نار كازاخستان تذكّر العرب بحرائقهم!

رأي القدس

اندلعت في كازاخستان، منذ مطلع هذا العام، حركة احتجاجات كبيرة كان فتيلها الصاعق إعلان السلطات رفعا حادا في أسعار الغاز المسال، في بلد يعتبر من أهم الدول المنتجة للغاز في العالم، إضافة إلى كونه يملك احتياطيا نفطيا كبيرا يعادل احتياطيات العراق، ولعلّ هذه المفارقة الواضحة كانت السبب في أن الاحتجاجات الشعبية انطلقت في مدينة جناوزين، مركز صناعة النفط في كازاخستان.

قوة الاحتجاجات، وانتشارها السريع إلى أنحاء عديدة ومدن، بينها ألما آتا، العاصمة الاقتصادية للبلاد، والطابع السياسي الذي اتجهت إليه، عناصر فاجأت السلطات الكازاخية فسارعت إلى إعادة أسعار الغاز إلى سابق عهدها، لكنها فوجئت مرة أخرى بأن الاحتجاجات لم تتوقف، رغم إعلان الرئيس قاسم توكاييف إقالة الحكومة وإعلان حالة الطوارئ في عدد من الأقاليم، بما فيها العاصمة نور سلطان.

يوضّح استمرار التظاهرات وعنفها المتصاعد، أن القضايا المختلف عليها سياسية أساسا، ويذكر نظام الدولة في كازاخستان بمجمل النظم السياسية الحاكمة العربية، فدستور البلاد يصفها بدولة ديمقراطية ويؤكد أن «الشعب هو مصدر السلطات، فيها، فإن الواقع أنها محكومة بنظام حكم فردي، بدأ مع نور سلطان نزارباييف، الذي تولى الحكم منذ عام 1991، بعد إعلان استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، وخلفه عام 2005 الرئيس الحالي الذي تتضمن مهامه، كسابقه، تعيين رئيس الوزراء، والإشراف على الحكومة، وتعيين وعزل أعضائها، وكذلك تعيين أعضاء المحكمتين الدستورية والعليا، والنائب العام، ورئيس البنك المركزي، إضافة إلى انه مفوض بعقد الاستفتاءات وإعلان حالة الطوارئ!

تتمتع كازاخستان بعوامل قوة جغرافية واقتصادية، فاقتصادها هو الأكبر في آسيا الوسطى، وإضافة إلى النفط والغاز فهي تملك احتياطيات من المعادن والفلزات وإمكانيات زراعية كبيرة، وهي تاسع أكبر دولة مساحة في العالم، غير أن إشكاليتها الكبرى، هو نظامها السياسيّ الذي يجمّع السلطات في يد شخص واحد، ومن نتائج ذلك المعروفة، عربيا وعالميا، تمركز الثروة في يد نخبة متحكمة سياسيا واقتصاديا، تساهم في تأسيس فساد عامّ خطير، يترافق عادة مع استتباع للخارج (روسيا حاليا) وقمع عنيف لأي حراك يطالب بالتغيير.

ساهم سكان كازاخستان في منجزات الحضارة الإسلامية، مثل الفيلسوف الفارابي، والقائد العسكري الشهير الظاهر بيبرس الذي أوقف، بشكل نهائي، تقدم المغول في المنطقة العربية بعد إسقاطهم الدولة العباسية واجتياحهم العراق والشام، والواضح أن مواطنيها الحاليين، يتقاسمون أيضا، مع سكان المنطقة العربية، ربقة الاستبداد، فأوضاع بلادهم ونظامها تذكر بالأوضاع العربية وأنظمتها، ورغم أنها أكبر الدول الإسلامية مساحة، فإن موقعها الجغرافي وثرواتها الباطنية، جعلتها موضع تنافس بين القوى الكبرى المحيطة جغرافيا، كالصين وروسيا، كما هو الوضع حاليّا في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا.

تشير الأخبار القادمة من كازاخستان إلى سيطرة المتظاهرين على مطار ألما آتا، ومسارعة سكان العاصمة لسحب الأموال من البنوك، وتوقف تصدير الفحم منها إلى أوكرانيا، وإعلان الرئيس تولّيه منصب رئيس مجلس الأمن.

في إشارة رمزيّة إلى الجميل الذي أسداه الرئيس السابق بتنصيب الرئيس الحالي خلفا له، قام توكاييف بتغيير اسم العاصمة القديم من أستانة إلى نور سلطان (اسم الرئيس السابق) وهو أمر فيه اجتراء على تاريخ البلاد وشكل من أشكال تأبيد الدكتاتورية، وما يفعله المتظاهرون حاليا، هو محاولة استعادة بلدهم من الاستبداد «الأبدي» وهو ما يفسر إحراقهم لمقر الرئاسة في ألما آتا، ومحاولة إسقاط تمثال «تذكاري» لنور سلطان نزارباييف، في إعادة تذكيرية للحكاية المستمرة بين الحكام والمحكومين.