حـول أدب السجـون

محب الدين داود

حـول أدب السجـون

محب الدين داود

كنت قد قرأت مؤخرا ، على موقع رابطة أدباء الشام ، مقالا للسيد خالد السمان مؤرخا بـتاريخ 08 / 07 /  2004 م  وهو بعنوان ( أدب السجون ) " الداخل مفقود والخارج مولود " ، وقد تحدث فيه الكاتب عن الأخ الأستاذ محمد الحسناوي ، الذي أحترمه وأقدره من دون معرفة سابقة ، سوى ما كنت قرأت له زمنا ، ما كان يُكرِم به قراء الحضارة[1]، أيام كانت وكان الزمان وكنا، وما ذلك بقليل .

وقد فوجئت إذ وجدت كاتب المقال الأستاذ ( خالد السمان ) يشير إلى بعض مؤلفات الأخ الحسناوي ، التي وصفها بالأخيرة ، فيعدها بكل بساطة ويسر من  ( أدب السجون ) أو ممثلة لهذا الأدب . وأدب السجون عنوان كبير على مدار التاريخ واختلاف الأمم ، ومن أمثلته روميات أبي فراس الحمداني مثلا ، ولكننا نقصد به اليوم أدبا محددا لسجون معينة ، إنه بالتحديد أدب سجناء الحركات الإسلامية المعاصرة ولا أريد أن أغرق في الوضوح والتصريح أكثر من هذا . ويمكن تقسيم هذا الأدب مستقبلا ، عندما يتم التأصيل للأدب الإسلامي ، بما يناسب كل حركة وكل بلد وكل لغة ، ويبدو أنه سيشكل جزءا مهما من مفردات هذا الأدب ومفرزاته ، وبابا واسعا من أبوابه ، وسفرا خطيرا من أسفاره. ولذلك فما أظن الأستاذ السمان وهو يطلق تلكم الكلمات ، كان يعني أن يقدم حكما نقديا من هذا الحجم الكبير ، حين قال بأن الأخ الحسناوي ، في تلك المؤلفات الأخيرة : ( يعيش التجربة التي عاناها في اعتقاله لمدة شهر واحد عام 1967) في المخابرات العسكرية بحلب.. فبخ ٍ بخ ٍ.. ولعاً له .. ولا كبا به الفرس.. وأحمد الله على سلامته ، وإن جاءت مشاركتي الوجدانية متأخرة ، وهذا من أقدار الله لنا أو علينا ، فاحسبوها كقولنا ( باسم الله أوله وآخره ).. أو احسبوها مشاركة مقدرة منع من ظهورها اشتغال الزبون بحركة السجون.. وإلا فهل ينسى الحسناوي والحداد والسلامة ومن سار في ركبهم إلا جاحد ، وإن نأى بنا المزار وشحطت الدار وشطت غربة النوى ؟.

ثم يتابع السيد خالد السمان فيقول: ( إن كل ما كتبه الحسناوي... يعد من أدب السجون ) وهذا حكم كبير حقا ، أكبر من واقع الحال ، وربما لا يكون كبيرا في حد ذاته ، لأن الأستاذ الحسناوي قد يستحق أكبر منه ، ولكنه كبير بإزاء الدليل المقدم عليه ، حيث قدم الكاتب الدليل على ذلك ، فقال معللا ومدللا: ( لأن النفي عن الوطن سجن من نوع آخر ) فــبخ ٍ بخ ٍ مرة ثانية..

