الدكتور النور حمد وتجريد المفكر الترابي من كل مكرمة

الطيب عبد الرازق النقر

استضافت الإعلامية هدى الصالح مقدمة برنامج" جماعات" على منصة العربية بودكاست، قبل عدة أيام نفر من ممن تكاملت معرفتهم بالشأن السياسي السوداني، وتوثقت صلاتهم بساستها، ولعل من المهام المنوطة ببرنامج" جماعات" في وجهة نظري القاصرة هي تجميع أكبر قدر من المعلومات وتصنيفها، حتى تسهل مناقشة أفكار ورؤى الجماعات الإسلامية المستهدفة بهذا النقاش، ومعرفة المضامين الأخلاقية التي تنسجم مع طبيعة رؤيتها الفكرية، وما هي أهدافها التي تريد الوصول إليها، وهل تخلت هذه الجماعات عن الصيغة العقدية والأيديولوجية من أجل تحقيق هذه الأهداف، ومادة الحلقات "الأولى والثانية" كانت تدور حول كسب الدكتور الترابي السياسي، وجهوده الفكرية، ونزعته الثورية، ولعلي لا أغالي في الجموح والشطط إذا زعمت أن البرنامج وبعض ضيوفه قد اتخذت مواقفهم منحى خطيراً،غايته أن يخفت الصوت الذي يعلي من فكر الترابي، وأن تتراجع قناعته حيال الخطاب المعرفي والتجديدي للشيخ رحمه الله، وأن ترسخ حول منهجه صور قاتمه لم تتحلى بالموضوعية التامة، ولم تتجرد من الأهواء والأفكار الضالة، فصاحبها كان يعاني من ازدواجية الثقافة، وميكافيلية النمط.

 الإجحاف والعسف الذي لن نسعى لتفنيده، أو نحرص على دفعه وكشف زيفه وباطله، تلك الاتهامات التي ساقها الأستاذ محمد ثابث وهو أحد المنتسبين لطلائع فتح وهو مصري الجنسية قضى بعض السنوات قبل الألفية الثالثة في السودان، وسنهتم بتلك المزاعم التي جاد بها ثغر الدكتور الشهم الفؤاد، الواسع المعرفة، المتقد العقل، الدكتور النور حمد، ورأي الدكتور النور حمد الذي يحتاج إلى تحليل واستقصاء، هو رأي قديم ومستمر ويساير كل المراحل والحقب، فليست أسبابه تكمن في محور السياسات العامة التي تتغير وتتبدل كل يوم، ولكنها قناعة ورؤية راسخة عند الدكتور النور حمد عن الترابي وعن رهطه، وأنا أود قبل أن أغرق في تفصيل هذه الأسباب ودقائقها، أن أزجي الشكر الوافر لشخص الدكتور النور حمد، الذي تفضل بالإجابة على أسئلتي التي وجهتها له إبان فترة إعدادي لأطروحة الدكتوراة، والتي كانت عن "التجديد السياسي في فكر الدكتور الترابي" لقد أضافت أجوبته الكثير من البريق والنضار للأطروحة، رغم أن صيغها جاءت مترعة بالتهم الجزاف التي تحتاج للكثير من التحقق والتي تتطلب من الباحث للكثير من التعمق والإيغال، ورغم الخلاف الفكري بين الباحث حينها وبين القامة الدكتور النور حمد، فإن احترامه واكباره لهذه الشخصية المتوهجة التي لا يستطيع أحد أن يغمط من ألقها وتميزها، هو حرص الدكتور النور حمد أن يرفد باحث لا تربطه به أي صلة بافادات تحقق له التحصيل الأكاديمي الذي يرجوه، ولعل هذه الروح العلمية إذا لم تكن تلاشت بالفعل، فهي باقية في قلة من أساتذة بلادي على شاكلة الدكتور نور حمد، هاجسهم هو توسيع فرص التعليم العالي، وعدم التردد أو التخاذل في الإسهام بمد أصحاب الدراسات والأبحاث العلمية بما يحتاجونه من معارفهم وتخصصاتهم الأكاديمية.

