من حقنا أن نطرح قضيتنا دون خوف من سكين المحرقة

علي الصالح

لا نقلل من شأن المحرقة فهي جريمة بشعة وفظيعة يصعب وصفها بالكلمات، بل يصعب تخيل حدوثها، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن إسكات الحديث عن حقيقة أن مجازر كثيرة ارتكبت وترتكب ضد شعوب العالم، بعد المحرقة، ولا تستطيع إسرائيل والصهاينة وداعموها أن يحجبوا الشمس بغربال، صحيح أنها ليست بالحجم نفسه والعدد نفسه، ولكنها تبقى مجازر ضد البشرية لا يمكن نكرانها.

فعلى سبيل المثال، فإنه من قبل المحرقة وبعدها وخلالها ارتكبت حكومة الانتداب البريطانية مجزرة ليست بشرية، وإن تطورت إلى مجزرة بشرية لاحقا، بإصدارها وعد بلفور وتنفيذه على الأرض، وتقسم فلسطين، بل تسليم فلسطين للعصابات الصهيونية، وطرد وتشريد مجمل شعبها وحرمانه من وطنه، من قريته وضيعته ومدينته وشجره، يعني اقتلاعه من جذوره وتهجيره إلى جميع أصقاع الأرض وبقاعها، ولا يزال ملايين اللاجئين الفلسطينيين مشردين، ويفشل المجتمع الدولي في مساعدتهم في العودة إلى وطنهم، فيما ترفض إسرائيل والأمم المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا وحتى ألمانيا، وإن تكرر الحديث، عن تأييد حل الدولتين قولا لا فعلا، وإرجاع ولو بعض اللاجئين إلى أرضهم وحقوقهم. وتحاول إسرائيل التهام ما تبقى من الأرض بالمصادرة والقتل والاستيطان، إلخ.

أبو مازن في رفضه إعطاء جواب واضح وصريح حول قتلى الألعاب الأولمبية في ميونيخ عام 1972 كان مصيبا، ولم يكن مخطئا بالحديث عن الخمسين مجزرة، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية خلال عمر الاحتلال، لم يكن مخطئا أيضا وهذه ليست أكاذيب، بل عين الصواب، وإذا كان هناك من يستطيع الحديث عن تابو المحرقة، وفوق الأرض التي شهدت المحرقة ألمانيا، فهو الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يرزح تحت الاحتلال ويعاني يوميا من أفعال وجرائم دولة الاحتلال. مقارنة أبو مازن جرائم إسرائيل مهما كان موقفنا منه، بالمحرقة كان عين الصواب، ولم يصبّ، كما يقول البعض لغرض التشويه، الماء على طاحونة الدعاية الصهيونية، بل جاء حديثه عن المحرقة في سياق الحديث عن قضيته وشعبه وجرائم إسرائيل وعصاباتها ومستوطنيها، وهذه هي مهمته كرئيس دولة غير مكتملة في المحافل الدولية، وإلا فليعد إلى منزله بعد تقديم الاستقالة، فالحركة الصهيونية ليست بحاجة إلى من يعطيها الماء لصبه على طاحونة دعايتها في العالم، وتعزيز مساعيها الدبلوماسية لتحريف مصطلح اللاسامية. فالماء عندها وفير وليس بحاجة إلى من يصبه، كما يقول البعض فهم كثر. لا بد من الإشارة إلى أن هذا التابو أو الخط الأحمر، الذي خطته الحركة الصهيونية، بدأ يتحلل ويتفكك ويتحطم ويتكسر، بفضل القوى التقدمية الكثيرة، سواء في القارة الأوروبية أو الولايات المتحدة أو أمريكا اللاتينية أو أستراليا. وجاءت الإشادة بتصريح أبي مازن من أهلها من رونيت لينتين، وهي أديبة ومترجمة وباحثة إسرائيلية في علم الاجتماع السياسي (77 عاما). وجاء ردها على البرفيسور الفلسطيني رائف زريق، مؤيدة أقوال الرئيس الفلسطيني بقولها: «لا أستطيع أن أتفق معك يا رائف زريق. فرغم أنني لست من المعجبين بأبي مازن، لكنه كان محقاً في الإشارة للمستشار الألماني، إلى عمق قمع الشعب الفلسطيني من قبل اليهود الإسرائيليين، الذي يرقى، كما قال باتريك وولف إلى «إبادة جماعية متزايدة». ورد زريق: «حسنا. إذن الرئيس قام بعمل جيد؟ النوايا شيء واحد، وواضح لي أنه أراد أن يظهر للألمان عمق الجرائم الإسرائيلية، والأداء شيء آخر، والسياسيون يقاضون بما يحققونه. لقد ثبت أنه جاهل تماما بالوضع في ألمانيا، فهو في الحقيقة ليس وحيدا، حقيقة أن إسرائيل تسيء استخدام ذلك هو شيء آخر وينبغي التصدي له وفضحه».

