ليشهدوا منافع لهم...

د.محمد أديب صالح

ليشهدوا منافع لهم...

د.محمد أديب صالح

من هناك.. وفي ظل أول بيت وضع للناس مباركاً وهدىً للعالمين.. تشرق على قلب المؤمن نفحات هي العبير الزلال وأطيب.. وتطلع على نفسه ذكريات هي الضياء في ظلمة الليل البهيم..

من هناك.. من القلوب الخاشعة.. والدموع المرسلة.. والأكف الضارعة..

من هناك.. حيث الأوزار تلقى.. والآثام تعفي عليها التوبة النصوح.. تنادي المؤمن ساعات إيمانه.. وتصرخ به خفقات قلبه فيصحو من الغفلة.. ويستأنف طريق الحياة الذي يبدأ بالامتثال لأمر الله، وينتهي بجنة عرضها السموات والأرض.

وحين نقول ذلك لا نريد أن يكون هذا المؤمن في ميزاننا فرداً مبتوراً عن الجماعة.. فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.. ولكن نريده اللبنة الصالحة لبناء الجماعة.. فالفرد الذي انقطع قلبه عن الصلة بالله عز وجل.. وضربت بينه وبين نفحات الله السدود والقيود.. وغشيت نفسه غشاوة القسوة والجفاء.. هو فرد لا يصلح به أمر الجماعة.. ولا تفيد منه الأمة في حاضرها أو مستقبلها.

إن الأحداث الجسام التي ألقت عصا التسيار على أرضنا.. حمَّلت هذا الجيل مزيداً من المسؤوليات، ومزيداً من الواجبات.. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا مكان في هذه الساحة التي تنتظر الرجال، لأولي العبث وعبيد الشهوات.

فحين نذكر البيت الحرام وما فيه.. ونذكر الحج وشعائره.. ونذكر كل أرض يقال على ساحها لبيك اللهم لبيك.. فإنما نضع في حسباننا أن هذا كله خير في ميزان القيم.. وضياء على جنبات الطريق للفرد والجماعة.

والذين يحسبون أن العبادة في الإسلام هي أمر بين المخلوق والخالق.. وكفى.. على المعنى الكنسي، إنما يفترون على الإسلام ما هو منه براء..

إن العبادة في الإسلام – ومنها الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام – لها كل المساس بشأن الجماعة.. فالعبادة، وهي أمر مشروع خاطب به الشارع عباده، تُعِدُّ الفرد إعداداً صحيحاً، وتؤهله تأهيلاً متكاملاً – أن لو وعى – لحمل العبء الذي أنيط به، بوصفه مسلماً يقوم دينه على أسمى معاني الإنسانية والحق والخير.

ولقد يرى المؤمن شيئاً من ذلك فيما أشار إليه القرآن بمعرض الحديث عن أركان الإسلام من العبادات.

ففي شأن الصلاة، قال سبحانه:

"وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"

وجعل من الصيام بريداً مباركاً للتقوى فقال:

"يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"

ورتب على الزكاة والتطهير والتزكية – على سعة هذين المعنيين – فقال:

"خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"

وفي آية افتراض الحج قدم الحديث عن البيت الحرام، فهو مبارك ومصدر هداية وأمان، وذلك قوله سبحانه:

"إن أول بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً. ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً"

وتأكيداً على عظمة هذه الفريضة وما لها من أثر في حياة الفرد والجماعة قال:

"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين".

وفي آية أخرى، في معرض الحديث عن أذان إبراهيم بالحج، أشار القرآن إلى بعض الحكم التي تترتب على هذه العبادة، فقال جلّ وعلا:

"ليشهدوا منافع لهم".

وفي حديثنا عن الحج.. تستوقفنا هذه الكلمات الثلاث، فما من شك في أن مدلول المنافع أوسع من أن تحد بحد قريب نقصرها عليه.

ومنذا الذي وهبه الله استنارة البصيرة ولايرى أن من المنافع أن ترتحل من دارك وبيتك لتؤدي هذه الفريضة..