هنا في هذا المقال سادتي سنرى خلافات تعاظمت أبعادها، وتوطدت تقاليدها، بين فكر الدكتور المتقدم بلوذعيته، وبكسبه الديني والتاريخي، وبسرعة استجابته للتحديات، وبين فكر رجل آخر  لم يعرف المجتمع له مخاطبة أو مجاهدة، ولم يحظى بتفاعل داخلي أو خارجي يؤهله لمكانة يتعاظم شأنها، رغم أن الفكرة التي تعتبر عماد مشروع هذا الرجل، قد طرحها منذ عام 1951م، فكرة لم يتجه صاحبها الراحل محمود محمد طه إلى تأصيل قضايا الدين وتنزيلها على الواقع كما فعل الدكتور الترابي، ولكنه انتهى بفكرته هذه التي لا تستند إلى أصل تقوم عليه، إلى رسالة أولى وثانية تقيد أحكام الشريعة، وتقوض رسالة الإسلام من جذورها، لقد أثارت رسائل محمود محمد طه قلق الناس ومخاوفهم، لما فيها من تدليس غير مقبول، وهدم للصرح الأساسي للفكر الإسلامي، لقد تبنى الإخوان الجمهوريين منظومة أخرى غير المنظومة التي لا تحتاج إلى إعادة تفكير في نجاعتها وقيمها ومعانيها، فأهون أخطاء الفكرة الجمهورية التي ينتمي إليها الدكتور النور حمد أنها هدمت النظام التكافلي الذي وفره الإسلام، هذا خلاف الجريرة التي تطغى على كل ما عداها، "فالأستاذ" محمود محمد طه كما يطلق عليه محبيه، لا يرى أن الشريعة الإسلامية التي جاء بها المعصوم ﷺ في القرن السابع تصلح بكل تفاصيلها للتطبيق في القرن العشرين،  والفكرة الجمهورية التي تعج بإشكاليات مختلفة ومتعددة بها ما بها من التعاليم الغريبة، والشرائع المرتبطة بمحمود والنابعة منه، سقطت ولم يكن سقوطها إثر عنف الحكومات الديكتاتورية التي تصدت لمواجهتها كما يروج حماتها القلائل، ولكن لأن السودانيين لم يستطيعوا أن ينتموا لها وأن تتوافق تركيبتها مع تكوينهم الذهني والنفسي.

والحركة الإسلامية السودانية بقيادة الدكتور الترابي، لم تتفاوت مواقفها في تسويغها الرفض والتحفظ حيال فكرة الراحل محمود محمد طه، ولكنها لم تسعى إلى وأدها وإزهاق روح صاحبها، لقد كانت الحركة الإسلامية تجدد الرهان بأن الفكرة الجمهورية مصيرها الموت والزوال، وأن المسلمين الملتزمين بإسلامهم في السودان لن ينساقوا وراء خطلها، وقد تحدث الدكتور الترابي عن محمود محمد طه باستخفاف، زاعماً أنه ظاهرة لا تستحق المجادلة والمجاهدة:. وفي اعتقادنا أن الفكرة الجمهورية التي عاودت الظهور بعد حكم البشير، لم تزل الحياة تدب في أوصالها بفضل آمال الحركة العلمانية وآلام الحركة الإسلامية التي استطابت حياة التقوقع والانكفاء،  ومن باب الانصاف نقول أن الحركة الإسلامية السودانية ممثلة في المؤتمر الوطني قد وظفت الدين لأغراض حزبية، كما أن حكمها رافقته عوامل جعلت الشعب ينفتح على تيارات سياسية غيرت هي بحيفها وبطشها من مقاييس حبه وبغضه لهذه التيارات، لقد تباعدت القيادة السياسية للحركة الإسلامية عن المجتمع السوداني في شتى الأطر، ونكصت عن خدمته، وعرضته لفتن لا حصر لها، وصادرت حقه في الحرية والعيش الكريم، فكان من الطبيعي ألا يتحرج الشعب في بغضها، ويهيئ المناخ لتيارات أخرى عساها تحقق له حيثيات الكرامة، وتشكل له قيادة تمثله وتتوخى العدل الكامل، ولكن ما زال الشعب يعاني من شآبيب البلاء، وما زال جور الأنظمة يتنزل ويتفصل، وظروف القهر الشديد قد عادت لترسيخ قاعدتها. وعاد الشعب يجأر بالشكوى ولكن هذه المرة على حكومة التوجه العلماني، والترخص الأخلاقي التي تريد أن تقود الناس إلى حياة تافهة، ومناشط تتوافق مساراتها مع أنماط الفكر اليساري والليبرالي.

