ، وعندئذ تعرف الشعوب أنها تخلصت من أوثانها وتردد مع الفتى إبراهيم - حين يقف زوار هذه الأوثان مذهولين مما يرون - : " فاسألوهم إن كانوا ينطقون ".