الحق أن هذا الكلام قد هالني وصعقني وأصابني بالذهول ، ودعاني إلى الترحم على أعمى المعرة ؛ فلقد كان أبو النزول أحدّ منا بصيرة حين قال:

هــــذا كلام له خبيء      معناه ليست لنا عقول

وإن كان كلام المعري قد ورد في غير معرض حديثنا هذا . فكلام الأستاذ السمان ، على ما فيه من البعد عن الدقة والأمانة العلمية ، ينطوي على قدر كبير من الاستهانة بعقول القراء من جهة[2]، والتنكر لدماء الشهداء وعذابات الأسرى ودموع الأهلين وتضحيات الجميع ، من جهة أخرى . ولو قرأه من قضى نحبه لحمد الله على أنه لم يكن ممن ينتظر ، أو قرأه من لم يزل ينتظر فلربما قضى حسرة أو ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ؛ لأن اتخاذ الغربة ، أو سجن شهر مثالا نموذجيا لأدب السجون ، وجعله معبّرا عن المعاناة الحقيقية لهذه الفئة المجاهدة ، التي اعتقلت دهرا وسجنت عمرا ، هذا لمن بقي له من العمر بقية ، أمر لا يقبل به عقل ، ولا يرضى به عاقل ؛ فما أكثر المنافي والمنفيين ، وما أكثر من أكرمه الله منهم بسجن شهر أو يزيد ، من قبل أن يفلتوا من براثن البغاث المستنسر، وينفلتوا لا يلوون على شيء ، ولا يلتفتون حتى في أعطافهم ، فلم قصر هذه المكرمة وحصرها في فئة قليلة أو شخص واحد ؟. ولم لا تكون المقالة دراسة شاملة لهذا الأدب ؟. أم هل هذه المقالة خطوة من خطوات وحلقة من حلقات وأنا غافل عن ذلك؟. 

ولو رحنا نفلسف الأمر كما يفلسفه الذين من حولنا ، لقلنا بأن الغربة داخل الوطن و بين الأهل والأحبة ، هذا إذا كتبت لغرباء الوطن الحياة ، أقسى من الغربة في الغربة ، بين الغرباء بعيدا عن الوطن ، وقد قيل. فالغربة تؤنس بالغربة ، ولكن هل يؤنِس السجن بالتعذيب ؟ والغريب يأنس بالغريب ، ولكن هل يأنس السجناء بمن يسحبون من بين أيديهم ، ويتسللون من بين أصابعهم ، إلى أعواد المشانق ليلا أو نهارا؟.

ولو رحنا نفلسف الأمور أكثر لعددنا الغربة فرارا ، وقد عدّها غيرنا كذلك ، وما أحب أن أشير إلى التولي يوم الزحف.. لأن هذا من شأن القضاة لا الدعاة ، وقد قبل أسرى السجون والمعتقلات أن يكون أسرى الاغتراب هم الدعاة والقضاة والقادة والولاة ، ولن ينازعهم في ذلك منهم أحد ، ممن قد يفلت من خلوات الأبرار أو أزِمَّة المهار[3]، ولكن لا تسحبوا من تحت أقدام إخوانكم كل بساط ، ولا تسلبوهم كل مزية ، واتركوا لهم خصوصية أدبهم وفنهم ، إن كان حالهم يسمح لهم بشيء منه . ذروا لهم كلمتهم ، ولا تتركوهم يجرّرون أقدامهم الحافية على القتاد ، ويمرغون أجسادهم العارية على الهَرَاس . ولو كان ثمة مجال للمقارنة لفعلت ، ولكن ليس بين المنتظرين حساب ، ولا بين مشاريع الشهادة تنافس . ولسنا ممن ينكؤون الجراح ، ولا ممن يمنون على الناس أن أسلموا ، بعد أن أكرمهم الله باختيارهم لهذه المحنة.

 صحيح أن محنة المسلمين المعاصرة قد بدأت منذ زمن ليس بالقريب ، وأن رحى هذه المحنة قد بدأت بالدوران على أرض الكنانة سنة 1954، بشكل لم يعهد من قبل ، ثم دارت ثانية سنة 1965 ثم سنة 1973 ولكن رحاها الثقيلة لم تنتقل إلى الشام إلا سنة 1980 ثم انتقلت أو نقلت إلى حيث يستدرج المؤمنون إلى المحرقة ، في كل مكان من أرض الله الواسعة ، بشكل مدروس محسوب ، وهذا يعني أن اعتقال الأخ الحسناوي شهرا كريتا ، لم يكن في زمن المحنة الكبرى ، حيث كان الاعتقال في شهر اعتقاله نوعا من النزهة ، إذا ما قورن بما أحدث القوم بعده .