بل منذا الذي ذاق شيئاً من حلاوة الإيمان ولا يرى أن المنافع الغالية: أن تأتي بتلك الشعائر الكريمة، من إحرام وتلبية وطواف وسعي ووقوف بعرفة ومبيت بمزدلفة ورمي للجمار، وما إلى ذلك من أصناف الخير في مكة وما حولها.. ثم أن تسعد بزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلم عليه وعلى صاحبيه.

إن في ذلك كله منافع وزيادة، بل يمكن القول بأن الأصل الأصيل في هذا، كونه جل وعلا أمر برفع القواعد لبيت نسبه إلى نفسه، وجعله مهوى أفئدة المؤمنين.. أليس من الفضل أن تحمل إلى الحبيب فتطوف حول بيته.. ومولاك الخالق الحكيم لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار. وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، ويا نعمت المنفعة أن تغسل بدموعك أوزار المعاصي.. وتفتح بتلبيتك أبواب الرحمة والغفران.. وأن تقع دعواتك موقع القبول.. فتنالك نفحة من نفحات الرضا.. وتؤوب إلى أهلك وقد شملتك العناية وفزت بالقبول..

هذا قليل من كثير نذكره حين نقرأ قول الله تعالى: "ليشهدوا منافع لهم".

غير أننا – والأحداث تنوشنا من كل جانب، والساعات العصيبة في أيامنا ظلمات بعضها فوق بعض – واجب علينا شهود منافع أخرى في هذا المؤتمر الإلهي الكريم، فبجانب ما ذكرنا، وهو الحق لا مرية فيه، لا بد أن نتلمس مرضاة الله بأن يكون لنا من موسم الحج منطلق جديد يدفع بنا إلى حيث نغسل العار، ونعيد الحق إلى نصابه من جديد. وذلك – وايم الله – منفعة تفرض توفرها العقيدة، وتوجبها كرامة الأمة والتاريخ..

إن هؤلاء الوافدين إلى بيت الله مسؤولون – كُّل بقدر وسائله – عن عمل جاد مثمر يلم الشعث، ويمهد سبيل القوة، ويزيل الركام من الطريق.

ولنذكر أن رمال الجزيرة التي شهدت انطلاق أمتنا في تحرير الإنسانية من أغلالها.. وشهدت في خلافة عمر خروج آخر يهودي من أرضها، هي التي تشهد اليوم ما نحن فيه من أوضاع يبكي لها الحجر الأصم.

وإن تعجب فعجب أن نعدم الانفعال الحقيقي مع شعائر هذا الدين، حتى تكون نسبتها إلى الوقت والمكان ألصق من نسبتنا إليها,

إن أرض التنزيل التي حمي فيها الوحي ثلاثة وعشرين عاماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطت الدنيا ما حفل به تاريخ الإنسانية من العظمة والخير، قادرة اليوم، في ظل الشعائر المباركة، أن تمد المسلمين بما ينفض عن كواهلهم غبار العنت، ويحرك قلوبهم بدوافع الإيمان والعزيمة.

وإذا هدوا إلى ذلك، فلسوف يكونون قادرين- بجانب الإعداد الجاد الحازم – على تصنيف قضاياهم مع الأعداء وفيما بينهم، تصنيفاً واعياً، يبصرون من خلاله المقدمات التي أدت إلى هذه النتائج، ويقدمون الأهم على المهم، ويضعون أصابعهم على مكمن الداء الذي بدأ ينخز في جسم الأمة.

وهذا التصنيف الذي نشير إليه يهدي إلى الحقيقة التي لابد من مضغها – على ما تحمل من مرارة – وهي أن الأعداء قبل أن يغتصبوا الأرض كانوا لصوصاً ماهرين في سرقة القلوب والأدمغة، وقبل أن يعتدوا على مقدساتنا وأرضنا، حاولوا أن يشككونا بالمبادئ التي من خلالها كانت المقدسات مقدسات، وكانت الأرض موضع المحافظة والتقدير، فمن عدوان على اللغة.. إلى عدوان على مبادئ الإسلام.. إلى عبث فكري يقلب حقائق الفتوح ومعاني الجهاد.. من أجل أن تصبح أفئدة الأجيال هواء من الهواء، وحياتها عبثاً في عبث، وفكرها مجموعة من الكفر بالماضي وتطلع إلى ما في يد الأعداء..

