الخاطرة ٣٢٢ : عدالة السماء في مونديال قطر الجزء ٢

ز. سانا

الخواطر من الكون المجاور

في البداية أود أن ذكر ملاحظة هامة وهي أن هذه المقالة مرتبطة بالجزء الأول ، وفهم معلوماتها يحتاج العودة إلى الجزء الأول وقراءته لكي لا يشعر القارئ بغرابة المعلومات والمصطلحات المطروحة في هذه المقالة . أيضا أرجو من القراء عدم رؤية الموضوع من زاوية سياسية ، فالسياسة كما أصبحت اليوم دورها ليس حل المشكلات ولكن تدمير الروابط الإنسانية.

مونديال قطر ٢٠٢٢ والذي أصبح علامة إلهية في دخول الإنسانية بمرحلة جديدة في تطور الإنسانية ، شاءت الأقدار الإلهية أن تحدث في قطر وليس دولة أخرى من دول الخليج فنجاح المونديال في المملكة العربية السعودية - مثلا- لن يشكل صدمة لشعوب العالم لأن السعودية كدولة هي أكبر دول الخليج من حيث المساحة وعدد السكان وكذلك شهرتها واسعة عالميا كونها ثاني أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم . لهذا فحتى تحدث هذه الصدمة ، القدر الإلهي إختار دولة قطر والتي هي من أصغر دول الخليج (ثاني أصغر دولة بعد البحرين) من حيث المساحة وعدد السكان . فمعظم المسؤولين الرياضيين والسياسيين في العالم كانوا معترضين على لجنة الفيفا لكأس العالم لإعطاء دولة قطر مهمة تنظيم هذه المسابقة . وكانوا يتوقعون - وكثير منهم يتمنون - لها فشل ذريع لكي لا تُمنح أي دولة عربية حق تنظيم مثل هكذا حدث عالمي في المستقبل . ولكن شاءت الأقدار أن تكون النتيجة معاكسة تماما لجميع توقعاتهم وآمالهم . وسبحان الله وبتدبير إلهي في مونديال قطر حدثت أشياء سلطت الضوء على كل ماذكرناه في الجزء الأول عن دور الرياضة في الصراع بين منطق التيار الحديث (الفوضى الخلاقة) ومنطق التيار الإنساني (الإنسجام والتعاون) في تطور الإنسانية . وسنحاول توضيح وتفسير معظم أهم الأحداث الرمزية التي حصلت في مونديال قطر في الأسطر التالية.

جميع إفتتاحيات مونديال كأس العالم ، كانت بشكل عام تعتمد بشكل أساسي على إظهار التراث الشعبي الخاص للدولة المستضيفة ، ومعظمها في الأوانة الأخيرة كانت تحاول إستخدام أساليب مادية لإبهار العالم من خلال إستعراضات تعتمد بشكل كبير على التقدم التكنولوجي لتظهره وكأنه معجزة من معجزات العصر الحديث . أما في مونديال قطر فرغم أنه تم إستخدام أرقى ما توصلت إليه التكنولوجيا الحديثة ، ولكن تم إستخدامها فقط لتسلط الضوء على الجانب الإنساني . فمونديال قطر الذي أدهش العالم سلط الضوء بشكل أكبر على أمور روحية لا علاقة لها بالتقدم التكنولوجي ، حتى التراث العربي تم عرضه بصورة تخص التراث الإنساني بأكمله ، فمونديال قطر هو أول مونديال يخرج عن النطاق المحلي للدولة المستضيفة ليشمل الإنسانية جمعاء .

