من يتذكر غزّة
عبد العزيز كحيل
[email protected]
توقّف العدوان على غزّة فخرست الألسن وتوقّفت المسيرات والاعتصامات، وشيئاً فشيئاً
أطبق السكون ونسيت القضية وكأن غزة قد تحرّرت رغم أن الأوضاع هناك لم يتغيّر منها
قليل ولا كثير ما عدا توقّف القصف الصهيوني، لقد صاحب العدوان تدفّق مشاعر المسلمين
في كل أصقاع الأرض في هبة إيمانية قويّة كنا ننتظر أن تتحوّل إلى أفكار بنّاءة
وبرامج ميدانية لإغاثة غزّة وكسر الحصار عنها لكن ذلك لم يحدث، وسجل النظام الرسمي
العربي مرّة أخرى تخاذله المعهود ومحت قمة الدوحة الثانية خطوط الإفاقة الّتي
لاحظناها في قمّتها الأولى، ورجعت السلطة الفلسطينية إلى استجداء إحياء المحادثات
مع الكيان الصهيوني بحكومته الجديدة، ولم يكن للجامعة العربيّة ومنظمة المؤتمر
الإسلامي أي حضور ميداني في غزة ولا فعل يذكر، وبقيت المبادرات كالعادة في يد
الغربيين والمسلمين ذوي الجنسيات الغربية فغامروا وقادوا قوافل الإغاثة وعملوا ما
استطاعوا لكسر الحصار والالتحام بالفلسطينيين المسجونين في القطاع، أما الفعاليات
العربية فقد تولت الأنظمة الّتي تحرس الدولة العبريّة الغاضبة كسر شوكتها وحالت
بينها وبين الوصول إلى غزّة، فلم يفلح لا البرلمانيون العرب ولا الفعاليات الشعبيّة
في كسر الطوق عن القطاع، ولئن نجا النائب وليد الطباطبائي الّذي دخله سرّاً فإن
الحظ لم يحالف الصحفي مجدي حسين وكلفته جرأته عامين سجناً، وكم من قوافل عربية عادت
أدراجها وعانت من التضييقات والإستفزازات... لتبقى غزّة كما كانت بلا طعام ولا وقود
ولا دواء فضلاً عن إعادة الإعمار الّتي أصبحت قضيّة سياسية يراد منها كسر شوكة حماس
الّتي لم تنل منها آلة الحرب الصهيونية كما كانت تتمنّى أنظمة عربية غير قليلة وفي
مقدّمتها سلطة رام اله.
إنّه لم يتغيّر شيء في غزّة... مازالت سجناً كبيراً يتلازم فيه الفقير والمرض
والمرارة من مواقف "الأشقاء العرب" الّذين غاظهم صمود القطاع وبقاء حماس قويّةً
متماسكةً قد زادت شعبيّتها وثبتت أهليّتها للقيادة، وزاد الأمر سوءًا أن العرب
والمسلمين يكادون يفوتون الفرصة لملاحقة القادة الصهاينة لارتكابهم جرائم حرب
وجرائم ضدّ الإنسانيّة، فتحرّكهم الرسميّ ضعيف هزيل، ولا غرابة في ذلك فهؤلاء
القادة متخندقون مع اليهود ضدّ "الإرهاب" و"التطرّف" و"الظلاميّة" أي ضدّ حماس
والإخوان المسلمين و"الإسلام السياسي" فكيف يتحرّكون ضد أندادهم بل أسيادهم؟ أما
معاناة أهل غزّة وموت مرضاها يوميّاً بسبب إغلاق المعابر وندرة العلاج، وأما عيش
المشردين في العراء من دون مقوّمات الحياة فهو عقاب لهؤلاء الّذين احتضنوا حماس ولم
يغتنموا فرصة الحرب للإجهاز عليها والتخلّص منها كما كان ينتظر المنهزمون.
وهاهم الغربيون _ مرّة أخرى _ هم الّذين يتحرّكون لتوثيق الجرائم الصهيونيّة وإقامة
الدعاوي وتحسيس الرأي العام العالمي.
فمن يتذكّر غزّة؟ هل يجب انتظار عدوان آخر لنلتفت إليها؟ كنّا نأمل أن تأذن مأساة
غزّة بتحرّك إسلامي وعربيّ فعّال ولو كان قليلاً وبطيئاً وذلك على المستوى الشعبي
لاحتضان قضيّة غزّة والقضيّة الفلسطينيّة ضمن خطة طويلة المدى تتجاوز السلطات
المتخاذلة والسياسات الانهزامية يتولّى شأنها طوائف من أبناء الأمّة كل على مستواه
حتّى تؤتي ثمارها في مجالات متعدّدة تتوحّد في خدمة غزّة وفلسطين والمقاومة، ولعلّ
المبادرات الآتيّة نماذج ممّا يمكن عمله:
1.
فتح مواقع على الانترنت أو نوافذ دائمة في مواقع موجودة تكتب حول القضيّة وتتقصّى
الحقائق وتفضح العدو وأعوانه والمتواطئين معه.
2.
تخصيص صفحات يوميّة أو أسبوعية في الجرائد والصحف الموالية لقضايانا الإسلاميّة
والقومية تخدم الأغراض نفسها.
3.
تخصيص أئمة المساجد دروساً دوريّةً ثابتةً حول القضيّة وعدم الاكتفاء بالمواعظ
الموسمية رغم ضرورتها.
4.
تخصيص القنوات الملتزمة حصصاً ثابتةً عاليّة الجودة للغرض نفسه.
5.
تنظيم الجمعيات والهيئات الإسلامية لندوات غير منقطعة وملتقيات علميّة وجماهيرية
ومحاضرات وإنجاز دراسات تاريخيّة حول القضيّة بكل جوانبها.
6.
اقتحام المواقع والجرائد الغربية من طرف من يحسنون اللغات الأجنبيّة لشرح القضيّة
الفلسطينيّة للرأي العام الأوربي والأمريكي الواقع تحت قصف الدعاية الصهيونية،
وكذلك لفضح الوحشيّة اليهوديّة سنة 1948 وخاصّة استهداف الأطفال والنساء والمدارس
والمساجد ونحوها لما لها من حساسيّة كبرى عند الغربيّين وتأثير واسع عليهم.
7.
على الفنّانين والمبدعين إنتاج فيديوهات خاصّة بالقضية الفلسطينيّة تتّسم بالجدّيّة
والتعبير وتتغنّى بالقدس والأقصى وغزّة والضفة وحماس والمقاومة والصمود، وللصورة
المعبّرة وقع خاص كما لا يخفى.و لا بدّ هنا من الإشادة بالمنشدين الذين تسابقوا في
التفاعل مع غزة الجريحة المظلومة المستبسلة فألهبوا المشاعر وحركوا العواطف، وهذا
له دوره في خدمة القضيية.
8.
شحذ همم المنتجين والمخرجين لإنجاز أفلام قصيرة وأفلام وثائقيّة عن الحياة في غزّة
في جميع المجالات الأمنيّة والمعيشيّة والتربويّة والصحّيّة وغيرها لإبراز معاناة
الفلسطينيّين من جهة وتحدّيهم الرائع للواقع والتفافهم حول الحكومة الشرعيّة
والمقاومة.
9.
على الأدباء والشعراء والكتّاب أن يكثّفوا من الإنتاج الفكريّ والثقافيّ يكون محوره
غزّة والمقاومة والصمود والحرب الصهيونيّة على القطاع.
10.
ابتكار طرق وآليّات لإمداد غزّة بالمال بشكل منتظم لتخطّي العراقيل الّتي يضعها
الاحتلال وأعوانه العرب.
إن هذا هو الجهاد بحق وهو أقلّ ما يمكن فعله من أجل غزّة الصامدة، وهو متاح لكلّ
عربيّ ومسلم غيور على دينه وأمّته ومشروعه التحريريّ، ولا تغني عواطفنا الجياشة
شيئاً إلاّ إذا حوّلناها إلى أفكار وحوّلنا هذه الأفكار إلى مشاريع.
ويلاحظ من كلّ ما سبق أنّي أستبعد النظام الرسميّ العربيّ من أيّ مجهود من أجل غزّة
وفلسطين، وهل مصائب غزّة وفلسطين إلاّ من هذا النظام المتخاذل المستسلم المتآمر على
المقاومة؟ لهذا أظنّ أنّ إقحام الأنظمة العربيّة _ إلاّ قليلاً جدّاً منها _ في
تبنّي هذا الهم هو بمثابة انتحار محقّق، ومن الخير لنا الابتعاد عن هؤلاء الحكّام
والتأصيل للعمل الشعبيّ المنظّم المتحرّر من الضغوط الحكوميّة والخارجيّة على
السواء.
"والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".