تونس: حملة انتخابية فلكلورية كاريكاتورية

محمد كريشان

ضحك كثير هذه الأيام في تونس، لكنه ضحك كالبكاء.

حالة سريالية حقا بل وفلكلورية غير مسبوقة أظهرها المرشحون للانتخابات التشريعية المقررة ليوم 17 من هذا الشهر والتي ستجري لأول مرة وفق النظام الفردي وفي ظل مقاطعة شبه كاملة من جميع الأحزاب بمختلف تلويناتها.

حالة من الذهول سبّبتها ليس فقط ضحالة المترشحين وشعاراتهم «الفكاهية»، التي لم يتحرجوا من طباعتها على ملصقات وترويجها، بل كذلك مداخلاتهم التلفزيونية ومختلف المواد الفيلمية التي يعرضونها على صفحاتهم المختلفة التي تحوّلت عمليا إلى مادة ساخرة يتداولها التونسيون بكثافة هذه الأيام للتندر والتسلية.

هذه التسلية باتت محرجة للغاية لجماعة قيس سعيّد الحالمين بـ«العلو الشاهق في التاريخ» الذي وعدهم به و«الجمهورية الجديدة» الفريدة في كل شيء التي سيبنيها، مما حدا بـ«الهيئة المستقلة للانتخابات» إلى إصدار بيان تشير فيه إلى أن «مقاطع الفيديو والصور التي يتم تداولها (..) لا تتعلق في أغلبها بمترشحين»، معتبرة أنها في الحقيقة «تتنزل في إطار حملة ممنهجة قصد تشويه العملية الانتخابية وترذيلها بهدف التأثير على المشاركة في هذه الانتخابات». بيان لم يصدّقه أغلبهم لسبب بسيط للغاية وهي أنه ليس لهذه اللجنة أية صدقية يُعتد بها.

صحيح أن العشرية الماضية لم تخل من مثل هذه النماذج، ومن بينها من كان حتى عضوا في «المجلس الوطني التأسيسي» الذي انتخب بعد الثورة أو البرلمان الذي جاءت به انتخابات 2014، لكنها ظلت في النهاية محدودة بأشخاص بعينهم في حين نراها اليوم أشبه بالموجة الغالبة. المفارقة الصادمة أيضا، أن بعض نواب الشعب من المجلس الذي حلّه قيس سعيّد، بشكل اعتباطي ولا دستوري، لم يعبؤوا بمدى الإهانة، السياسية والشخصية، التي ألحقوها بأنفسهم من جديد حين قرروا الترشح للانتخابات المقبلة.

أحد التونسيين كتب بمرارة كبيرة في أحد مواقع التواصل يقول: «أبرز الخطاب السياسي المتداول في الحملة الانتخابية الحالية سقوطا مدويا لجيل سياسي بأكمله، جيل حمل الايديولوجيا لسنوات على كتفيه وفشل في التقاط لحظة تاريخية لتأسيس نظام وطني ديمقراطي، جيل ضاع في السجون والمناكفات السياسية وتفاصيل الحياة السخيفة، جيل ترهّل ولم يكن قادرا في اللحظة المناسبة على صنع الربيع السياسي، جيل تحمّل أعباء الوطـن بحب وخيال وفكر، وفي الأخير تركها لهؤلاء».

يضاف طبعا، إلى كل ما سبق، الاعتبار المبدئي الأهم وهي أن هذه الانتخابات تجري وفق مسار مطعون فيه برمته منذ أن انقلب الرئيس التونسي على الدستور في 25 يوليو/ تموز العام الماضي، وشرع في هندسة الدستور وكل القوانين منفردا وعلى مزاجه ونشرها فورا في المجلة الرسمية التي شبّهها أحدهم بـ«طابعة خاصة» في مكتبه. ولذلك دعت كل الأحزاب البارزة، سواء المنضوية تحت «جبهة الخلاص الوطني» أو «تنسيقية الأحزاب الديمقراطية»، إلى مقاطعة الانتخابات على أساس أنها «تفتقد إلى أبسط معايير النزاهة والشفافية والديمقراطية»، كما أن الأمين العام لاتحاد الشغل، الذي أرهق المراقبين بوضع رجل مع سعيّد ورجل ضده، لم يجد بدا من التصريح مؤخرا بأن الانتخابات المقبلة «بلا لون ولا طعم وجاءت وليدة دستور لم يكن تشاركيا ولا محل إجماع أو موافقة الأغلبية».

لا شيء في الحملة الانتخابية الجارية حاليا استرعى حقا انتباه التونسيين، الشغوفين في الوقت الحاضر بمتابعة مباريات كأس العالم لكرة القدم في الدوحة، سوى تلك اللقطات المضحكة للتندّر لا أكثر، فلا اجتماعات شعبية ولا نقاشات ولا جدل حول برامج ولا شيء من ذلك على الاطلاق فأغلب المرشحين نكرات، متواضعو الثقافة، بدون تجربة سياسية، لا يعوّلون سوى على ارتباطاتهم المحلية الضيقة أو ولاءاتهم العائلية والعشائرية وشبكة مصالحهم، كما تحوم حول الكثير منهم أسئلة مريبة مما يلقي بظلال كثيرة من الشك في طبيعة هذا المجلس الكسيح المنتظر.

كل ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأن نسبة المشاركة في هذه الانتخابات ستكون ضعيفة للغاية بسبب كل ما سبق، وبسبب حالة الإحباط التي تلف الشارع التونسي بعد كل الذي يعايشونه من ضنك في حياتهم اليومية مع سلطة مهزوزة ومعارضة لم تقنعهم، حتى أن رئيس «الهيئة العليا المستقلة للانتخابات» التي عيّنها سعيّد نفسه، بعد أن كانت فعلا مستقلة ومنتخبة من البرلمان، اعتبر أن الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات و«التنفير» منها «جريمة انتخابية» قبل أن يتراجع عن تصريحاته لاحقا أو بالأحرى ينكر أنه قالها أصلا.

الأطرف من كل ما سبق أن هذه الانتخابات لن تعرف لها نتائج يمكنها أن يفهمها الداخل والخارج، طالما أنها تقوم على نظام الاقتراع الفردي حتى أن أحد المراسلين الصحافيين في تونس يقول إنه لا يعرف كيف سيعلن النتائج فهو لن يستطيع القول بفوز هذا التيار أو ذاك أو هزيمة قاسية لهذا التوجه أو ذاك. كل ذلك متعذر تماما بحيث لن يبقى له سوى نسبة الإقبال يعلنها ليس أكثر. نسبة لن تجد السلطة عناء كبيرا في «تجميلها» كما فعلت من قبل.