ففي بلاد اليونان (الإغريق) التي ظهرت فيها الألعاب الأولمبية لأول مرة عام /٧٧٦/ قبل الميلاد ، لتساهم في إزدهار الحضارات ، حدث أن سكان بعض المناطق في اليونان أساؤوا فهم المعنى الحقيقي للرياضة ، فأصبحت العادة في تلك الأزمنة في بعض المناطق من اليونان ، أن الأمهات عندما تجدن أن المولود الذي أنجبتهن معاق أو فيه عاهة جسدية ، كن يذهبن به إلى أحد المنحدرات ويقذفن به ليتخلصن منه كونه جسديا غير سليم ، فالحكمة هناك كانت تقول (العقل السليم في الجسم السليم) . هذا المفهوم الخاطئ عن التكوين الإنساني وجب تصحيحه . في إفتتاحية كأس العالم في قطر ، نجد الشعور الإنساني يظهر بأرقى معانيه ، حيث يظهر الشاب غانم المفتاح المصاب بمرض متلازمة التراجع الذيلي (النصف السفلي من الجسد غير موجود) . غانم المفتاح الذي يملك نصف جسد (القسم العلوي) ، والذي أبهر شعوب العالم كونه أصغر متحدث في الأمم المتحدة وهو يتكلم عن عاهته وكفاحه وتحديه لتلك الصعوبات التي وضعتها عاهته أمامه لتحاول أن تجعل حياته كابوسا مرعبا في عصر يهتم بمادية الأشياء ويمجد تناسق أبعاد الجسد والعضلات المفتولة أكثر من إهتمامه بالنجاح الفكري والروحي . غانم الذي تكلم عن نجاحاته وسعادته وطموحاته ، بظهوره في إفتتاحية المونديال جعل من هذا المونديال أن يثبت للعالم أجمع خطأ مقولة (العقل السليم في الجسم السليم) وأن الإنسان ليس حيوانا وإنما كائن روحي أولا ، والأصح هو العبارة (العقل السليم في الروح السليمة) .

إن إختيار شاب يملك نصف جسد فقط (القسم العلوي) إسمه غانم المفتاح كان قدرا إلهياً في أن يولد في قطر التي ستقوم بتنظيم مونديال كأس العالم ٢٠٢٢ ، فولادته وإختياره في مونديال قطر لم يكن صدفة أو تخطيط من عقل بشري لما يحمله من معنى رمزي له علاقة بفلسفة الرياضة .

الشاب غانم المفتاح في الحقيقة هو رمز يجمع بين مسابقة الألعاب الأولمبية ومسابقة سوق عكاظ الشعرية ، ولهذا كانت عاهة غانم أن تجعل جسده بلا قسم سفلي (كرمز للأعضاء التناسلية) في عصر يروج للإباحة الجنسية ويفرض قوانين دولية تدافع بقوة عن حرية المثلية الجنسية لنشرها في جميع شعوب العالم . فظهور غانم أمام شاشات العالم بأكمله ليفتتح المونديال الذي يمثل أكبر وأشهر حدث عالمي كان علامة إلهية وكأنها تقول للجميع بأن الرياضة ليس هدفها تكوين جسم مثير جنسيا ليساعد في نشر الإباحة الجنسية والشذوذ الجنسي ، ولكنها وسيلة لتحسين الصحة ولتنمية العلاقة الروحية بين المرأة والرجل . فالعلاقة {(عفة - سلام) و(زنى- قتل)} هي قانون كوني ، ولا يمكن أن يظهر السلام إذا لم توجد روح العفة في النظام الإجتماعي ، كذلك لا يمكن أن يظهر حب العنف والوحشية إذا لم توجد روح الإباحة الجنسية .

(هذا القانون الإلهي تكلمت عنه بالتفصيل الدقيق في مقالات ماضية) .

أيضا كلمة (غانم) أسم هذا الشاب صاحب النصف جسد ، والذي ظهر في بداية إفتتاحية المونديال لم يكن صدفة ولكن علامة إلهية . فإسم (غانم) معناه الفائز بالغنيمة أي المنتصر في الحرب . والحرب هنا ليست أي حرب ، ولكن المقصود بها هو ذلك الصراع التاريخي بين المذهب الفكري المثالي والمذهب المادي . فالمذهب المادي يَعتبر أن أصل كل شيء هو المادة ، بينما المذهب المثالي يعتبر أن أصل كل شيء هو الروح أي أن الله هو البداية لكل شيء في الكون . المذهب المادي يرى الأمور من زاوية ضيقة ترى فقط سطحية الأشياء وسطحية الأحداث ، والذي أدى في النهاية إلى ظهور الفكر الماركسي والذي بدوره إستطاع السيطرة على المنهج العلمي الحديث فكانت النتيحة التي نراها اليوم إنتشار الفوضى والإلحاد وحب العنف والوحشية وكذلك إنتشار الإباحة الجنسية في معظم شعوب العالم . لهذا الدين الإسلامي أعطى قائد روح السوء إسم (الأعور الدجال) كونه يرى الأمور بعين واحدة فقط وهي الرؤية المادية (الرؤية الماركسية) .

