دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ 8-9

د. مصطفى يوسف اللداوي

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين "8"

الانهيارُ الكليُ للشرقِ الأوسطِ الجديدِ

لما كانت أفغانستان هي اللبنة الأولى في مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي أعلن عنه جورج بوش الابن، إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام ٢٠٠١، التي استغلها في تنفيذ مشاريعه، وتحقيق أحلامه، التي وصفها بأنها تعاليم ربانية وأوامر إلهية، على الرغم من أنها دموية وحشية، وعدوانية ظالمة، واستعمارية مدمرة، لا عدل فيها ولا مساواة، ولا إنصاف فيها ولا اتزان، حيث بدأ مشروعه الاستعماري الكبير بغزو أفغانستان، بعد أن شكل معه حلفاً دولياً من أكثر من خمسين دولة، وأعلن عزمه إسقاط حكم طالبان، وتفكيك القاعدة، واستئصال الإرهاب، وتصفية أعداء أمريكا، الذين وصفهم بمحور الشر، واعتبر من لا يقف معه أو لا يؤيده في محوره الجديد ولا يقاتل إلى جانبه، أنه جزءٌ من محور الشر ينبغي استهدافه ومحاصرته، ومحاكمته ومعاقبته.

كان غزو أفغانستان هو إشارة البدء في انطلاق مشروع الخراب ومسلسل العدوان، الذي أسس للفوضى ونثر بذور التطرف والإرهاب في كل أنحاء الدنيا، وهو المشروع الشيطاني الذي ما زلنا نعاني منه ونشكو من آثاره وتداعياته، وندفع الكثير بسبب نتائجه واستمراره، إذ لم يكن سوى عملاً أهوجاً وحروباً طائشة، وعدواناً مزاجياً وأحلاماً دموية، وقد تولى كبره وقاد مسيرته شياطينٌ كبارٌ ومردةٌ مجانين، تقدمهم جورج بوش الابن، ومعه رئيس الحكومة البريطانية الأسبق طوني بلير، وساعدهم الكثير من صغار الشياطين أمثال مادلين أولبرايت، ودونالد رامسفيلد، وكولون باول، وبول ولفويتس  وغيرهم.

تبع احتلال أفغانستان الكثير من الأحداث الدامية والحروب المأساوية، التي لا يمكن وصفها سوى أنها عبثية مجنونة، استهدفت الشعوب والبلاد، وخربت الأوطان وقوضت السلطات، ونهبت الخيرات وأهدرت المقدرات، وأدخلت المنطقة كلها في دوامة عنفٍ وصيرورة خرابٍ لم تنتهِ، ومنها إعطاء رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أرئيل شارون الضوء الأخضر لاجتياح المنطقة المصنفة "A" في الضفة الغربية وكل مدنها، وقد استغل شارون الضوء الأخضر الأمريكي والظروف الدولية السائدة، والتي وصفت حينها بأنها مواتية للكيان ومتناسبة معه، فواصل اعتداءاته على كل مساحة الضفة الغربية، واستهدف المباني والمؤسسات الحكومية، والمقار والمراكز الأمنية، واعتقل الآلاف من أبناء الضفة الغربية، واضعاً حداً نهائياً لتصنيفات وهم وسراب اتفاقية أوسلو.

لم يكتفِ شارون باستباحة الضفة الغربية ومدنها، بل أقدم على حصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مكتبه بمقر المقاطعة في مدينة رام الله، وعاثت دباباته وجرافاته خراباً وفساداً في محيط مكتب الرئيس عرفات، قبل أن يتخذ والمتعاونون معه قراراً بتسميمه وتصفيته، بعد أن تأكد له رفع الغطاء الدولي والعربي عنه، وقد تم ذلك كله بالتنسيق مع الرئيس الأمريكي جورج بوش، الذي سمح له بتقويض ما كان، والتأسيس لواقعٍ جديدٍ يقوم على القوة والخضوع، وينسجم مع مخططات الشرق الأوسط الجديد، الذي سينعم -وفق معتقداته- من توافق معه ولم يعترض عليه بالخيرات، وإلا فسيكون ملعوناً يرجم، وعدواً يقتل، وفي السياق نفسه والمرحلة ذاتها، أجهض بوش وشارون مبادرة السلام العربية، وأعلنا رفضها وأنها لم تعد تناسب الشرق الأوسط الجديد.