وعقبت رونيت على التعقيب بالقول: لا يمكننا الحكم على كل شيء من خلال فعاليته وجدواه. البراغماتية لها حدودها. أنا لا أحب أبو مازن، لكنني أحيي شجاعته». وتبعها أليف صباغ، وهو ناشط أهلي وسياسي من بلدة البقيعة في الجليل بقوله: «لا بد من كسر قدسية الكارثة والارتقاء بهول وفظاعة كارثتنا الفلسطينية. أمام الجمهور الأوروبي بالذات.. لكن ذلك لا يحصل بتصريح يتيم.. إنما بخطة إعلامية طويلة الأمد مدعومة بالمعرفة التاريخية الغنية.. وبوضع الأوروبيين والألمان بشكل خاص، أمام تحدي فتح الملفات التاريخية أمام الجميع.. فهل يجرؤ الألمان؟ من حقنا كفلسطينيين ومن حق كل شعب أو طائفة.. وكذلك اليهود.. أن يرى كارثته أكبر الكوارث، وليس من حق أحد أن يحرمهم من هذا الحق. المستشار الألماني شولتس كتب تغريدة على موقع «تويتر»، قال فيها، «بالنسبة لنا نحن الألمان وهو بذلك إنما يتحدث عن نفسه على وجه الخصوص، فإن أي محاولة لإضفاء الطابع النسبي على تفرد المحرقة، أمر غير محتمل وغير مقبول». وعبّر عن استيائه من تصريحات أبو مازن التي وصفها بالمشينة. نعم اشعروا بالذنب وعيكم أن تشعروا بالذنب على ما ارتكبه نظامكم النازي، لكن عجلة التاريخ لا تتوقف عند حدث، وإن كان بفظائع المحرقة. فقد ارتُكب من بعدها العديد من المجازر في الجزائر ودول افريقية وآسيوية وشرق أوسطية عديدة وحتى في دول أوروبية.

أنت حر يا شولتس في ما تقول وأن تغضب من تصريحات الرئيس عباس حول المجازر، التي ارتكبتها أسرائيل ضد الفلسطينيين، ومقارنتها بالمحرقة. وأنت حر أن ترفض مقارنتها بالمحرقة النازية فهذا شأنك، وغضبك وغضب غيرك لن يغير من واقع الأمر شيئا فكل إنسان يرى في مصائبه الأكبر والأعظم. فدولة الاحتلال ارتكبت مجازر بحق الفلسطينيين، وأنتم أو حتى نكون أكثر إنصافا، نظامكم النازي ارتكب أبشع المجازر والمحارق ضد اليهود، ولا يتجرأ أحد على نكرانها ولا يمكن نكرانها، ومن حقكم أن تتمسكوا بموقفكم، ولكن من حق الشعب الفلسطيني ورئيسه أيضا أن يركز خلال جولاته وزياراته لدول العالم، على مصائب شعبه والجرائم التي يتعرضون لها يوميا منذ قيام دولة الاحتلال عام 1948. وليس الحديث عن المحرقة فهذه لها ناسها.

على فكرة المجازر والمذابح لا تقاس بعدد الضحايا، بل بفكرة القتل نفسها فمن يقدم على قتل شخص بريء أو اكثر، دون ذنب يرتكبونه ويحصدهم حصدا كما فعلت العصابات الصهيونية على مدى تاريخها في فلسطين، لن يتورع عن قتل الآلاف والملايين. فبالامس على سبيل المثال دخل جنود الاحتلال إلى منزل في القدس وأعدموا شابا أمام أعين والديه، من دون ذنب اقترفه ليعترفوا لاحقا بأنهم دخلوا البيت الخطأ وقتلوا الشاب الخطأ ولا اعتذار. وقبل ذلك كانت مجزرة غزة التي راح ضحيتها 49 شخصا جلهم من الأطفال وخمسة منهم، وباعتراف إسرائيل، قتلوا بصاروخ أطلقته طائرة إسرائيلية بينما كانوا يلهون في مقبرة مجاورة هربا من القصف، ولم نسمع من شولتس وغيره من المسؤولين الغربيين، ولو كلمة إدانة واحدة.

أنتم الألمان الرسميون تريدون تحمل ذنب نظامكم النازي والجرائم التي ارتكبها ممثلة بالمحرقة، بعد كل هذه العقود، وتريدون مواصلة الإحساس بالذنب، فهذا كما سبق وذكرت من حقكم، لكن لا تطالبونا بتبني موقفكم وننكر ما ترتكبه إسرائيل بحقنا وحق أطفالنا يوميا. يا شولتس إن سنة الحياة تقول إن كل شخص يرى في مصائبه الأعظم، ومن حقنا عليك وعلى غيرك من المسؤولين الغربيين أن تدعموا القضايا العادلة وأن تحترموا مشاعرنا وقضيتنا ولا نريد أموالكم إن كان الثمن نسيان قضيتنا ولا ندافع عنها في المحافل الدولية.