بينما المذهب المثالي هو المذهب الذي يستخدم الرؤية الشاملة (الرؤية الروحية والرؤية المادية) التي ترى شكل ومضمون الأشياء والأحداث ، فمن خلال هذه الرؤية الشاملة يمكننا فهم الحكمة الإلهية في سبب وجود كل شيء وكل حدث وبالتالي يمكننا رؤية وفهم نوعية تلك العلاقة التي تربط الشيء مع جميع ما يحيط به من أشياء ، وكذلك علاقة الحدث بجميع الأحداث التي تحيط به . فعن طريق الرؤية الشاملة فقط نستطيع رؤية الحكمة الإلهية في خلق الكون وفي كل ما يحتويه وكل ما يحصل في داخله كوحدة متكاملة كرواية واحدة كتبها الله عز وجل ، وليس ككتلة فوضوية من الأحداث المتناقضة .

فرغم أن الوضع العالمي اليوم يبدو وكأن المذهب المادي قد إنتصر في هذا الصراع ، ولكن إختيار الشاب غانم المفتاح بالذات وليس شخص آخرا ليقوم هو بإفتتاحية المونديال ، كان أقوى رد على هذا الإنتصار المزيف الذي يتباهى به أصحاب الفوضى الخلاقة . فالشاب غانم الذي يملك فقط القسم العلوي من جسد الإنسان (رمز القسم الروحي) بفضل الله وعزيمة غانم القوية وبفضل أفراد عائلته والناس الطيبين من حوله ، إستطاع أن يصبح أكثر شخصية مؤثرة في وسائل التواصل الاجتماعي في قطر والذي دفع المسؤولين هناك لإختياره سفير النوايا الحسنة لدولة قطر . فظهور إسم غانم في إفتتاحية مونديال قطر هو إثبات يؤكد أن التيار الإنساني (التعاون والإنسجام) لم يخسر الصراع ونجاح هذا الشاب الذي يملك نصف جسد في حياته ، كان غنيمة لإنتصار الخير على الشر ، ولهذا كان إسمه غانم . وكلمة (مفتاح) وهي كنية هذا الشاب هو دليل إلهي على نهاية عصر فاشل وبداية عصر جديد بدأ يفتح بابه لتدخل منه الإنسانية .

جميع إفتتاحيات مسابقات كأس العالم السابقة كان هدفها التعبير عن شيء يخص هوية وتراث شعب الدولة المنظمة للمونديال ، بمعنى أنها إعتمدت على إظهار شيء شخصي يخص تراثها هي .بينما إفتتاحية مونديال قطر بدأت بشيء يُعبر عن الهوية العالمية للبشرية وينظر إليها وكأنها عائلة كبيرة واحدة ، حيث بدأ المونديال بتلاوة آية من القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) الحجرات} . إن إختيار هذه الآية القرآنية بالذات يُعبر عن حكمة راقية من لجنة تنظيم المونديال ، فهي أنسب آية مقدسة لإفتتاحية مثل هكذا حدث عالمي يشارك به العديد من الشعوب . حيث أنها تدعو إلى رفض جميع أنواع التعصب ، وقبول الإختلاف والتنوع بين البشر . فالتعددية ليست ظاهرة سلبية ولكنها ظاهرة إيجابية ، فهناك تعددية في العلوم وتعددية في الفنون ، ففي العلوم -مثلا- يوجد علوم مادية وعلوم إنسانية ، في العلوم المادية يوجد أيضا تعددية مثل علم الفيزياء وعلم الكيمياء ، والطب والهندسة والرياضيات ...إلخ . وفي كل علم أيضا يوجد تعددية فهناك إختصاصات مختلفة . فهذه التعددية الموجودة في الشعوب ليست من أجل التمييز العنصري ولكن حكمة إلهية . فالتعددية في الشعوب ضرورية من أجل الوصول إلى الرؤية الشاملة والفهم الكامل لحقيقة الأشياء والأحداث ، فكل شعب تحيط به ظروف مادية وروحية خاصة به . حيث نوعية الكائنات الحية التي تعيش في أرضه من نباتات وحيوانات ، وكذلك نوعية التربة والبيئة والمناخ . كل هذه الإختلافات تجعل تكوين كل شعب أو أمة نوعا ما مختلف روحيا وجسديا عن الشعوب والأمم الأخرى . فإختلاف التكوين يرافقه إختلاف في زاوية الرؤية . فحتى نحصل على إدراك شامل لحقيقة الشيء أو الحدث المدروس لا بد من تعاون الشعوب ليضيف كل شعب زاوية رؤيته الخاصة به للشيء أو الحدث المدورس . فهذا التعاون يوحد زوايا الرؤية ويحقق دراسة الشيء أو الحدث من جميع زواياه . فكل أمة منحها الله ميزة حسنة خاصة بها ، هذه هي الحكمة من تعدد الشعوب والأعراق واللغات {... إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (٧) الرعد} . ( الهاد ) هنا لا يعني بالضرورة نبي أو رسول يتكلم عن دين معين ، ولكن هذه الكلمة تشمل أيضا حكماء وفلاسفة وعلماء وفنانين وأيضا رياضيين ، فهي تشمل جميع الأنشطة الإنسانية. فجميع هؤلاء يساهمون في ولادة وإزدهار الحضارات . فعن طريق التعاون بين الشعوب يجعل الإنسانية تسير نحو الكمال .