وباتت حكومة السيد عبدالله حمدوك والحرية والتغيير ترمز إلى غياب الشعب أكثر ما تشير إلى تمثيله، حتى صنفها أغلب الشعب بأنها من الأنظمة المتقدمة التي تسعى لأن تفرغ الدين من محتواه، ورغم وعود رئيس الوزراء حمدوك ووعود الحاضنة السياسية التي جاءت به، فلم تتحقق بعد المساواة والعدالة والحرية، ونستطيع على ضوء ذلك أن نذهب إلى حد القول بأن الشعب قد بات يشعر بأنه قد استعاض عن الرمضاء بالنار، وأن حكومة اليسار واللبرالية والفكرة الجمهورية لن تتدارك السودان أو تحفظ أهله، وأن نزاعاتها مع الكتل الرئيسة في المجلس السيادي قد قادت إلى تدعيم هذا القطاع حتى إذا ضاق بها انقلب عليها وأقصاها عن المشهد، فالشواهد المتاحة تظهر أن دور الرتب الرفيعة في المجلس السيادي في تنامي وتعاظم، وأن الشعب بات لا يثق في هذه التيارات الهدامة والمنحرفة التي جلبتها قوى الحرية والتغيير التي سعّرت أوار الحرب ضد البشير وأسهمت في إقصائه، لقد استيأس الشعب السوداني من حكومة قوى الحرية والتغيير، ولم يعد يتوافق أو يتجاوب مع الفريق أول البرهان ومجلسه،، ولا يوجد شيء يعصم هذا الشعب من اليأس والقنوط في نظام يمثل الأقلية التي لم تسهم في أي تحول ديمقراطي بعد استحواذها على الحكم، ونجد أن أنصار الفكرة الجمهورية على شاكلة الدكتور النور حمد وارومته كانوا يدافعون عن قوى الحرية والتغيير دفاعاً مجيداً، ويذبون عن حياضها، رغم حدة التناقضات التي فيها، ورغم ما يثور من جدل حول ضوابط الاستقامة عند منتسبيها.

والدكتور النور حمد صاحب تطور معرفي منشود، ولم يثر جدلاً فقهياً أو سياسياً في أرض السُمر إلا ونزع فيه بحجته، وأدلى فيه برأيه، فهو حاضر في ضرب الحياة الدينية والسياسية، وما يكتبه تستأنس به بعض العقول وتردده، وتشحذ أفئدة أخرى أسنة أقلامها استعداداً لنقده وتفنيده.

وهنا نورد حديثاً أدلى به الدكتور النور إلينا، يعرب فيه عن التضاؤل السياسي والفكري الذي كان يرفل فيه الدكتور الترابي عرّاب الإنقاذ، والذي كانت تتحرك أقلام الإسلاميين بمرونة لتعظيمه، وينتقد فيه جرأة الشيخ واقتحامه لميادين ليست من أولويات دراسته وتخصصه، وينشر الدكتور حمد بساطاً واسعاً من التهم بخاطر مطمئن، ويقين جازم، في صدق ما ذهب إليه، يقول الدكتور حمد "ظل الترابي منشغلاً بإحراز السلطة طيلة حياته، فهو ممن يؤمنون، أن الله ليزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن. فالترابي لا يختلف، في هذا المنحى، في تقديري، عن سائر المتطرفين الإسلاميين، الذي، يفكرون، أول ما يفكرون، في الإمساك بالدولة، من أجل استخدامها أداةً لفرض رؤيتهم على الناس وهذا ما فعله الترابي، عملياً. فعلي الرغم من أن حزبه أدخل في انتخابات 1986 خمسين نائبا إلى البرلمان، ليصبح الحزب الثالث من حيث الوزن الجماهيري في القطر، إلا أنه أصر في عام 1989، أن يستخدم الجناح العسكري لتنظيمه وسط القوات المسلحة السودانية، ممثلاً في العميد عمر حسن البشير، ويقوم بانقلاب عسكري يقوض به النظام الديمقراطي القائم، لتصبح له كامل السلطة في البلاد، فزعيم إسلامي كهذا، مُصِر على الحصول على السلطة بالقوة، لا فرصة له، البتة، في أن يُذكر، حين يُذكر رواد الإصلاح والتجديد في الفضاء الإسلامي.

