سوريا 2021: قواسم الاحتلالات وبؤس المعارضات

صبحي حديدي

ليست مصادفة أنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي استهلت العام 2021 بقصف جنوب سوريا، مستهدفة مواقع عسكرية تخصّ «الحرس الثوري» الإيراني وتابعه «حزب الله» اللبناني؛ ثمّ، خلال الاستهلال ذاته، قصفت مناطق في البوكمال والميادين وتخوم مدينة دير الزور، شرق سوريا وقريباً من الحدود العراقية، فأصابت سلسلة أهداف إيرانية أو مرتبطة بميليشيات عراقية ذات تبعية إيرانية؛ ثمّ اختتمت العام بقصف ميناء اللاذقية، مرّتين خلال شهر كانون الأوّل (ديسمبر) الحالي، فخلّفت انفجارات وحرائق واسعة في منطقة تأوي حاويات أسلحة وذخائر إيرانية.

القاسم المشترك الأوّل هو الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يحمل الصفة بسبب من احتلال فلسطين وحدها بل من احتلال مرتفعات الجولان السوري أيضاً؛ والقاسم المشترك الثاني هو الاحتلال الإيراني، المباشر عبر وحدات عسكرية وضباط وخبراء، أو غير المباشر عبر أذرعة إيران وميليشياتها المذهبية؛ وأمّا القاسم المشترك الثالث فهو النظام السوري، الصامت المُذلّ المهان، الواعد أبداً بالردّ في الزمان والمكان المناسبين.

الاحتلالات الأخرى، الروسية والتركية والأمريكية، لا نصيب لها من الضربات الإسرائيلية، لاعتبارات شتى جيو ـ سياسية غالباً، أو تكتيكية بين حين وآخر، أو ذات صلة في كلّ حال بتكامل المصالح الضمنية العميقة رغم ما قد يلوح على ظاهرها من تصارع أو اشتباك او حتى تناقض: روسيا، مع أمريكا أو مع تركيا؛ وأمريكا، مع تبديل الأطراف بين موسكو وأنقرة؛ وهذه الأخيرة، مع الكرملين تارة أو البيت الأبيض تارة أخرى، من دون استبعاد تل أبيب حين تقتضي الحال تسعير خطاب الخلاف على مستويات لفظية وديماغوجية. وخارج القواسم ثمة مقادير مذهلة من التفاهم بين رادارات موسكو في منطقة الساحل السوري ومنصات منظومة المضادات S ـ 300 وS ـ 400 التي لا تشتغل إلا بإذن من الضباط الروس في قاعدة حميميم؛ ومثلها مسيّرات «بيرقدار» TB2 التركية، التي لا تحلّق إلا في سياق انتزاع حصّة تمدّد تركية هنا أو فرض ورقة ضغط تفاوضية سياسية هناك.

وخارج القواسم، كذلك، ثمة طراز مذهل بدوره من الصمت الإيراني على الضربات الإسرائيلية المتعاقبة، الموجعة تماماً في بعض الحالات (كما في قصف دير الزور واللاذقية) من جهة أولى؛ والامتثال الواسع، وليس الجزئي أو الشكلي أو الرمزي، للمطالب الإسرائيلية المبطنة طيّ تلك الضربات، كما في إعادة انتشار «الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» خارج الجولان، والامتناع تالياً عن المغامرات الطفولية وألعاب المفرقعات على الحدود مع الاحتلال. وقد يقول قائل، محقاً في جزء غير قليل من المطارحة، بأنّ هذه هي أيضاً سياسة إيران تجاه العمليات الاستخباراتية الإسرائيلية التي تطال منشآت نووية داخل إيران ذاتها، أو تستهدف اغتيال علماء ذرّة إيرانيين في عقر دورهم؛ غير أنّ هذا الجزء الأوّل من المطارحة يخفي الجزء الثاني، المكمّل، الذي يشير إلى صمت روسي على الضربات الإسرائيلية في عمق الأراضي السورية، يجوز تصنيفه تحت صفة التواطؤ مع دولة الاحتلال من باب إضعاف الوجود العسكري الإيراني في سوريا، أو إنهاكه على الأقلّ، لصالح المزيد من توطيد الوجود العسكري الروسي في البلد.

«مركز جسور للدراسات» أحصى المواقع العسكرية التالية للقوات الأجنبية، على اختلاف جنسياتها: حلب 155، دمشق وريفها 78، إدلب 76، حمص 51، دير الزور46، حماة 43، الحسكة 38، الرقّة 32، درعا 26، القنيطرة 21، السويداء 17، اللاذقية 13، وطرطوس موقع واحد. وتفيد هذه الخريطة أنّ ما تبقى من قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة يشغل 28 موقعاً، والقوات التركية 122، والقوات الروسية 114، بينما تنفرد القوات الإيرانية بالرقم الأعلى، إذْ تنتشر في 333 موقعاً: 186 تخصّ «الحرس الثوري» الإيراني، و80 يشغلها «حزب الله» و67 موقعاً مشتركاً بينهما.