وقد كانت المحنة في زمن الذين خلوا من قبلنا ، كما قال عنها الإمام ابن تيمية رحمه الله ( قتلي شهادة ، وسجني خلوة ، ونفيي سياحة ) أما الذين خلفـوا من بعدهم ، في عصرنا هذا ، فلم يترك الجلاد لهم من ذلك سوى الشهادة وأنعم بها من تركة ، وأكرم بها من إرث ؛ إذ كان بعضهم يستشهد في اليوم مئة مرة ولا يتلجلج ، ولم يترك الجلاد لأحدهم لحظة خلوة واحدة ، من ليل أو نهار، على مدى عشرين عاما أو يزيد ، وربما كُبَّ أحدهم على وجهه ، ثم سحب على محور السينات ثم العينات ثم الصادات ، ثم كبكب في هذا البقيع أو ذاك، من أرض الله الواسعة ، من قبل أن يتمكن من التقاط أنفاسه ليفكر أو يعبر، ومن غير أن يستطيع أن يرى ورقة ولا قلما ، ليقرأ أو ليكتب أو ليحسب.

ولكن المرء لن يعدم أن يجد في أرض الله التي ستظل واسعة بإذن الله ، مأوى يتفيأ ظلاله ، أو مهوى يقبع في زوايا ظلمته ، أو مثوى يغيبه لحده ورمسه ، مهما ضاقت الأرض على بعض أهلها بما رحبت ، أو دُخلت عليهم من أقطارها .

لقد ضمت السجون بين جدرانها المقرورة الحارقة لا فرق ، من عمل جاهدا حتى استنقذ من أقلام جلاديه ، ومن محاضر أحكام جلاوزته ، حكما عليه بالإعدام[4]، لقد أجبرهم على أن يحكموا عليه بالإعدام ، وما كادوا يفعلون ، وحين تأخر تنفيذ حكم الإعدام فيه عن موعده ، بكى حزَنا ألا يموت شهيدا ، وصار يدور على إخوانه واحدا واحدا ، يطلب منهم الدعاء له بأن يعجل الله في تنفيذ إعدامه ، ليس هربا من العذاب ، الذي كان يعود منه كل يوم متلذذا مبتسما ، ولو ترون إذ يتلمس جراحه الحارقة النازفة بسعادة ، كمن يلعق قطعة من الحلوى ، بل كمن حظي بأجر عظيم ، وهو مع ذلك يتألم لجراح إخوانه وكأنها جراحه هو ، وكان يقول لهم: لقد تأخر اللقاء ، لقد اشتقت إلى لقاء الله عز وجل ، والرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم ، وصحبه الغر الميامين ، والإخوة الذين سبقوني ، فادعوا الله أن يعجل لي بلقائهم ، وقدم رشوة لإخوانه بأن قال لهم : إن أول شيء سيفعله حين تخرج به سيارة ( البيك آب غاز ) من باب السجن الخارجي ، ويلقى النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه سيطلب منه أن يطلب من الله تعالى التخفيف عنهم ، قالوا له بل اطلب التفريج عنا ، فأبى أن يعدهم بأكثر من التخفيف ، لينالوا ثواب الصبر .

أتجدون مثل هذا في المنافي الإجبارية أو الاختيارية ، أو في أي مكان في العالم ؟. أيقارن هذا بشهر الأخ الأستاذ الحسناوي حفظه الله ، أو بسنوات أمثالنا من الفقراء إلى تقوى الله ، ممن لا يفرقون بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين ، وأتانا اليقين ؟!. ألا يقارن هذا بمن كانوا ينشرون بالمناشير من مفارق رؤوسهم إلى أخامص أقدامهم ، أو يمشطون بأمشاط الحديد ما بين جلودهم وعظامهم ، لا يفتنهم ذلك عن دينهم ؟.