وإذا كانت مشيئة الله قد قضت بأن تترتب الأسباب على المسببات، وأن ترتبط المقدمات بالنتائج، فكما حصدنا الصاب والعلقم ثمرة لما جنيناه وجنته بعض الأجيال في الماضي، فإن رحمة الله قريب منا، وعنايته معنا، إن نحن استأنفنا الطريق، وحاولنا صادقين أن نفيد من كل شيء في سبيل قضايانا الكبرى في هذا العصر الذي يبدو – وفي مقدمات خصائصه – استخدام العلم في سبيل العنصرية والعدوان على كرامة الإنسان. ولا تسل عن التمالؤ والتعاون والتآمر على محاربة المسلم من بني الإنسان.!!

ومن يدري.. لعل ساعة من ساعات الصدق لمتعلق بأستار الكعبة، أو ساع بين الصفا والمروة، تخالط دمعه زفرات الأسى، ويضطرب قلبه على بيت المقدس من خفقات التوبة والمناجاة.. يكون وراءها ما وراءها ومن يدري لعل ساعة من ساعات كرم الله وعنايته تشمل هؤلاء الوافدين إلى بيته، المتجردين لعبوديته يكون لها مالها...

والمهم قبل كل شيء، أن تعزم القلوب، وتصدق النيات، ويتوفر لنا الإحساس الذي نشعر معه بمعنى الكارثة، وموقعها على طريق أمتنا في قضاياها ومشاكلها.. كيما تجتمع النفوس على الاعتصام بحبل الله، وتُجند كل القوى امتثالاً لأمر الله في الإعداد والاستعداد.. إيماناً وفكراً.. وتنظيماً.. وتصميماً.

ولقد أًصبح الواجب آكد من أن نقابله بالبرود وعدم الاهتمام.. وليذكر العابثون أن الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء..

فيا أيها الوافدون إلى بيت الله الحرام.. اذكروا ثالث الحُرُم

ويا أيها الذين يشدون الرحال إلى مسجد سيد العالمين صلوات الله عليه.. اذكروا المسجد الأقصى..

اذكروه عندما تدعون رب الكعبة التي جعلها الله مثابة للناس وأمناً.

واذكروه عندما تجأرون في كل واد وعلى كل جبل "لبيك اللهم لبيك".

واذكروه عند كل أرض تسكب فيها العبرات،

وعند كل مكان تخفق فيه القلوب،

وفي كل موضع ترتفع فيه الأكف ضارعة إلى السماء.

اذكروا، وأنتم في تلبيتكم، وطوافكم، وخشوعكم، وسعيكم ووقوفكم بعرفة، أرض المغفرة والرحمات، أننا بالأمس القريب كنا نطوف حول البيت.. وثالث الحرم لنا.. بأيدينا.. واليوم يطوف مئات الألوف من المسلمين.. وبيت المقدس تحت سلطان يهود..

ونقف بعرفة ومصلى رسول الله بالأنبياء في قبضة الأذلة الخاسئين. فإلى أي درك من مهاوي الصغار والمهانة وصلت الحال بهذه الأمة حتى باتت القدس وما حولها مرتعاً لأولئك الأناسي الذين لو صور القبح مخلوقاً لما تعداهم!

ألا إن وعد الله لا يتخلف.. وسننه في الكون ماضية لن تجد لها تحويلاً ولا تبديلاً..

ألا وإن وعده بالنصر والتمكين والاستخلاف للمؤمنين الصادقين المستضعفين قائم ما قامت السموات والأرض، شريطة أن يكونوا على المنهج الذي رسم،

وعلى الطريق الذي أوضح لهم معالمها..

فعسى أن نبرهن من خلال الاغتصاب والعدوان،

وظلام المآسي والنكسات،

وغبار التنكيل والتعذيب،

وشدة الكرب في قلب الحقائق والأذى والتشريد..

ولصوصية الفكر قبل لصوصية الأرض..

عسى أن نبرهن من خلال ذلك كله.. منطلقين من روح الحج مؤتمر الحق والعبودية لله - أننا ما نزال جديرين بأن يتحقق فينا من جديد قول الله القادر القاهر:

"وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون".