على رصيف في شارع عربي (9)

د. عامر أبو سلامة

على رصيف في شارع عربي (9)

د. عامر أبو سلامة

يأخذ الرصيف طولاً وعرضاً، يضع كفيه على جبينه، ينزل بهما إلى مؤخر رأسه، بتشنج وعصبية، نفخ عدة نفخات ثقال، استند إلى بقايا جدار.....يتأمل بعض ما بقي من جمال،  يجيل بنظره، كأنه كاميرا مصور محترف، يبحث عن منظر أخاذ، أو مشهد أنيس، أو شكل لافت، أو مشهد ساحر، أو لوحة فاتنة، أو لقطة ربما كانت نادرة معرض من المعارض، فينال بها جائزة عالمية، وهو يعلم أنه لا مفارقة بين جمال المشهد، وحقيقة الألم الذي يحكيه، ولا تناقض بين حزن الصورة، ومعاناة صاحبها، وبين الإبداع الفني وألقه، وواقع المشهد وألمه، وما أسهل الحرب على المتفرجين، وهؤلاء على وزن، ( الراقصون على الجراح).

والأيام أثبتت، أن جائزة عالمية منحت، لرسام أبدعت ريشته، رصد بكاء طفل، منظره مؤثر، لكن اللوحة جعلته في مصاف الرسامين العالميين، وآخر صور مدينة البؤس، بعد خرابها ، في إثر حرب عالمية ، جعلته صانع حياة، ومجدد فن، وكبير مصورين، وحصد جوائز، وكتبت عنه مقالات، وربما ألفت فيه كتب، والله لا أدري..... لا عجب، فمصائب قوم عند قوم فوائد.

***********************

 ينظر إلى مدينته الحالمة بحسرة، لعل عينه تقع على ما يسر الناظر،  ويجبر الخاطر، ويبهج النفس، ويعيد الأمل، لمدينة أصبحت بلون آخر، وطعم ثان، ورائحة مختلفة، وشكل مزور، وصورة محترقة...

وهو يحدث نفسه: ماذا دهاك يا مدينتي الجميلة؟ ما الذي جرى؟ من هذا الذي صفع وجهك الطفولي البريء؟ حتى أصبح شاحباً هكذا!!! لعن الله من أطفأ شمعتك الوضاءة البهية........... من قطع ورود أشجارك الغناء، وأحرق بساتينك الفيحاء؟ أين ضجيجك!!! الآسر؟ أين أصوات العصافير، من كل جنس؟ حيث كنا نطرب لسماعها، ألا تردين؟ هلاّ أجبتيني وأرحتيني!!! من فعل بك هكذا؟ من قطف خيرك، والتهم فضلك؟ من بدل لغتك الجميلة؟ من شوه منظرك البراق اللامع؟ أين ترانيم أطفالك، وأغانيهم التي تنعش النفس، وتطبع في الذاكرة بصمة العودة لها حنيناً، في كل ذكرى؟

 من ارتكب هذه الجريمة بحقك؟ من عدو الحياة هذا؟ من عاشق الدم الذي أراقوه أنهاراً بأزقتك القديمة، وحاراتك الجديدة، وهدم تراثك التالد، التي نشتم منه عبق التاريخ، وأصالة الماضي، وروعة الحاضر؟

قولي لي، بكل صراحة، وأنت حبيبتي، ودفء فؤادي، ولذة عاطفتي، في جنوح الفراق، وغزل البوح، وبسمة الوعد الزكي: - من أخرسك، وكنت تختالين ضاحكة، في كل المواسم، وتلبسين أثواب المجد، في جميع أشكال الحواسم، وربيع الدنيا عندك، يوم تصرخين ( الشعب يريد إسقاط النظام).

هذا كل ذنبك!!! مصيبتك أنك أعلنت عن مفاتنك، التي قد امتلأت بكنوز الحسن، وطوابير البواسم، وصارت أغنية، قيس وليلى، و( ممو زين) تشدو بها الأجيال،    ( الموت ولا المذلة) رغم خيانة، من سطر بعض قصصك، بدمع العين، أكثر من مداد القلم، لكن ثورتك، وحبك، كان معلناً، بكل تفاصيله، وانسحاباته كافة، الثورة ثورة شعب.

يا الله.....يا الله......هل هذا الذي أرى هو بلدي؟

ما لي أرى الأسواق غير الأسواق، والشوارع مقفرة، والقناديل مطفأة، هل تفعل الأيام ببعدها، بتقادم الأيام فيها، بنزول الهموم عليها، ببراميل الإجرام، بقصف الطائرات، وإطلاق المدافع قذائفه المتفجرة، ما فعلت بك هكذا؟؟

***********************

يزداد قلقاً كلما حدق بالمشهد أكثر، وتتغير ملامح وجهه، وكأنه مصدوم بمشهد فيلم، من أفلام الرعب، المدروسة بفن عال، وإخراج مبدع، لصناعة الخوف، وزرع الرعب المنظم.

...........يعود من جديد يأخذ الرصيف طولاً وعرضاً، وقد عقد يديه ببعضهما، ووضعهما خلف ظهره.......وبعدها أخذ ينظر إلى ساعته، بطريقة غير مألوفة، وكأنه لم يعد يتعرف ملامحها، ولا عاد يفهم طريقة عملها، أو لم يميز بين عقرب وآخر، في مؤشرات الدلالة على المحدد المراد، أو أن الساعة ما عادت موضع ثقته بدقتها حيث كان يألف، ويعرف، صارت شيئاً آخر، فقدت صدقها، لم يعد لون الفسفور الذي يرصعها، الدال على حسنها، في ليالي الظلام الحالك، يبرق كأنه أمل قادم، في مفازة بعيدة عن نفسي، قريبة من بلدي، فلا أنيس، ولا جليس، ولا من يبلغ الخبر، أما هي لامعة، لم يؤثر على لمعانها، لوامع القمر، ولا بوارق ضوء سيارة، تؤشر من بعيد، على أنها قادمة، من زمن الجمال، وبقايا الخيام الممزقة، فهل من يخبر الخبر، ولو من باب قص الأثر......

يحدث نفسه: لماذا، هذا الدكتاتور المجرم، الذي يجثم على صدر شعبي، يفعل ببلدي هكذا؟؟!! ما دافعه لحرق الأخضر واليابس في وطني؟ لم دمر كل شيء؟ ما سبب هذه النقمة، من البشر والحجر والنبات والحيوان؟، ترى ماذا يخطط هذا العتل؟؟ هل يحب أن يعيش بين الونيم، حيث تربى هو وأبوه وأجداده؟؟ يتذكره لا يقدر عن الفكاك عنه، فالونيم لا يحصل، إلاّ إذا كان هناك عالم من ذباب، حيث المزابل، وقاذورات الشوارع، وبقايا مخلفات البشر، بكل أوصافها، حتى لو كانوا (شبيحة)، أو من بقايا التتار، أو سكارى آخر الليل......

هل له من سلف؟ نعم له على شاكلته، وصف ومنهج، وتاريخ مضى، حيث قتلوا الحجيج، ورموهم ببئر زمزم، وسرقوا الحجر الأسود.

ولكن يبقى المشهد اليوم، على يد الهالك المبير، لا مثيل له، في عالم الجرم، وله فيها براءة اختراع، فمجموع المشاهد الفاجرة، واختيار أفظع من ارتكبوا جرائم التاريخ، ربما يساويها، وفي دقة الوصف غلبها، على كبر ما فيها.

هل له وصيف في الحاضر وصنو؟ ربما في بعض مقاطع تجمع، ومشاهد ترقع، فيكون هو الغالب رغم الانتقاء والغربلة، واختيار الأبشع، ومن الظلم لمجرم سبق، أن يشبه بمجرم اليوم، الذي يحرق بلدي، من طرفها، إلى طرفها، بعدوانية، تشكل بكائية الألم الكبير، وعدوانية توصف سادية لا أظن أن أحداً مصاب بمثلها في عالمنا المعاصر، أو في الماضي الغابر، فياعلماء النفس، هل من يخبرنا عن هذه الحقيقة، ويشرح لنا أسبابها ودوافعها ونواتجها؟؟؟

أي أجندة يحمل هذا الشقي الهالك؟؟

السلام عليكم.

وقد أشرق وجهه، وذهبت كثير من تقاسيمه، التي سيطرت عليه، واختفت بعض ملامحه، التي شوهت وجهه النضر......فصار الوجه غير الوجه، وصارت كل قطعة من جسمه تحكي قصة فرحة – وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

ما لي أراك على غير طبعك؟

يا رجل!! صار لي ساعة أنتظرك، على أعصابي، حرقت دمي....لم هذا التأخر؟ وأنا أسمع صوت القذائف، وصوت الرشاشات، وانفجارات البراميل، وكل واحدة تجعل قلبي يسقط في كعبي.

هون عليك، سأحكي لك كل ما جرى، وما رأيت، وما شاهدت.

 (يتبع)