إن تقديم كتابات الأخ الحسناوي وما يتاخمها ، على أنها تمثل الأدب الإسلامي أو الفكر الإسلامي أو الفن الإسلامي ، أمر قد يجد قبولا ، وإن شئتم قلت لا غبار عليه ولا مراء فيه ، على الرغم من عدم الاتفاق حتى اليوم ، على التعريف الجامع المانع للأدب الإسلامي[5]، أما تقديم ذلك على أنه يمثل أدب السجون ، هكذا بالتزكية ، من غير دراسة مقارنة وافية ، فهو تقزيم مريع لهذا الأدب ، الذي يتوقع له أن يكون بابا واسعا من أبواب الأدب الإسلامي ، وتهوين شديد من شأن الجهاد والأسـْـر والاستشهاد ، وعقوق كبير لكل من جاهد وأسر وعذب واستشهد ، وتقصير في حق الله والعقيدة ، وحق الأخوّة في الله والعقيدة ، وتهرب من أداء حقوق رسالة الإعلام والفن والأدب الإسلامي ، بله الإتقان في واجب البحث عن الحقيقة .

والأستاذ الحسناوي أولا وآخرا ، هو أخونا الكبير ، وهو على الرأس والعين ، ولكنني أربأ به أن يقبل أن يكون من الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، وأنا أشهد أنه فعل وفعل ، ولكنه يوافقني الرأي على أن هذه المقالة وضعته في غير ميدانه ، فهو أكبر من أن يقبل بلقب مجهول ، يتسنم به وحيدا سدة أدب لم يزل تحت الأرض ، ولم يخرج بعد إلى النور ، وهو أدب السجون ، هذا الأدب الذي لم يزل أبطاله في الغياهب المختلفة ، ويتوقع له أن يكون له شأن لو قيض الله له من يجاهدون في سبيل جمعه وتدوينه .

 فكثير من الشعر كان مبعثرا في بطون الكتب ، فجمعه أقوام في دواوين ومختارات ، وكثير من الشعراء كانت أشعارهم متناثرة هنا وهناك ، فصنع بعضهم لأصحابها دواوينهم ، كصنعة الأشتر لديوان دعبل مثلا ، فهل يعدم أدب السجون أن يجد مجاهدا في ميدان الأدب ، فيسعى إلى جمع رفات هذا الشعر من مقابره الجماعية ، تمهيدا لدراسته ووضعه في مكانه اللائق في مكتبة الأدب الإسلامي، وليتسنم سدته بعد ذلك الأستاذ الحسناوي أو السلامة أو حتى الأستاذ خالد السمان ، لا فرق . فإن علينا أن نتعالى في هذه الأوقات حتى عن روح التنافس ؛ لأنها مئنة التحاسد ، ومن زهد في التنافس فلن يجد حاسدا يحسده ، على الأديب المسلم أن يبدع ، وليرفعه الناس بعدها أو يضعوه ، وليشهره النقاد عندها أو يخملوه ؛ لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح..

إن طرح ما تقدم من أمثلة على أنه يمثل أدب السجون ، عدا عن كل ما تقدم ، فإنه مدعاة لفقدان المرء ثقته بهذا الذي نسميه ( الأدب الإسلامي ) جملة ، وفقدان هذا الأدب لمصداقيته وهيبته ، مهما عظم في أعيننا ، فقد ينزع الله منه الهيبة ، كما نزع من قلوب عدونا الهيبة منا ، وقد يقذف فيه الوهي ، كما قذف في قلوبنا الوهن.

