قلوب وأيادٍ

حماد صبح

تدفق المسافرون في عربات قطار ب . م السريع القاصد شرقا حين توقف في محطة مدينة دنفر ، وقعدت في إحدى عرباته غادة فذة الحسن ، تلبس زيا  ينم عن لطف الذوق ، وتحيط بها كل سمات الراحة المترفة اللائقة بمسافر خبر السفر وألفه . وكان بين المسافرين الجدد شابان ، أحدهما بهي الطلعة ، ذو سمات وأسلوب جريئان صريحان ، والآخر مشعث الشعر ، جهم الوجه ، ضخم البنية ، لا تأنق في زيه ، والاثنان مصفدا اليدين معا . وحين سارا في ممشى العربة ما كان خاليا فيها إلا مقعد خلفي يواجه الغادة الحُسَانة ، فقعدا فيه ، فنظرت إليهما في عدم اهتمام سريع متباعد ، ثم بابتسامة حلوة نورت سمات محياها ، وبحمرة رقيقة ورَدت خديها المستديرين ، وأظهرت يدا صغيرة بقفاز رمادي . ولما تكلمت أبان صوتها المفعم بالعذوبة والروية أن صاحبته ألفت أن تتكلم ، وأن يصغي الآخرون إلى كلامها .  

قالت : حسن يا سيد إيستون ! أحسب أنني ينبغي أن أتكلم أولا إن أذنت لي بالكلام . ألا تتعرف أصدقاءك القدامى الذين تلقاهم في الغرب ؟! 

فانتفض اًصغر الشابين انتفاضة حادة لصوتها ، ولاح عليه أنه يجاهد اضطرابا خفيفا ما عتَم أن تحرر منه ، وصفق أصابع يدها بيسراه ، وقال باسما : الآنسة فيرتشلد ؟! 

أعذري يدي الأخرى ! مصفدة في الوقت الحالي . 

ورفع يمناه المشدودة من رسغها ب "السوار" البراق إلى يسرى صديقه رفعا هينا ، فانقلبت النظرة المسرورة في عيني الغادة  انقلابا متأنيا إلى فَرَق حائر، وشحب تورد خديها ، وانفرجت شفتاها في غم هادىء مبهم . وهم إيستون أن يتكلم ثانية ضاحكا ضحكة خفيفة كأنه مسرور ، فأحبطه صديقه . كان ذلك الشاب الجهم الوجه يراقب سمات محيا الغادة بنظرات جانبية لاذعة من عينيه الحادتين . قال  : ستعذرينني يا آنسة على كلامي . أراك تعرفين مدير الشرطة هذا . ليتك تسألينه أن يقول كلمة حسنة في حقي . يقولها حين نبلغ السجن ، فمن شأنها أن تيسر لي الأمور فيه . إنه يمضي بي إلى سجن ليفنورث  . ستكون محكوميتي فيه سبع سنين ،عقوبة تزوير . 

فقالت الغادة لإيستون متنهدة تنهدة عميقة وقد آب لها تورد محياها : إذن هذه وظيفتك هنا ؟! مدير شرطة !  

فقال هادئا : يا عزيزتي يا آنسة فيرتشلد ! لا مفر لي من فعل شيء . للمال وسيلته في اصطناع أجنحته ، وتدرين أن الأمر يحتاج إلى مال لنجاري جماعة الناس في واشنطون . شهدت هذا في غرب البلاد ، وحسنا ، منزلة مدير الشرطة ليست في رفعة منزلة السفير ، إنما ...  

قالت الغادة بمودة : السفير لا يستدعي أحدا ، وما احتاج يوما إلى فعل هذا . هذا ما يجب أن تعلمه . إذن أنت واحد من صناديد الغرب المغاوير . تركب الخيل وتطلق الرصاص وتقتحم ضروب المخاوف . هذا يغاير حياة واشنطون . فُقدتَ من جماعة الناس العتيقة فيها .  

وتباعدت عيناها بخلابتهما ، ثم اتسعتا شيئا ، وتركزتا على الأصفاد البراقة ، وقال الشاب الآخر : لا تقلقي لها يا آنسة ! كل مديري الشرطة  يصفدون أنفسهم مع مسجونيهم حتى لا يفروا . 

السيد إيستون يعلم ما ينبغي أن يفعله . 

سألت الغادة : هل سنراك ثانية ، قريبا في واشنطون ؟! 

قال إيستون : أحسب ذلك ليس قريبا . أخشى أن تكون أيامي الجميلة انقضت . 

فقالت بأدب : أعشق الغرب .  

وكانت عيناها تلمعان لمعانا رقيقا ، وتطلعت من النافذة ، وأخذت تتكلم في صدق وبساطة دون مراعاة لأناقة أسلوبها ، قالت : قضيت الصيف مع أمي في دنفر . عادت إلى البيت منذ أسبوع لاعتلال والدي اعتلالا خفيفا . أستطيع العيش سعيدة في الغرب ، وأحسب هواءه يلائمني . المال ليس كل شيء في الحياة إلا أن الناس دائما يسيئون فهم الأمور، ويلبثون بلهاء أغبياء 

ودمدم الشاب الجهم الوجه : يا مدير الشرطة  ! هذا ليس عدلا . بي حاجة إلى الشرب ، وما دخنت طول اليوم . أما تكلمت بما يكفي ؟! أدخلني توا إلى حجرة التدخين ! ألن تدخلني ؟! أنا نصف ميت على تدخين الغليون . 

ونهض المسافرون  الآخرون ، وقال إيستون في رقة  دون أن يبارح الابتسام محياه : لا أستطيع إنكار حقك في التدخين . إنه الصديق الوحيد للتعيس . وداعا يا آنسة فيرتشلد ! 

الواجب يستدعيني . تعلمين هذا . 

وبسط يده إليها مودعا ،فقالت معيدة تنسيق أناقة زيها : من بالغ السوء أنك لا تقصد الشرق .لا مندوحة لك من الذهاب إلى ليفنورث . أليس كذلك ؟!  

قال : بلى . بتحتم أن أتابع سبيلي إلى ليفنورث . 

وسار الرجلان في الممشى قاصدين حجرة التدخين . وكان مسافران دانيان منهما سمعا أكثر الحديث ، فقال أحدهما : هذا المدير شاب طيب القلب . بعض هؤلاء الغربيين أناس طيبون . 

قال الآخر : هو أصغر من أن يلي هذا المنصب . أليس كذلك ؟!  

هتف المتكلم الأول : صغير ؟! لماذا ؟! أوه ! أما تابعت الكلام ؟! قل لي : أعلمت من قبل أن مدير شرطة صفد سجينا إلى يمناه ؟!  

*الكاتب الأميركي أوليفر هنري ( 1862 _ 1910 ) .