جميع تعويذات المونديال (التميمة mascot)‏ كانت في المسابقات الماضية ذات تعبير مادي فقير ، فكان شكلها عبارة عن مجسم أو دمية لأشخاص أو حيوانات أو كائنات كومبيوتر يمثل رمز الدولة المستضيفة للمونديال . ولكن تعويذة مونديال قطر كانت عبارة عن وجه طفل مليء بالبراءة يرتدي العترة العربية التي تنساب إلى الأسفل وتشكل ما يشبه الأجنحة ليعطيها هيئة طفل بلون أبيض يطير من مكان إلى آخر، لتجعله يبدو وكأنه روح بريئة لطيفة تداعب وترحب بجميع زوار قطر من جميع شعوب العالم. هذه التعويذة ذكرتني ببطل أفلام الكرتون الشبح الأبيض الصغير (كاسبر) محبوب الأطفال الذي كان يساعدهم في الإنتصار على الأشرار .

إن إختيار هذه التعويذة بدا واضحا تماما بحجم الفرق المعنوي بين مونديال قطر والمونديالات السابقة ، لتثبت قطر للعالم بأن مونديال قطر هو بداية عصر جديد يكون فيه تطور الإنسانية تحت سيطرة الكائن العلوي في الإنسان . فتعويذة قطر بلونها الأبيض في الإفتتاحية كانت أشبه بملاك صغير يبتسم ويطير بين التعويذات الأخرى التي لها أشكال مختلفة : كلب ، ذئب ، فهد ،أسد ، كائنات خرافية ، ليس لها علاقة بالسمات الروحية للقسم العلوي من تكوين الإنسان.

بعض المسلمين المتعصبين للدين الإسلامي في قطر ، حاولوا إستغلال مونديال قطر لنشر الدين الإسلامي فأتوا بالداعية الهندي الدكتور ذاكر نايك ليتكلم عن الإسلام أمام الأجانب القادمين لرؤية مباريات كأس العالم وتشجيع فريق منتخبهم . إن دعوة الدكتور ذاكر إلى قطر وفي أيام مونديال كأس العالم كان سيكون لصالح التيار الحديث (الفوضى الخلاقة) وليس لصالح الإسلام والمسلمين . فدعوة الدكتور ذاكر بالذات والمنبوذ من حكومات الدول الغربية ، كان من الممكن أن يحول مونديال قطر إلى أسوأ مونديال في تاريخ الرياضة ، لأن أنصار التيار الحديث كانوا سيستغلون هذا التعصب الديني عند بعض المسلمين ، ليجعلوا منه فتنة شرسة بين متعصبي الديانات العالمية ومتعصبي الدين الإسلامي . ولكن -والحمد لله- السلطة القطرية تعاملت بحكمة بهذا الموضوع حيث أنها تدخلت ومنعت الدكتور ذاكر من الظهور وممارسة هذا الدور . فالمسلم الذي يريد نشر دينه ، عليه أن يجعل سلوكه وتعامله مع الآخرين بما يطابق تعاليم الدين الإسلامي في الاخلاق ، والسلطة القطرية والشعب القطري قاموا بتحقيق هذا الأمر على أفضل ما يرام في تغيير الصورة الخاطئة عن المسلمين وعن العرب والتي يُروج لها الإعلام والأفلام السينمائية الغربية .