لقد حفظنا عن الشهيد ( سيد قطب ) رحمه الله ، أن العقيدة تحيا بدماء أبنائها ، أفلا يكفي الأدب الإسلامي خارج السجون ، أنه يكتفي بالدموع إن وجدت ؟. لقد احترم الأسرى تلكم الدموع ، ولم يشككوا فيها قط ، ولم يقللوا من شأنها ، ولم يتهموا أصحابها بالتقصير، ولم يصفوا ولو بعضها بدموع القطط مثلا ، وكان باستطاعة أدباء السجون أن يصفوا أدباء المنفى بالمنهزمين ، وبالفرّار أيضا لو شاؤوا ، ولكنهم قوم يحترمون إخوانهم ، فاحترموا إخوانكم ، ولا تكونوا عونا للحدثان عليهم .

إن من الخطأ الفادح المساواة بين السجن والغربة ، حتى ولو كان السجن مجرد حجز للحرية ، مع التمتع بكل ميزات السجون المدنية في العالم ، الذي يدعى بالحر حينا وبالمتحضر أحيانا ؛ لأنه لا شيء يعدل الحرية سوى العقيدة ، ولأن وطن المسلم وجنسيته عقيدته ، أم هل تغيرت وتطورت هذه العقيدة أيضا ؟. فلا تسخروا من دماء إخوانكم ، ولا تهزؤوا بأنينهم المخنوق ، ولا تحرقوا قلوب أهلهم وذويهم ، ولا تجعلوا دموعهم مجرد مشجب ، يعلق عليه من يشاء ما يشاء ، بل لا تكونوا ، وإياكم أن تكونوا لبنة من لبنات تزوير التاريخ أمام شهود العيان ، بمثل هذه المقاربة المرفوضة ، والمقارنة المردودة ، مع التنبيه إلى أننا لا نزال جميعا مبحرين في سفينة واحدة ، وأن هذه السفينة هي سفينة المحنة لا زورق النجاة.

ربما يكون عذر الكاتب - وليس مقبولا - أنه لم يلتق سجينا خرج من سجنه قط ، إذ يجب عليه أن يبحث عنه بفدائية في كل مكان ، وربما كان عذره أنه لم يقرأ البوابة السوداء ، أو ما يمت إليها بسبب مما طارت به صفحات الشبكة العنكبوتية ، ولا ضرورة لذلك ؛ لأنه حتى لو قرأها فأين الخلي من الشجي؟. وهل راءٍ كمن سمعَ ؟.. إن السجن في حمّارة الحقد وصبارة اللؤم أمر يجل عن الوصف ، ويدق عن التعبير .

فابحثوا عن الطلقاء ، ابحثوا عن أصحاب المعاناة الحقيقيين ، لا تتقمصوا شخصية أحد منهم ، ولا يتكلمن أحد منكم بلسان أحد منهم ، دعوهم يروون لكم معاناتهم بأساليبهم ، ولو قصرت تعابيرهم عن مشاعرهم ، ثم حولوه أنتم إلى بيانكم العالي ، وأسلوبكم الراقي ، وأنا زعيم لكم بأن بلاغتكم ستقصر عن فهاهته ، وفصاحتكم ستنزل عن حبسته وعيه ؛ لأنه إذا عجز صاحب المعاناة نفسه عن تصوير ما عاناه أو يعانيه ، فكيف يتقمص ذلك من اكتفى بالسماع به ، من غير رؤية ولا تجربة ولا معاناة ؟. ومع كل ذلك ، فقد يأتي يوم تعد فيه الكتابة عن أدب السجون ، ودراسته ونقده ن من أدب السجون أيضا .