ما ينسبه تلاميذ الدكتور الترابي ومعجبوه له في إطار التجديد، لم يكن، في حقيقة الأمر، سوى مراوغات وتكتيكات، فحين تسلم الترابي السلطة، عن طريق الانقلاب العسكري في عام 1989، وأصبح، بعد فترة سجن صورية قصيرة، متفق عليها، هو الحاكم الفعلي للبلاد، من منزله في حي المنشية، اصطبغت البلاد بصبغة أصولية، بل وموجة غير مسبوقة من الهوس الديني. في تلك الحقبة حددت السلطات أبواباً للنساء، وأبواباً للرجال، في المركبات العامة. كما بدأ فرض ما سمي "زيا إسلاميا. وازداد التضييق على النساء في مواقع العمل، خاصة في الهيئة القضائية السودانية، كما تضمن قانون النظام العام مواد حول الزي الفاضح، قصد منها قهر النساء، لا تزال النساء السودانيات يعانين منها إلى اليوم. أيضا، جرى تحويل حرب الجنوب، من صراع جهوي من قطاع من أبناء القطر، حول السلطة والثروة، والشراكة في القرار السياسي، إلى حرب جهادية دينية. وهذا ما أدى في نهاية المطاف إلى انفصال الجنوب. أما حين أقصاه تلاميذه من السلطة، علت نبرة التجديد في خطابه، فأخذ يتحدث عن الديمقراطية، وعن إطلاق الحريات السياسية، وعن حق المرأة في إمامة الصلاة، وعن زواج المسلمة من الكتابي، وما إلى ذلك. ولم يكن الترابي يفعل ذلك منطلقا من مبدأ أصيل، أو من منهج تجديدي، متسق، متماسك، بقدر ما كان ينطلق من المكايدة لتلاميذه الذين أقصوه عن السلطة.

أما حصيلة مسيرة الترابي، التي تمثلت في إمساكه بالسلطة في السودان، عن طريق القوة، وانتهاجه نهج "التمكين"، الذي مكّن به للمنتمين إلى تنظيمه، من المناصب والسلطات وموارد الدولة، ومالها، وإقصاء بقية المواطنين، فهي أبلغ دليل على استبدادية تصوراته. بالتمكين، قضى الترابي على المؤسسية في السودان، وعلى حكم القانون، وعلى المحاسبية والشفافية، وحول البلاد إلى ضيعة تتحكم فيها جماعته. وقد بلغ الفساد في السودان، نتيجة للتجريب الاعتباطي الذي مارسه الترابي في سنوات العشر التي كان فيها الحاكم الفعلي، مبلغاً لم يبلغه في كل تاريخ السودان المعاصر. لقد قاد وصول الترابي إلى السلطة بالقوة، ونهج التمكين الذي اختاره، لأن يصبح السودان، بعد ما يقارب الثلاثين عاما من حكم الإسلاميين، واحدة من أفشل الدول، في سائر المؤشرات الدولية، على مستوى العالم أجمع".  انتهى حديث الدكتور النور حمد.