تابع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش جنونه، وواصل عدوانه، فغزا العراق ودمره، وخربه وقوضه، وفكك جيشه وحل مؤسساته، وزرع فيه الفتنة، وأسس فيه وحوله لحروبٍ طائفيةٍ ومذهبيةٍ لم تنتهِ فصولها بعد، ولم يبرأ العراقيون منها، ولم يشفوا من جروحها الغائرة ودماملها الخطيرة، وقد كان تدمير العراق شرطاً أساسياً في مشروعه، وجزءً مهماً من خطته، فالعراق تاريخياً كبيرٌ في مهمته، قويٌ في جيشه، قوميٌ في موقعه، صادقٌ في مواقفه، كما أن قدراته ضخمة، وثرواته هائلة، وطموحاته كبيرة، واستعداداته لخوض المعارك والانتصار في الحروب كبيرة، وهو ما كان يقلق الإسرائيليين ويخيفهم، ولهذا كان تدميره ممنهجاً، وتخريبه مقصوداً، وإشعال الفتنة المذهبية فيه ضرورياً، وإلا فإن العراق سينهض من كبوته سريعاً، وسيخرج من محنته معافىً، وسيعود إلى سابق مجده قوياً رائداً مقداماً.

واصل المخططون للشرق الأوسط الجديد مؤامراتهم، وعمدوا إلى توسيع دائرة خرابهم، فتوجهوا نحو سوريا فهددوها، ورئيسها فحذروه، وحدودها فاجتاحوها، وسيادتها فانتهكوها، واستعرض كولون باول أمامه متغطرساً قوة جيشه وسطوة بلاده، وعرض عليه الخضوع والامتثال، والتبعية والانقياد، والاستجابة إلى الشروط والقبول بالمعروض، والتخلي عن المقاومة وطرد قادتها، والتضييق عليها وعدم مساعدتها، وإلا فإن ما أصاب العراق سيصيبهم، وما حل بأهله سيحل بشعبها، والصورة اليوم على ما هدد خير شاهد، والدمار على ما قال أصدق عبرة، إلا أنه وجد من سوريا صدوداً، ومن قيادتها إعراضاً، وكان المخططون للدمار قد وضعوا سوريا كما العراق في مقدمة أهدافهم، وعلى سلم أولياتهم، وقرروا إضعاف البلدين وتفكيكهما، وحل جيشهما وتدميرهما، وخلق المشاكل والأزمات لهما، وإشغالهما بأنفسهما.

سقط الركن الأول، وإنهار الصرح الأكبر، وتزلزل البنيان غير المرصوص بفشل المشروع الأمريكي الغربي الإمبريالي في أفغانستان، وانسحب الغرب وخزي الأمريكان، فتبددت الأحلام وغارت الآمال وانتهت المخططات، ولم يعد وجود للمولود الميت المسمى الشرق أوسط الجديد مكانٌ، فهل تسقط كل الحجارة الأولىمن بعده، ويتوالى دومينو الانهيار بعد أفغانستان، فيكون الانسحاب المدوي من العراق، والفشل المهول في سوريا، وتكون الخاتمة عليهم وخيمة سخيمة، وعلينا طيبة سعيدة، فينهار المشروع الصهيوني وينتهي كيانهم ويتفكك، ولا يعود له وجودٌ ولا ضرورة، ولا وظيفة ولا منفعة، ويتخلصون منه ويبتعدون عنه، فهو الأكثر ضرراً والأسوأ كياناً، وهو أساس كل فتنة وسبب كل نكبة.