لقد كانت الروح الجهادية لبعض الإخوة الإعلاميين ، فوق ما فعل ويفعل الأدب الإسلامي بكثير . أرأيتم إلى الشهيد طارق أيوب رحمه الله ، أين كانت تتطاير نظراته قبل استشهاده بدقائق؟. ألم تروا نظراته الزائغة ، وعيونه التي كانت تدور في محاجرها ، وهل رأيتم قلبه وقد بلغ حنجرته ؟. ألم تقرؤوا في وجهه الشريف ، أنه كان يستعد لاستقبال ملك الموت ، وكأنه ينظر إليه قادما ليتلقى روحه بألطاف الله ، وأنه كان يتنفس أنسام الجنة ، ويفتح قلبه لعبير الشهادة؟. إن من لم ير ذلك ولم يشعر به ، لا يستطيع أن يكون أديبا إسلاميا ، ولا يستطيع أن يقدم أدبا إسلاميا ، بله أن يمثل أدب السجون ، إن خير ما يمثل أدب السجون ، هو دموع المراسل والمذيع الذي نعاه ونقل خبر استشهاده.

وإن كان السجناء ليعيشون حالة الشهيد طارق أيوب طول سجنهم ، فمنهم من قضى في أتونه شهرا ، ومنهم من قضى تنوره عاما ، ومنهم من قضى محرقته عقدا أو عقدين ، ومنهم من قضى نحبه وهو على ذلك ، لم يغير ولم يبدل ، أفيقارن هذا بسجن شهر؟. مع أننا نحترم هذا الشهر لصاحبه ، ونجعله له جهادا ، ونرجو الله أن يثيبه عليه؟..

إن في السجون لأدبا أي أدب ، وإن معادلة النفي بالسجن ، تعني أنه لم يأتكم من أدب السجون لا أقله ولا أدله ، ولو جاءكم وافرا لجاءكم أدب وفكر غزير[6] . ولو كنتم تعلمون مقدار الخسارة التي سيمنى بها الأدب الإسلامي خاصة ، والفكر الإسلامي عامة ، بضياع أدب السجون ، لقاتلتم بأظافركم وأسنانكم للحصول عليه أو على بعضه ، فليحرص كل كاتب على البحث عنه ، والوصول إلى مظانه ، والحصول عليه وتوثيقه ، بدلا من هذه المقاربات المثيرة للحفيظة ، والادعاءات المورثة للحسرة ؛ فهذا الأدب هو الوثيقة الحقيقية الوحيدة الباقية للتاريخ ، من حياة هذا التاريخ .

أنا أعلم أنكم – معشر الكتاب والدارسين وأنا منكم ومعكم –  لا تجرؤون على الوصول إلى معتقلي غوانتانامو ، ولا تثريب عليكم في ذلك ، ولكنكم إن لم تصلوا إلى معتقلي ليمان طره أو أسرى تدمر ، فلن تكونوا قادرين على أن تصلوا إلى سواهما ، من خلوات الأبرار وزوايا الأصفياء ، في أي مكان من أرض الله ، ولن تستطيعوا أن توثقوا لأي معتقل أو سجين.. وإذا لم تفعلوا ذلك اليوم ، فأظن الوقت المتبقي لضياع هذه الفرائد ، من الوثائق التاريخية والوجدانية ، لن يكون طويلا .

إنني لا أغمط أحدا حقه ، ولا أنفسه مكانته ، ذكر في أدب السجون وأدبائها أم لم يذكر ؛ لأنه إذا تفاخرت الرجال ، فليس الشعر والأدب مما يتنافس فيه المتنافسون ، ولذلك فلا يضير أحدنا أن يدعى فلان بالمجاهد الكبير ، أو ينعت علان بالأخ المجاهد ، أو ما يماثل ذلك من تخوم الألقاب ، ولو لم يكن له من الجهاد إلا النجاء برأس طمرة ولجام ، بل برأس طمرة فقط ، فقد ترك القوم اللجم بلا خيل ولا سرج ، وتركوا هذه التركة المثقلة ، والمهمة الثقيلة على كاهل الإخوة الصغار ، الذين لم يزالوا يرتضعون لبان العقيدة وكأن قد ، ففطمتهم اللجم على الأعواد لا على المهار .