ونحن نزعم أن فكر الدكتور الترابي عميق من غير إعنات، ونظامه قبل جريرة الانقلاب رشيق من غير تكلف، وأن الانقلاب الذي خطط له، وتورط فيه، لن يحجب اسمه مطلقاً في صحائف المتفردين، فللانقلاب مبرراته رغم شناعته، ولم يكن هدف الشيخ غير النصفة والسوية، ولكنه أخطأ في اختيار من لا يكف عن المأكل الذميم، ولا يعف عن المشرع الوخيم، وانقلاب الحركة الإسلامية لم يهدف الشيخ من وراءه غير أن يكون الشعب مصوناً مُرفها، مُكرماً موقرا، ولست في حاجة إلى أن أذكر أن الدكتور الترابي إذا لم يستعجل زمرته ويستنهض همتهم، لانقلبت على أعراف الديمقراطية أيديولوجيات تباينت أطروحاتها، وتفاوتت اعتدالاً وغربة كما يقول الترابي رحمه الله، وفي الحق أن سعي الدكتور الترابي للسلطة كان مقترناً بنشر التوحيد وإقامته، ولم يكن لهدف أو مغزى آخر، ولكن الزمرة التي كانت مع الشيخ حادت عن هذا الهدف، واحتكرت السلطة، وانتهى بها الأمر بمصادرة الحريات، ونحن نعتقد ولا نشك مطلقاً في صحة هذا الاعتقاد، أن هناك سوء فهم شديد لاح عن طرق التفسير الخاطئ لفهم الأبعاد السياسية، والصراعات التي تدور داخل كيان الحركة التي كان يتزعمها الدكتور الترابي، فالترابي الذي كان يعتقد بأن تلامذته يتمتعون بالصفات اللازمة لبناء وطن، وتمكين دين، عاش إخفاقات متعاظمة، وتحالفات تمخض عنها انتكاس الحركة، وضياع الحلم، لقد كان مشروع الحركة الإسلامية هو المشروع الإصلاحي الذي لا يكرس للتجزئة، أويقوي  من جذور الجهوية رغم سياسة التمكين التي دعت إليها ضرورة الاستحواذ، وهي غاية مشروعة إذا كان الهدف منها حماية التوجه السياسي والأيديولوجي للحركة وقد طبقها اليسار في مطلع السبعنيات في عهد نظام مايو بقيادة الرئيس السابق جعفر محمد نميري، إذن هي وسيلة يتخذها كل نظام قدم إلى السلطة وخشي خصومه، قد أمعنت حكومة قوى الحرية والتغيير في تطبيق هذه السياسة  التي أولت معظم وظائف الدولة إلى كوادرها الحزبية، وأحالت معظم أقطاب ومؤيدي الحركة الإسلامية إلى تقاعد هادئ، والدكتور النور حمد يعلم ذلك، ولا أخاله يجادل في صحة ما ذهبنا إليه، لقد كان الشيخ رغم مقصلة الصالح العام التي راح ضحيتها العديد من الأسر، ورغم الإخفاقات التي شابت السنين الأولى من عمر الإنقاذ، ينشد تفعيل البرامج التنموية التي تنتشل البلاد من كبوتها، ويتخذ الإجراءات التي تنظم العلاقة بين الُحكام والمحكومين، كان هدف الشيخ أن ينعم كل فرد بحقوقه الديمقراطية، فهو الشرط الذي يخرجه من هذه الأزمة التي وجد نفسه غارقاً في دواهيها بعد أن تبين له فشل اختيار البطانة التي اعتمد عليها في التحول الديمقراطي الذي كان يود تأثيله، وعن الصراع الذي احتدم بين الشيخ والبشير نرده إلى التنازع في اتخاذ القرار بين القطب وبين الضابط الموالي الذي يريد أن يخرج عن بيعته لإمامه،  ويؤيد زعمنا هذا حديث الدكتور حيدر إبراهيم علي، الذي يتحدث عن أسباب هذا الخلاف وهذه الفرقة، يقول الدكتور حيدر:" انتخب الشيخ حسن الترابي أميناً عاماً، والفريق عمر حسن البشير رئيساً مؤتمر، وقد عكست هذه الوضعية ثنائية في اتخاذ القرار، عبّر عنها الترابي ومجموعته التي انشقت، حين حاولوا التقليل من دور البشير، مما يوحي بأن الترابي كان يدير كل الأمور في الخفاء، وأعلن أن الانقلاب من صنعه، ولكن للتأمين تم الاتفاق على أن يذهب هو إلي السجن، ويذهب البشير إلي القصر حتى ينجلي الأمر". انتهى حديث الدكتور حيدر.

وما زال الشيخ يناضل من أجل إحالة هذا الهدف إلى واقع معاش حتى أبعده الطاغية عن ساحة العمل الحكومي، والسبب هو اعتقاد الطاغية البشير بأن الشيخ يريد تقليص مخصصاته ويحد من نفوذه الذي كان يحرص عليه، كانت الترابي ينشد شيئاً، والممارسة السياسية تسير في اتجاه مغاير تماماً لما يشرئب إليه، فالتوجهات السياسية التي وضعها الدكتور الترابي لم تكن خاضعة للتنفيذ، ليس لأنها لم تحصل على موافقة الجماعة، ولكن لأنها لم تتوافق مع هوى البشير وحاشيته، فالرئيس يريد أن تتمحور كل القرارات السياسية حول شخصه وعصبته، وأن تخضع لمبدأ التمكين لمؤسسته العسكرية التي ينحدر منها، الرئيس وبطانته وحدهم من كانوا يسعون لخرق كل غاية رسمها الترابي، وفشل التجربة الإسلامية يدور حول هذه البوتقة بالتحديد وهي الصراع بين رؤى الدكتور الترابي ووغطرسة المشير، إن االطاغية البشير لم يكن يؤمن بحتمية الحل الإسلامي، وأن الفكر السياسي الإسلامي يرفض البسترة والتعسف، وأن الظلم والاستبداد لا يقود إلا لثورة تستهدف مركز النظام وعترته، ولعل من ضروب المخادعة والانتهازية، أن يتماهى النظام مع جهات خارجية تخبر البشير بأن نظامه سيكتسب شرعية جديدة إذا أبعد الدكتور الترابي وفصل الجنوب عن شماله، فالدول الغربية كانت تضع قيودا ًكبيرة على نظام البشير لأن الدكتور الترابي هو من يعكف على مسيرة الحياة الدستورية فيه، كان البشير يعتقد بأنه سيظل آمناً من كل ثورة طالما أنه أضعف المعارضة، وأرهق إنسان السودان وجعل كل همه هو كيف يوفر القوت الذي يقيم أوده، وأرضى الغرب ونفذ إملاءاته، ولكنه نسي أن بغيه، وقمع أمراء أجناده، وعظماء قواده، لن يمنع أن تثور ثائرة الناس عليه.