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين "9"

المقاوم صلبٌ عنيدٌ والمحتلُ مترددٌ ضعيفٌ 

أثبتت التجربة الأفغانية الجديدة لنا ولغيرنا، أن المحتل دائماً في مواجهة المقاوم الصلب العنيد، الثابت الذي لا يلين، الواثق الذي لا يخاف، القوي في الميدان، والمقاتل على الجبهة، والجاهز أبداً والمتحفز دوماً، مترددٌ ضعيفٌ، مهزوزٌ يرتعش، يتراجع أمام الصمود، ولا يقوى على الثبات، ولا يستطيع فرض الشروط أو الاعتراض عليها، والمفاوضات التي خاضتها طالبان مع الإدراة الأمريكية السابقة، تشهد على عنادهم الإيجابي، وصبرهم المجدي، وثباتهم العملي، وحكمتهم البعيدة، ورؤيتهم الرشيدة، كما تشهد على مرونتهم بلا ضعفٍ، وعلى مناورتهم بلا تنازلٍ، وعلى تعنتهم العاقل وإصرارهم الواعي، مما حقق أهدافهم، وأوصلهم بنجاحٍ إلى غاياتهم.

تعلمون أن الذي فاوض طالبان وساومهم، ليس العاقل العجوز جو بايدن، وليست إدارته المسؤولة المختصة، التي تدير ملفاتها بحكمةٍ وعقلانية، وبعلميةٍ ومنهجيةٍ، وإنما الرئيس دونالد ترامب، المتغطرس المتكبر، المتعجرف المغرور، الأهوج المجنون، فهو الذي قدم لهم التنازلات، ونزل صاغراً عند شروطهم، واستمع صاغياً إلى عروضهم، وهو الذي أجابهم إلى ما طلبوا، والتزم أمامهم على ما وقعوا، ولعل الانتصار على المتعجرف يختلف، وكسر المتكبر وتمريغ أنفه بالتراب لا يشبهه نصرٌ آخر، ولهذا فلا تستصغروا ما فعلوه، ولا تستخفوا بما حققوه، ولا تبخسوهم انتصارهم، ولا تجردوهم من قدراتهم وإمكانياتهم.

مما يجب أن نتعلمه من تجربة حركة طالبان التفاوضية، إصرارهم المطلق على مطلبهم الوحيد غير القابل للتغيير أو التبديل، أو التعديل والتدوير، أو المساومة والتخيير، الذي كان هو مطلبهم الأول والأخير، منذ الجلسة الأولى للمفاوضات حتى آخر يومٍ فيها، على مدى ثلاثة سنواتٍ من عمر المفاوضات، وهو خروج القوات الأمريكية والأجنبية من البلاد، وتفكيك مقراتها، وإخلاء ثكناتها، وانسحاب كل المنتسبين إليها والعاملين معها، جنوداً وخبراء ومستشارين، ومتعاقدين وفنيين وإعلاميين وغيرهم، وهي القوات التي وصفوها بأنها قوات احتلال، وأصروا على أن تخرج من كل أفغانستان بلا شروطٍ مقيدة، وتتحرر منهم بلا عودة.

رفضت طالبان أن تخوض مع الأمريكيين في أي موضوعٍ آخر، أو أن تنتقل إلى ملفٍ جديدٍ، وقد حاول الأمريكيون إغراق الطاولة بعشرات الملفات الأخرى، وطالبوا بضماناتٍ وتسهيلاتٍ، وبالتزاماتٍ وتعهداتٍ، سواء مما له علاقة بهم، أو بما يمس حقوق الإنسان، والعلاقات مع دول الجوار، وشكل الحكم القادم وطبيعته، إلا أن حركة طالبان أمت آذانها عن كل المواضيع الأخرى، ورفضت النقاش فيها، وأصرت على الانسحاب الصريح والخروج الكامل، ورفضت إطلاق الانسحاب دون موعدٍ، ورفضت إطالة أمده، وأصرت على خروج الأمريكيين جميعاً في وقتٍ واحدٍ غير قابلٍ للتمديد أو الإرجاء، فلا يبق منهم بعد انتهاء موعده في البلاد أحد.