فالبنية التحتية للبلاد في قطر من مطارات والطرق الجوية والأرضية ووسائل المواصلات والشوارع وإمداد المياه والموارد المائية وإدارة مياه الصرف ، والنظافة العامة وتأمين الخدمات الصحية والأمنية في جميع الأماكن ، وغيرها من الخدمات التي تؤمن للمواطن حقوقه في الراحة والعيش الكريم ، جميع هذه الأشياء في قطر كانت في أعلى مستوياتها بحيث جعلت سواح الدول المتقدمة ينصدمون من رقي هذه الخدمات و من رقي كرم الشعب العربي وبطريقة تعامله مع الأجانب من كافة شعوب العالم .

وعدا عن ذلك فمونديال قطر سمح للكثير من السواح الأجانب بإستغلال وجودهم في المنطقة ليسافروا إلى دبي والمدن الأخرى في الإمارات والسعودية ، ليروا ويشاهدوا بأم عينهم أن العرب ليسوا عبارة عن شعوب متخلفة بمنازل من الطوب وشوارع ترابية قذرة كما يصورها الإعلام والسينما الغربية ، ولكنها منازل راقية وشوارع نظيفة وخدمات راقية ، وأنه لولا تدخل وسيطرة ونهب حكومات الدول الغربية للشعوب العربية بأساليبها الملتوية لكانت الدول العربية جميعها في هذا المستوى الراقي . فالأمر لا يتعلق بحجم رأسمال الدولة بقدر ما يتعلق بنوعية تلك القوى الحقيقية التي تسيطر على الدولة نفسها .

حتى يتم نجاح مونديال كأس العالم في قطر من جميع النواحي فرضت السلطة القطرية تطبيق قوانين حقوق الإنسان في أرقى أشكالها والتي تعتمد مبدأ (تنتهي حرية الفرد عندما تبدأ حرية الآخرين) . لهذا قامت السلطات القطرية بمنع بيع وتناول المشروبات الكحولية في الأماكن العامة ، لأن تناول الكحول قد يؤدي إلى إختلال الوعي العقلي لشاربه والذي قد يدفعه إلى إيذاء الآخرين معنويا أو جسديا أو حتى إلى إيذاء نفسه وخاصة بوجود تلك الأجواء التنافسية بين المنتخبات . وهذا القرار لم يكن تعصب ديني ، ففي اليونان كانت السلطة تمنع بيع وتناول المشروبات الكحولية في أيام الإنتخابات تحسبا لتلك المشاكل التي تحدث نتيجة تنافس الأحزاب . والجميل في الأمر أنه بدلا من أن يثور سواح الدول الغربية في قطر على هذا القرار كون المشروبات الكحولية هي جزء من حياتهم اليومية وأن منعها سيحد من متعتهم وسعادتهم ، حدث العكس تماما فكثير منهم خلال تلك الأيام التي عاشوها بعيدا عن الخمرة شعروا بالمعنى الحقيقي للمتعة والمشاركة مع الأخرين في التعبير عن إنفعالاتهم وسعادتهم لما يشاهدون ولما يحدث من حولهم في الواقع الحقيقي وليس في ذلك العالم المزيف الذي تخلقه الخمرة في عقولهم .

كثير من سواح المونديال شعروا بمعنى أن يرتدي الإنسان -نساء ورجال- ثيابا محتشمة تجعله ينظر في وجه الناس ليرى فيها التعابير الإنسانية بمختلف أنواعها لتنمي في داخله المشاعر الإنسانية ، لا أن ينظر في مفاتن جسدهم لتثير فيه الشهوات الحيوانية .

كثير من سواح المونديال أصابتهم الدهشة وهم يشاهدون المسلمين يستيقظون في ساعات الفجر يخرجون من بيوتهم ليذهبوا ويصلوا في المساجد . فهؤلاء السواح يعلمون تماما أن الإستيقاظ عند الفجر فقط من أجل الصلاة يحتاج إلى إرادة قوية وإيمان قوي أيضا ، إرادة وإيمان يستطيع بهما الإنسان الإنتصار على رغبات الجسد .