ومن نافل القول إنّ انتشار القوّات النظامية التابعة رسمياً للنظام يحكمه طبائع صلاتها مع نقاط انتشار القوى الأجنبية، سواء من حيث الولاء (الفرقة الرابعة، في العلاقة مع إيران)؛ أو التنسيق المباشر (ما تُسمّى «قوات النمر» في الارتباط مع قاعدة حميميم والقيادة العسكرية الروسية)؛ أو التفاهمات متعددة الأوجه والأغراض (الوحدات الكردية المختلفة، شرق الفرات وفي منطقة الجزيرة)

وضمن حصيلة العام 2021 السورية، على الصعيد البشري والإنساني، ما رصدته «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» من أرقام ومعطيات: مقتل 3500، بين أطفال وشيوخ ونساء ورجال، وتهجير 35 ألف مدني، و113 واقعة اعتداء على مراكز مدنية حيوية (منشآت طبية وتعليمية، رياض أطفال، أماكن عبادة…) بينها 66 من فعل تحالف النظام والقوات الروسية، والبقية تتوزّع بين الميليشيات المذهبية والفصائل الجهادية ومفارز «الجيش الحر» والوحدات الكردية. «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» OCHA يسوق المعطيات التالية: هنالك 13.4 مليون مواطن سوري «بحاجة للمساعدة» حسب تعبير المكتب، يتوزعون بالنسب المئوية التالية: 50.5 (6.76 مليون) بصفة شديدة، 33.7 (4.51 مليون) بالغة الشدّة، 11.1 (1.48 مليون) بصفة كارثية. كذلك أورد التقرير 76 حادثة تفجير في اليوم الواحد خلال 2020، 50٪ من العاملين في قطاع الرعاية الصحية فرّوا خارج البلد، 47.812 حالة إصابة مؤكدة بفيروس كوفيد ـ 19، 90٪ من السكان تحت خطّ الفقر، بينهم 60 إلى 65 في «فقر مدقع» العملة السورية انخفضت بنسبة 78٪ منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2019. معطيات أخرى تقول التالي: 58٪ فقط من المستشفيات و53٪ من مراكز الرعاية الصحية تعمل بكامل طاقتها، وتمّ فقدان 300,000 وظيفة، بما يشكل 50٪ تقريباً، وارتفعت الأسعار بنسبة 236٪ منذ مطلع 2019.

في سوريا هذه لم يتورع رأس النظام، بتشجيع صريح من راعيه الأوّل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وراعيه الثاني الوالي الفقيه آية الله خامنئي، عن تنظيم انتخابات رئاسية أعلنت أجهزته بعدها فوزه بنسبة 95.19٪ وبمشاركة 78.64٪ من الذين يحقّ لهم الانتخاب؛ ولم يكن في تلك المسرحية المملّة المبتذلة أيّ جديد، ما خلا ظواهر فاضحة لا تخصّ النظام في واقع الأمر، بقدر ما تفضح شرائح واسعة ضمن صفوف أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم صفة «معارضة الداخل». على سبيل المثال، الذي قد يكون كافياً وافياً، حثّ قيادي سابق في حزب يساري معارض على انتخاب الأسد لأسباب ليتها اقتصرت على كشف باطن طائفي مشوّه، لأنها في الواقع أظهرت مقادير إضافية من انحطاط «يسار» سوري معبّأ طائفياً، من جانب أوّل؛ كما شدّدت، من جانب ثانٍ ومجدداً، على طبائع الولاءات التي انساقت وتنساق إليها شرائح غير قليلة من «إنتلجنسيا» أبناء الطائفة العلوية، زعموا في السابق معارضة النظام، أو مارسوا المعارضة بحقّ فلم تغفر لهم السلطة فسجنتهم أو نكّلت بهم.

ولن تكتمل حصيلة سوريا في العام 2021 دون التوقف عند بؤس أداء الفئات التي أسمت ذاتها، بذاتها ولذاتها، «معارضة الخارج»؛ على اختلاف مسمياتها (الزائفة، إجمالاً) وما تزعمه من عقائد (كاذبة أو جوفاء) «إسلامية» كانت أم «علمانية» و«يمينية» أم «ليبرالية» أم «يسارية»… ولم يكن من العدل أن يُختتم العام من دون مقادير ابتذال إضافية تفضح لجنة هنا أو جمعية هناك، موقعاً أو رابطة أو تلفزة؛ بحيث لم تتمثل الذروة في فضائح «هيئة التفاوض» ولا في مخازي «اللجنة الدستورية» إذْ أنّ تنويعات بؤس هذه «المعارضات» لن تتأخر في مطالع العام المقبل 2022.

حصيلة قواسم الاحتلالات، إذن، وما يتكامل معها من بؤس المعارضات؛ ولعلّ القادم، في طرفَيْ المعادلة، أعظم وأدهى.