أصرت طالبان على تسمية ممثليها في التفاوض بنفسها، وجاءت بهم بالقوة من سجونهم في باكستان وغوانتانامو وبانجرام وكابل وغيرها، وفرضتهم جميعاً على الطاولة في مواجهة سجانيهم ومحتلي أرضهم، ورفضت الخضوع إلى التصنيفات الأمريكية أو التمييز بينهم، بين عسكريٍ وسياسي، ومعتدلٍ ومتشدد، ومقبولٍ ومرفوض، وقالت بأن هذا هو وفدها المفاوض، ولا يحق لأحدٍ أن يتدخل فيه تسميةً أو اعتراضاً، وفرضاً أو إقصاءً، ورفضت القبول بأي مرشحين جددٍ أياً كانت هويتهم أو الجهة التي اقترحتهم، أو أوصت بهم ونصحت بمشاركتهم.

حافظ ممثلو حركة طالبان خلال جلسات الحوار وجولات التفاوض، على سمتهم البسيط وهيئاتهم العادية، وعاداتهم الوطنية وأسمالهم الشعبية، ولم تبهرهم الفنادق والضيافات الفارهة والخدمات المميزة الرائعة، ولم يظهروا في بهوها يحتفلون، ولا في أروقتها يتسكعون، ولا في حدائقها يتنزهون، ولا في ملاعبها ومسابحها وساحاتها يلعبون ويسبحون، أو يلتقطون الصور وعلى الدراجات يتسابقون، بل بالغوا في إظهار زهدهم وعفافهم، فما قبلوا هدية ولا رحبوا بمنحة، ولا أظهروا ميلاً لدعةٍ أو جنوحاً لتسليةٍ، وبقوا جادين في حضورهم، ومشغولين فيما بينهم، حتى حار العدو والوسيط فيهم، كيف يغريهم أو يؤثر فيهم، أو يضغط عليهم ويضعفهم، إذ ما تركوا خلفهم اثراً يدينهم، ولا أتاحوا لهم الفرصة لأن يسجلوا لهم أصواتاً أو صوراً مشينة تسيئ إليهم، تمكنهم من ابتزازهم والتأثير عليهم، وتمرير ما يشاؤون من خلالهم.

حاول الأمريكيون نقل جلسات الحوار من العاصمة القطرية الدوحة إلى عواصم أوروبية متعددة، أو إلى عواصم عربية أخرى، وهيأت لهم الفرصة لعروضها وزينتها لهم، ولكن حركة طالبان أصرت على مواصلة الحوار في مكانٍ واحدٍ، وأصرت على أن يكون في قطر فقط، ورفضت كل الدعوات المباشرة لها أو عبر الأمريكيين، لنقل المفاوضات إلى أماكن أخرى، واعتبرت ذلك ترفاً لا لزوم له، وكان المفاوضون الأفغان يعودون إلى مقرات إقاماتهم السابقة التي كانت معدة لهم، وترفض المبيت أو الإقامة في أي فندقٍ أو مضافةٍ يجمعهم مع الأمريكيين، لئلا تجمعهم خارج أروقة الاجتماعات مع أيٍ من الأمريكيين لقاءاتٌ مصادفة، أو دردشاتٌ جانبيةٌ، وهو الأمر الذي كان يتمناه الأمريكيون ويخططون له، لكن المفاوضين الأفغان كانوا حذرين منه فلم يقعوا فيه.

لا نتكبر ولا نتعجرف، ولا نتعالى ولا نتفلسف، ولا نرفض الاستفادة ونعرض عن التعلم، فالحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحقُ بها، فالإنسان يموت وهو يتعلم، ولو إلى الصين يرحل ليتعلم، ولا نتعامل مع الأفغان بماضيهم، ولا نحكم عليهم بما لم يعد فيهم، ولا نستخف بهم، ولا نقلل من شأنهم، ولنقبل جديدهم، ولنرحب بتغييرهم، ولنساعدهم على الثبات والمواصلة، والتطوير والمراكمة، ولنعترف بأن تجربتهم رائدة، وخبرتهم جيدة، ونصرهم يثلج الصدور ويسعدنا، ويحقق الكثير من أمانينا، فقد حققوا هدفاً رفعناه، وغايةً عملنا لأجلها، إذ طردوا الغرب والأمريكان من بلادهم، وطهروها من رجسهم، وأنقذوها من مكرهم، وبشرونا بغدٍ في بلادنا يشبههم، أفلا نفرح لهم ومعهم، ونتعلم منهم ونستفيد من تجربتهم.