مونديال قطر رغم أنه حدث عالمي في كرة القدم إستطاع تحسين صورة الدين الإسلامي والمسلمين في فكر غير المسلمين بأرقى طريقة كونه قد إستخدم أسلوب يحاكي العقل الباطني بداخل الناس الغير المسلمين ، وهذا النوع من أساليب التأثير على الآخرين أرقى بكثير من تلك المناظرات الدينية التي تعتمد المبدأ (وجهي جميل أما وجهك فهو قبيح) التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الماضي والتي ساهمت بشكل كبير في زرع الفتنة بين أتباع الأديان العالمية وساهمت أيضا في تقوية سيطرة التيار الحديث من خلال إستغلاله لمثل هذا النوع من التحدي والتجريح .

القوى العالمية للتيار الحديث التي تحاول نشر أهدافها في جميع شعوب العالم ، ومنها نشر المثلية الجنسية كحق من حقوق الإنسان لتجعله يبدو أن معظم أفراد شعوب الدول المتقدمة تؤمن بضرورة فرضه على جميع الشعوب . هذه القوى أيضا حاولت نشر المثلية في مونديال كأس العالم في قطر ، ولكن تبين في هذا المونديال حقيقة هذه الكذبة الوهمية ، فعندما منعت السلطات القطرية حمل شعار المثلية منعا قاطعا ، معظم سواح المونديال - داخل الملاعب وخارجه - والذين ينتمون لمعظم شعوب العالم ، لم يمتعضوا ولم يعارضوا هذا القرار بل على العكس تابعوا حياتهم في قطر بشكل طبيعي وكأنهم يوافقون على ما فعلته السلطات القطرية. (موضوع المثلية سنعود ونتكلم عنه في الجزء القادم إن شاءالله) .

للأسف أهم رمز في مونديال قطر ، لم يتكلم عنه أحد لا في الإعلام ولا في وسائل التواصل الاجتماعي ، وهو شعار المونديال الذي يحمل شكل رقم ثمانية ( 8 ) . فإختيار هذا الشكل بالذات هو من وحي إلهي وليس من عقل بشري كونه يلخص مضمون كل ما حدث في هذا المونديال .

اللجنة المسؤولة عن مونديال قطر فسرت سبب إختيارها الشعار ( 8 ) لسببين : الأول هو أن هذا الشعار كرقم ثمانية يمثل عدد الاستادات التي ستستضيف مباريات بطولة كأس العالم في بيئة متقاربة المسافات ، وأما السبب الثاني هو أن شكل هذا الرقم يمثل رمز اللانهاية في علم الرياضيات ، وهو -حسب رأي اللجنة- يشير إلى الإرث المستدام الذي سيبقيه كأس العالم في قطر والمنطقة.

إن تفسير اللجنة لسبب إختيار الشعار ( 8 ) ، هو تفسير سطحي كونه تم إختياره عقليا ، أما التفسير الروحي وهو الأصح ، هو التأثير اللانهائي لهذا المونديال على العالم أجمع . فرمز اللانهاية في الرياضيات له شكل أفقي كونه رمز مادي ، أما الرقم ثمانية ( 8 ) فله شكل شاقولي يحمل معنى روحي أي أن مونديال قطر كان بداية لتغيير روحي عالمي . فهذا الشعار يخص الإنسانية بأكملها ، والذين يتابعون مقالات صفحة عين الروح يعلمون مدى أهمية شكل الرقم ثمانية كرمز في تكوين جميع مكونات الكون وتطور الحياة وتطور الإنسانية ، وقد تكلمت عنه في مقالات عديدة جداً .

شرح رمز الرقم ثمانية ، يحتاج إلى مئات الصفحات ، ولكن هنا سأذكر سريعا بعض الأشياء التي تتعلق بالمونديال :

الرقم ثمانية كرمز ديني إسلامي يمثل عدد أبواب الجنة { للجنة ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب (حديث شريف). فشعار مونديال قطر كان علامة إلهية على بداية تغيير فجائي عالمي سيحدث وسيؤدي إلى إنتصار تيار (التعاون والإنسجام) وهزيمة تيار (الفوضى الخلاقة) ، وهذه الهزيمة رآها جميع سكان العالم بأم أعينهم بشكل رمزي وهم يرون كريستيانو رونالدو يخرج باكيا من الملعب ، فرونالدو هو أشهر لاعب يحمل قميصه الرقم ( ٧ ) في تاريخ كرة القدم كونه يُمثل النموذج الحقيقي لأتباع تيار الفوضى الخلاقة .