وإذا لم أغمط الغرباء حقوقهم ، فلا يحل لأحد أن تضيّع حقوق ذوي الحقوق ، الذين لم يستطع الكاتب الإحاطة بهم ، ولن يستطيع ، فلجأ إلى أهون السبل ، واكتفى بالأخ الحسناوي مثلا ونعم المثل ، وكتب مقالة على هذا المستوى الراقي من النوايا الحسنة ، وعلى هذا المستوى المتواضع من الجهد ، ومن القعود عن تتبع أبطال الحدث وشخوص الرواية ، وحتى من التغطية الإعلامية ، فاستعجل القطاف قبل الأوان ، ونسب فضل الذين يجهلهم إلى بعض من يعرفهم ، ومن البدهيات أن الجهل بالشيء لا ينفي وجوده .

إن مقالة بهذا العنوان الكيبر ، تقتضي أن تمثل أدب السجون حقا ، ولكنها لم تمثل حتى أدب المغترب ؛ لأنها اقتصرت على الأخ الحسناوي وحده ، وبعض تعليقات الأخ عبدالله عيسى السلامة ، ولم يبق إلا الأستاذ عبد القادر حداد ، ثالث الأثافي ، فلم تتحدث المقالة عن نماذج مختلفة ، لأدباء يمثلون الحركة الأدبية  الإسلامية ، ولو من قبيل المثال .

إن هذه الطريقة في التأليف ، التي تقوم على الاستسهال ، واختيار الموضوعات التي لا جهد في كتابتها ولا إبداع ، وإن كانت تملأ المجلات والصحف والمكتبات بما هب ودب ، إلا أنها لا تبني أدبا خالدا ، ولا يجوز  للأدب الإسلامي أن يقوم عليها ، ولا يليق به أن يعتمدها أسلوبا من أساليبه أو فنا من فنونه البتة .

وأخيرا: فأنا حزين .. حزين جدا ، ولكنني نزفت الدموع ، فلم تبق لي دموع فاعذروني ، وسددوا وقاربوا . وزنوا أقوالكم قبل أن توزن لكم .. وعلى الله قصد السبيل ..

         

الهوامش:

[1] - أقصد المجلة الدمشقية الإسلامية الأولى ( حضارة الإسلام )

[2] - أرجو ألا يلومني الأستاذ السمان ؛ فأنا لا أعرفه شخصيا ، وإنما أنا في شأن من شؤون النقد الأدبي ، وهو مما يتناول الأفكار والألفاظ ، ولا علاقة له بالأشخاص إلا علاقة التوقير والاحترام ، وحفظ الألقاب .

[3] - الخلوات: السجون ، والأزمة حبال الإعدام ، لأن حبل الإعدام قطعة كزمام الجواد، والمقصود من يفلت من السجون أو الإعدام ...

[4] - هو الأخ الشهيد: زكي قضماوي بالضاد أو بالطاء، لست متأكدا من نطق هذا الحرف، وهو من حلب وكنيته ( أبو عماد ) وقد ارتقى مقامات الغرام مع الأخ حسن معروف الكردي ( أبو معروف ) وهو من حلب أيضا ، ولا أذكر التاريخ ولعله في أواخر 1984 أو أوائل 1985.

[5] - كنت أظنني نمت وأدلج الناس، واتفقوا على تعريف الأدب الإسلامي في غفلة مني ، فإذا بالسيد ( رائد فؤاد طالب الرديني ) ينشر مقالة على موقع الرابطة بعنوان (الشعر الإسلامي في العراق ) و يؤكد أن مصطلح الأدب الإسلامي لا يزال يكتنفه شيء من الضبابية . ولكن مفاجأة السيد رائد الرديني أنه اختار شواهد للشعر الإسلامي العراقي من شعر بدر شاكر السياب، فمن أين الإسلامية للسياب ؟

[6] - العبارة محورة عن عبارة قالها أبو عمرو بن العلاء في الأدب الجاهلي..