العفو عند المجزرة

رياض معسعس

أربعة أحداث تزامنت في نهاية الشهر الفضيل: مجزرة حفرة التضامن، مرسوم العفو عن المعتقلين، إعلان أوردغان عن مشروع إعادة مليون سوري طوعيا إلى سوريا، عيد الفطر “السعيد”.

تفاعلت هذه الأحداث، وترابطت فيما بينها لتجعل المأساة السورية أكثر قساوة وتعقيدا وتطورا. فجرائم النظام تتكشف عن إمعان مرعب في ترويع السوريين بإعدامات وحشية قل مثيلها في التاريخ، وتعكس المدى البعيد جدا الذي يمكن للنظام أن يصل إليه في عمليات القتل المجاني، وكيف حاول رأس النظام بالالتفاف على الحدث المرعب.

حفرة التضامن: قعر جهنم

شهد العالم فيما سبق عشرات الآلاف من الصور لمعتقلين في أقبية نظام الأسد قتلوا تحت التعذيب هربها المصور “قيصر”، تحت جنح ليل. الجثث أظهرت وحشية لا نظير لها من طرق التعذيب والتجويع التي مارسها النظام على المعتقلين الذين نسب إليهم تلفيقا جرائم “إرهاب” وكانت الجثث تظهر بوضوح علامات التعذيب التي تشي بما تعرض أصحابها من جلاديهم، وكان قد اعتقل معظمهم عشوائيا من شوارع المدن المنتفضة ضده.

وقد أثارت هذه الصور استنكارا واسعا، وكانت سببا في إصدار واشنطن عقوبات ضد النظام السوري باسم “قانون قيصر”. حفرة التضامن لا تقل وحشية عن صور قيصر بل تفوقها كونها موثقة بالفيديو وتظهر وجوه الجلادين الذين يجلبون الضحية ويدفعون بها إلى الحفرة ثم يطلقون الرصاص، وبعد تجمع الجثث يضرمون فيها النار بما يشبه قعر جهنم، دون أن ترف لهم عين، أو الشعور بوخزة ضمير، وقد اعترف الفاعل “أمجد يوسف” بفعلته عبر استدراجه من المحققة المتخفية خلف ستار المتعاطفة مع النظام. هذه الوثيقة التاريخية التي لا شك فيها ترقى إلى جريمة ضد الإنسانية، ويدان فيها رأس النظام أولا وأخيرا، فكيف لم يكن قد علم بها ومخابراته في كل حي، ولماذا سكت عنها؟ بل رفع مرتكبها رتبة عسكرية وظل في منصبه في أحد أفرعه الأمنية.

الصور الدامغة

لم يجد رئيس النظام السوري بشار الأسد إزاء صدمة حفرة التضامن أي حجة يمكن أن يواجه بها الصور الدامغة التي لا يرقى إليها الشك في إعدامات مجانية لمدنيين لم يرتكبوا أي عمل ضد النظام سوى أنهم كانوا قرابين لعقاب جماعي لسكان حي قاموا بمظاهرة ضد النظام أيام الثورة الأولى.

وصمته كان دليلا على إقراره بها، ومعرفته بمجرياتها. وإلا لماذا لم يعلن عن اعتقال مرتكبي الجريمة ومحاسبتهم؟ ورجح البعض أن النظام سيقوم بتصفيتهم كي يمحي أي إمكانية استجوابهم في محكمة دولية يوما ما. بعد يوم واحد من فضيحة المجزرة البشعة سارع باستصدار مرسوم رئاسي على عجل للعفو عن معتقلين “لم يرتكبوا جرائم قتل” حسب نص المرسوم. وبهذه العملية ازدادت المأساة السورية قتامة، والنظام إدانة.

فصور الجماهير الغفيرة التي كانت منتظرة تحت جسر الرئيس في دمشق، وساحة صيدنايا، وعدرا (مكان تواجد سجن صيدنايا وسجن عدرا سيئ الصيت) تنم عن عدد أبناء هؤلاء في معتقلات النظام. والفوضى التي اكتست عمليات الإفراج تؤكد على الإرتباك في أجهزته التي حاولت الرد سريعا على المرسوم بإفراجات قامت بها على عجل. أمهات متجمهرات حملن صور أولادهن المعتقلين يسألن المفرج عنهم:” هل رأيت ابني في معتقلك؟” إذ في حالة الارتباك لم تتمكن وزارة العدل من تجهيز قوائم بأسماء المفرج عنهم وكم عددهم.