الرقم ثمانية يمثل القسم الروحي من الرمز الإلهي ( ١٨ ) الموجود في خطوط كف اليد اليمنى للإنسان . شكل الرقم ثمانية كرقم هندي له الشكل ( ٨ ) ويمثل خطين متحدين في القمة ، وكرمز لوني ، فالخط اليميني يمثل اللون الأزرق ، والخط اليساري يمثل اللون الأخضر . الآية القرآنية (٣٥) من سورة النور تذكر (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..) ، النور هو الضوء الأبيض ويمثل ذلك الجزء من روح الله الذي نفخه في آدم بعد خلقه من طين . الضوء الأبيض هو لون مركب يتكون من إتحاد الألوان الرئيسية الثلاثة (الأزرق والأخضر والأحمر) والتي منها يتم تكوين جميع الألوان . الأزرق والأخضر معا يشكلان الرمز (٨) ويمثل الألوان الروحية ، أما الرمز (١) الموجود في القسم اليساري من الرمز(١٨) فهو رمز اللون الأحمر ويمثل اللون المادي . وكما ذكرنا في الجزء الماضي بأن مونديال قطر يقع في آسيا التي تمثل القسم الشرقي (الروحي) من شعوب العالم والتي فيها ظهرت مسابقة سوق عكاظ للقصائد الشعرية التي كان موضوعها الرئيسي هو الحب العذري ، والتي تعتبر القسم المكمل لمسابقة الألعاب الأولمبية لتأخذ الرياضة شكلها المثالي . فالعلاقة بين المراة والرجل عندما تكون علاقة حب روحي عندها تكون هذه العلاقة تحت سيطرة الرمز (٨) ، بينما عندما تكون هذه العلاقة مجرد إشباع رغبة جنسية (زنى) فتكون تحت سيطرة الرمز ( ١ ) . ليس من الصدفة أن علاقة ميسي بزوجته انتونيلا تُعتبر أشهر علاقة رومانسية بين مشاهير العصر الحديث من حيث الإخلاص في الحياة الزوجية. وليس من الصدفة أن رقم قميص ميسي هو الرقم ( ١٠ ) الذي بجمعه مع الرقم ( ٨ ) نحصل على الرمز الإلهي ( ١٨ ) . وليس من الصدفة أن أضخم إحتفال شهده العالم بفوز الأرجنتين بكأس العالم كان حول مسلة ساحة بلازا دي لا ريبوبليكا في مدينة بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين. فشكل المسلة هو (1) والذي يمثل القسم اليساري من الرمز الإلهي(١٨) . قطر تمثل الرمز (٨) وميسي في مونديال قطر كان يمثل الرمز (١) والذي ظهر على شكل مسلة في مدينة بوينس آيرس .

الشكل ( 8 ) الذي يمثل شعار مونديال قطر يحمل نفس المعنى الروحي للشكل (٨) ، فالشكل ( 8 ) هو أيضا عبارة عن قسمين على شكل دائرتين متحدتين ، الدائرة العلوية تمثل اللون الأزرق ، والدائرة السفلية تمثل اللون الأخضر ، وبما أن المونديال هو مسابقة رياضة في كرة القدم ، فكرة القدم هنا تمثل الدائرة الثالثة المنفصلة وتمثل اللون الأحمر . فمونديال قطر بهذا الشعار ( 8 ) مع فوز ميسي بكأس العالم ، كان علامة رمزية لها معنى أن كرة القدم والرياضة بشكل عام قد أخذت لونها الأبيض بمعنى أن الرياضة مع مونديال قطر دخل فيها نور روح الله كعلامة تؤكد دخول الإنسانية في مرحلة جديدة تكون فيها تحت سيطرة تيار التعاون والإنسجام.

