احتلال الحب!

الياس خوري

العنوان الذي اخترته لهذا المقال مستفز وغير ملائم.

من يستطيع أن يحتل الحب؟

الحب هو الذي يمتلك المساحات التي يشاء من أرواحنا، ولا قدرة لأحد على إخضاعه أو احتلاله.

غير أننا نعيش في زمن أحمق، لأن هناك من قرر تنظيم الحب والسيطرة عليه عبر إخضاعه لسلطة المخابرات؟

وهنا تقع المفارقة، وكي أبدأ من الآخر، كما يقولون، فقد قرر جيش الاحتلال الإسرائيلي وضع قيود وقوانين هدفها منع الحب في الضفة الغربية المحتلة، التي يطلقون عليها اسم «يهودا والسامرة».

فحوى القرار الإسرائيلي هو تنظيم أو منع الحب بين الفلسطينيات والفلسطينيين والأجانب الذين يزورون الأرض الفلسطينية المحتلة.

القرار ليس نكتة سمجة، بل هو جزء مما يسميه الإسرائيليون «الهندسة الديموغرافية للفلسطينيين».

يقول القرار حرفياً بأنه على الأجنبي أو الأجنبية الذي يقيم علاقة «رومانسية» مع فلسطيني أو فلسطينية إبلاغ وزارة الدفاع الإسرائيلية خلال فترة 30 يوماً من بداية العلاقة.

أما إذا تزوج الأجنبي أو الأجنبية من فلسطينية أو فلسطيني فإن عليه ترك البلاد بعد 27 شهراً، خلال فترة «تبريد» مدتها نصف سنة على الأقل.

انظروا الى التعبيرين: «علاقة رومانسية»، «وتبريد».

نعم، نحن نعيش في مرحلة الانحطاط، وهذا ما نختبره في العالم العربي في ظل الاستبداد. لكن الاحتلال الإسرائيلي يأخذ الفلسطينيين في الأرض المحتلة إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم انحطاط الانحطاط.

تأملوا انحطاط الانحطاط.

من قال لواضع القانون الإسرائيلي أن الصفة الوحيدة للحب هي الرومانسية. فالحب لا صفة له لأنه يعلو على الوصف. يمكن وصف أعراضه كما فعلت اللغة العربية عندما اقترحت عشرين اسماً أو أكثر للحب. وهي أسماء- صفات عصية على الترجمة إلى اللغات الأخرى.

أما كلمة «تبريد» فتحيرني، ما معنى هذه الكلمة وما هو محلها من الإعراب؟ الإسرائيليون خبراء في تبريد جثث الشهداء، فيرفضون تسليمها إلى ذويهم، ويتركونها سنوات في برادات المشافي. أما تبريد الحب، فهذه بدعة لم يسبقهم إليها أحد.

بعدما تلقينا دروساً في الموت، علينا الآن أن نتلقى من أوغاد جيش الاحتلال دروساً في الحب.

الدروس الحمقاء لا تعد، من منع إدخال الكزبرة إلى غزة، إلى منع فلسطينيي 1948 من قطف الزعتر البري والعكّوب، قرارات تشير للوهلة الأولى بأن من اتخذها مصاب بلوثة عقلية.

المرض العقلي أو النفسي لا يفسر كل شيء. صحيح أن القتلة والمجرمين والمحتلين قد يكونون مصابين بلوثة نفسية تستدعي العلاج، لكن الصحيح أيضاً أن ما يبدو حمقاً وجنوناً، ليس سوى تنفيذ بطيء وعلى مراحل للتطهير العرقي.

احتار الإسرائيليون ماذا يفعلون بالفلسطينيين، آخر ابتكاراتهم هو «جز العشب»، وهو استعارة لمشروع منهجي لقتل شباب المقاومة في الضفة. يجزون العشب فينبت من جديد، يمنعون العكّوب فيقطفه الفلسطينيون كما يشاؤون، يضطهدون الصبير فتصير تينة الصحراء غذاء للفدائيين الذين شقوا باطن الأرض في سجن جلبوع، بحثاً عن حريتهم.

بعد «جزّ العشب» طلعوا علينا بقرار «جز الحب». اليوم قرروا ضبط الحب بين الفلسطينيين والأجانب الذين يزورون الضفة الغربية المحتلة. ماذا سيمنعهم غداً من منع أو تقنين أو تنظيم الحب بين الفلسطينيين أنفسهم؟

احتلال فالت من عقاله، يعطي العالم دروساً في الأخلاق. يتنعّج حيناً كي يستدر العطف، ويتذأّب أحياناً أخرى كي يخيفنا.

لكنه حين اقترب من السعي لاحتلال الحب، وقع في الفخ.

ينسى الإسرائيليون أن الفلسطينيين ينتمون إلى فضاء ثقافي صنع مفرادته الأولى حين تغنى بالحب وكتبه.

قد تكون الثقافة العربية من أغنى ثقافات الحب في العالم، من شعراء الجاهلية إلى الشعراء المحدثين.

اخترع العرب أنواع الحب المختلفة، وكتب علماؤهم مصنفات لا تحصى في الحب: «طوق الحمامة»، «مصارع العشاق»، «ترجمان الأشواق»…

اختلط الفقهاء بالدنيويين في جهود لا تنتهي لتصنيف الحب، وكتب الصوفيون أجمل قصائد الحب.

حب يبدأ من أمرئ القيس في جرأته ومجونه، إلى نزار قباني، ومن الحلاج وابن عربي إلى السياب ودرويش.

ثقافة كاملة اختزنت معاني الحب، وصنعت له صرحاً من الجنون، وأفقاً من الرغبات، وفضاء من الحنو، وسلماً للروح.

ثقافة تدرجت بنا من الهوى إلى الوجد، ومن الود إلى الصبوة، ومن الشغف إلى الهيام، تجد نفسها اليوم رهن التحقيق في مختبرات الاحتلال.

ويأتيك محقق أرعن من الشاباك كي يحقق مع قلبك.

«من أنت»؟ تصرخ به، «وماذا أتى بك إلى هنا؟ ومن جعلك تعتقد أنك تستطيع أن تجزّ عشب قلبي»؟

ينسى الإسرائيليون أن الفلسطينيات والفلسطينيين يقاومون بالحب ويصمدون بالحب، ويموتون شهداء بالحب.

الحب قادر على صنع المعجزات. صمود الأسرى في الزنازين حب، وكرامة الفلاحين الذين يحتضنون أشجار زيتونهم المقتلعة فعل حب.

رسالة الشهيد إبراهيم النابلسي الصوتية إلى أمه، قبل لحظات من استشهاده، بدأت بالحب وانتهت به.

فلسطين لن تموت لأنها مجبولة بالحب.

ويأتيك في آخر الزمن من يتطاول على الحب، لأن جرائم دولته المستمرة منذ سبعة عقود ملأته حقداً وكراهية.

إسرائيل دولة سكرانة بجبروتها العسكري، وباقتناعها بأنها تستطيع أن تفعل ما يمليه عليها جنون القوة.

ماذا بعد هذا القعر العنصري الذي وصل إليه الاحتلال.

قد يكون القرار الإسرائيلي مُحقاً في نقطة واحدة، فقلوب الفلسطينيين التي تغلي قهراً بحاجة إلى تبريد.

ولن يبردها سوى زوال الاحتلال.

وفي هذه الأرض التي يقاوم فيها الناس دفاعاً عن الحياة، علينا أن لا ننسى أن الحياة تكتسب معناها بالحب، وأننا نقاتل بالحب.