والإصلاحات التي رغب فيها الشيخ لم تكن قاصرة على السياسة وحدها، بل كل الإصلاحات التي توثق من الرابطة العقدية وتقوي من علائقها، والشيخ الذي تشبع بروح الفكر الأصولي راعه ما وجده بين الإسلام والمسلمين من فوارق واختلافات، فسعى لتضييق هذه الشقة، وأن يتمسك الناس بتعاليم دينهم، فشرع من الطرق والقوانين ما يعزز هذا الجانب، ولعل التصورات السلبية لبعض القوانين التي أصدرت كقانون النظام العام مرده التسرع من الجهات المنفذة، ولكن هذا لا يدفع لأن نتهم الدكتور الترابي بأنه لم يرد من كل هذه القوانين غير امتهان المرأة، وإذلال كرامتها، كلا ليس هذا من الحق في شيء، فالشيخ الذي استوعب حقائق العصر وأساليبه، هو أكثر عالم أثار العواطف والأفكار بتحزبه للمرأة، ونصرته لها، وتعصب الدكتور الترابي للمرأة يفسره تراكم الكتب والمؤلفات والفتاوي التي تناول فيها الشيخ رحمه الله قضايا المرأة، وتبنى فيها آراء فقهية احتاج العلماء عقوداً من الزمان حتى يجمعوا على صوابها، لقد أضفى الفقيه والمجدد الترابي بهذه الفتاوي التي وازن فيها بين الموروث الأصولي وبين مقتضيات العصر، ثم أصدر الحكم الذي رأه الأقرب لروح الإسلام، وفتاوي الشيخ حسن الترابي وتجديده مبدأً أصيل اكتسبه من وحدات الميادين المعرفية التي تلقاها من والده ومن جامعاته التي درس فيها ومن تحريه، ولم تكن هذه الفتاوي، وهذا التجديد، يصدران عن الشيخ من باب الكيد السياسي كما ذهب الدكتور النور حمد، بل كانت ظاهرة متواترة عرفت عن الدكتور الترابي تند عنه كلما حاد عن تصوره الغبش والاختلاط، ووصل إلى نقاء الفكر، ومتانة الدليل.

وبقي أن نقول أن الدكتور الترابي لم يكن طرفاً في هذا الفساد الذي استفحل في نظام الإنقاذ، فنحن نعرف، والدكتور النور حمد يعرف، والشعب السوداني برمته يعرف، الكيانات التي ولغت في هذا الفساد، وأن الترابي رحمه الله نادى بأن يتم التعامل مع هذه الكيانات التي تحررت من أغلال الهوية الإسلامية بحمية الشقاق، وقطيعة العزلة، ولم تتجافى كوادر الحركة الإسلامية التي مالت إلى حزب البشير عن الترابي إلا حينما ذكر أن الفساد قد بلغ بضع في المائة، وقد زاد هذا الفساد وبلغ حداً غير معهود بعد المفاصلة، وإبعاد الشيخ عن الساحة السياسية، ولم تظهر هذه الخصومة القوية العنيفة بين الزعيم الترابي وتلاميذه إلاّ لحديث عرابهم عن الفساد، ولم يكتفوا بهذا كله فأخضعوا الشيخ لملمات الحبس، وجرائر التنكيل، لقد فشلت الحركة الإسلامية في توخي معاني التدين، منذ أن باتت لا تهتم بأن يستوفي مؤيديها مضامين الرشد والاستقامة بعد أن عولت على الكم لا الكيف، وسعت أن تنفرج صفوفها اتساعاً دون أن تراعي ورع المخالط ومدى تمسكه بقيم الإسلام.