وتكشفت عملية الإفراج عن مسرحية هزلية كما هي عادة النظام وأجهزته الأمنية، فمعظم المفرج عنهم كانت قد انتهت محكوميتهم وتم الاحتفاظ بهم، أو أنهم مريضون وفاقدو الذاكرة، أو أنهم اعتقلوا حديثا بعد عمليات التسوية وخاصة في منطقة حوران حيث أكد “تجمع أحرار حوران” أن 72 معتقلا مفرج عنهم كانوا قد اعتقلوا في محافظة درعا بعد اتفاق التسوية الذي تم على أعقاب سيطرة النظام على محافظة درعا في تموز/يوليو 2018، من بينهم 17 مجندا في قوات النظام، و13 معتقلا تم اعتقالهم لأسباب جنائية، و 32 معتقلا لم تتجاوز مدة اعتقالهم 6 أشهر، وصرحت رابطة معتقلي سجن صيدنايا أنه تم الافراج عن 117 معتقلا من السجن الرهيب، وأكد الحقوقي عبد الناصر حوشان أن مجموع المفرج عنهم إلى الآن 310 معتقلا. وقد تم الإفراج عن المعتقلين بعد عمليات ابتزاز واسعة لأهاليهم من قبل ضباط النظام، ولا تزال مخابرات النظام تقوم بعمليات اعتقال يومية، ووثق التجمع 91 حالة اعتقال من بداية هذا العام.

جاء عيد الفطر ليسعد ربما بعض العائلات التي التقت بأبنائها المعتقلين الذين أفرج عنهم النظام، وليحزن عشرات الآلاف الآخرين الذي لم يفرج عن أبنائهم، لكن رأس النظام لم يفوت فرصة صلاة العيد وسماع خطبة الإمام الذي أثنى فيها على العفو الرئاسي ، متحدثًا عن مكارم الأخلاق والتسامح والحلم والعفو والسماحة، والاعتدال بين التضييق والتساهل، مشيرًا إلى مرسوم “العفو” وشبّه هذا الفعل أنه من أخلاق النبوة، وأن رئيس النظام جسّد أخلاق النبوة في مرسوم “العفو”، مستشهدًا بحديث النبي محمد (ص) حين دخل مكة، وقال لمعشر قريش:” اذهبوا فأنتم الطلقاء”

أما حفرة التضامن فلا أحد يجرؤ على الحديث بها أمام فاعلها حتى الإمام الخطيب، والإئمة الذين تحلقوا حوله ليباركوا له بالعيد “السعيد”

من لاجئ إلى نازح

تحول اللاجئون السوريون إلى مادة دسمة للبرامج الانتخابية وخاصة في تركيا في الآونة الأخيرة، فالأحزاب اليمينية بشكل عام لا تخفي مطالبتها بترحيل اللاجئين السوريين، وما يهمهم في الأمر في الواقع ليس اللاجئين السوريين وإنما التضييق على حزب العدالة والتنمية الذي في عهده وصل عدد اللاجئين السوريين إلى حوالي أربعة ملايين لاجئ، ولسحب البساط من تحت أقدام المعارضة قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتقديم مشروع إعادة مليون لاجئ “طوعيا”إلى المناطق المحررة وستقوم الحكومة التركية ببناء وحدات سكنية ومرافق عامة لهم.

هذا المشروع وإن كان يرضي البعض فلا يرضي البعض الآخر الذين وصفوه “بالترانسفير” الديمغرافي الذي سيصب في نهاية المطاف في مصلحة النظام السوري الذي يبحث عن عودة اللاجئين، ولكن لا يريدهم أن يعودوا إلى ديارهم في الغوطة، والقلمون، ودمشق وضواحيها، وحوض بردى، وسواها لأن هذه المناطق أصلا قد احتلت من قبل ميليشيات موالية ومساكنها تم الاستيلاء عليها.

وكانت روسيا قد حاولت في مؤتمرين سابقين فاشلين تحريك ملف عودة اللاجئين السوريين لإعطاء الانطباع دوليا أن سوريا آمنة بهدف تعويم النظام. الرئيس أردوغان استدرك الوضع بعد أن أحدث مشروعه جدلا واسعا فصرح أن تركيا لن تطرد اللاجئين السوريين إلى بلادهم مع علمه أن تصريحه ربما سيؤثر سلبا على شعبيته في الانتخابات المقبلة.