آخر يوم من مونديال كأس العالم يوم فوز الأرجنتين على فرنسا ، كان يوم /١٨/ ديسمبر(كانون الأول) وكان أيضا يوم العيد الوطني لتأسيس دولة قطر ، هذا الإحتفال كان يبدو وكأنه تأسيس دولة قطر يشارك فوز الأرجنتين فكان في إستعراض الحفل باص يحمل فريق منتخب الأرجنتين وفي أيديهم علم الأرجنتين ويحيون الجماهير المحتشدة . أيضا معظم شعوب العالم في ذلك اليوم كانت تحتفل وهي تحمل علم الأرجنتين أو ترتدي قميصها المخطط بالأزرق والأبيض الذي يمثل علم الأرجنتين . إذا تمعنا جيدا في علم الأرجنتين سنجد أنه يتألف من ثلاثة خطوط عريضة أفقية ، الأزرق ثم الأبيض ثم الأزرق، وفي منتصف الخط الأبيض يوجد قرص الشمس .هذا العلم الأرجنتيني أخذ شكله النهائي عام (١٨١٨) ويمثل شعار إستقلال الأرجنتين عن إسبانيا . عام (١٨١٨) ليس عاما عاديا كبقية الأعوام ، فهو يحمل الرمز الإلهي (١٨) بشكل مضاعف ، ففي هذا العام ولد الفيلسوف المزيف كارل ماركس الذي استطاع تشويه الفلسفة لتتحول إلى مذهب مادي بحت ترى فقط سطحية الأشياء والأحداث كونها ترى بعين واحدة ( عين الأعور الدجال ) العاجزة عن رؤية مضمون (روح) الأشياء والأحداث . حيث قال بعض المصابين بعمى البصيرة أن فلسفة جورج فريدريش هيغل الفيلسوف ألماني كانت تسير على رأسها وأن ماركس قام بتصحيحها وجعلها تسير على قدميها . ولكن في الحقيقة أن هيجل كان آخر المجددين لمفهوم (الفلسفة) فهو حاول أن يُعطي مفهوم الفلسفة شكلها الحقيقي في تحقيق الرؤية الشاملة (الشكل والمضمون) في منهج البحث العلمي . ومن يتابع مقالاتي ومؤلفاتي التي تُنشر في صفحة تحمل العنوان (عين الروح) سيجد أنها إستمرار لتلك النوعية من البحث العلمي التي كان يستخدمها هيجل ومعظم عظماء فلاسفة المذهب المثالي لعصر النهضة والحضارات الماضية .

إن الإحتفال برفع علم الأرجنتين في معظم شعوب العالم في نهائي كأس العالم ، هو علامة إلهية ذكرها الدين الإسلامي (إنَّ أوَّلَ الآياتِ خُروجًا طلوعُ الشَّمسِ من مغربِها...) فأحد رموز هذه العلامة هو ظهور شمس الأرجنتين -التي تقع في أقصى الغرب- في جميع أنحاء العالم في أخر يوم من نهاية مونديال قطر ، هذا اليوم الذي هو أيضا يحمل رقم /١٨/ من شهر كانون الأول (ديسمبر) . وكما تذكر الأحاديث الشريفة بأن أعور الدجال سيظهر قبل طلوع الشمس من مغربها . فالمسلم الذي ينتظر شروق الشمس من مغربها وظهور رجل أعور سيحكم العالم ، هذا المسلم يفسر الأمور برؤية ماركسية . فأعور الدجال هو روح وليس شخص وهذه الروح ظهرت منذ أكثر من /١٥٠/ عام ، روح السوء العالمية هذه إستطاعت السيطرة على فكر معظم العلماء والمفكرين والفنانين ، حتى على علماء الدين بمختلف دياناتهم ، واستطاعت تأسيس المنهج العلمي الحديث الذي جعل دور التعليم في جميع العالم خالية من نور الله كون المعلومات في الكتب التي تدرس فيها تم كتابتها بعين واحدة فقط . هذا المنهج يقوم بغسل عقل الطفل منذ بداية دخوله المدرسة ليجعله عندما يكبر أعمى البصيرة . ولهذا إنتشرت ظاهرة (الطفل المجرم) في جميع شعوب العالم في عصرنا الحديث ، هذه الظاهرة لم يعرفها التاريخ من قبل إلا في عصرنا الحديث . ولهذا كتبت صفحات التاريخ عن عصرنا الحالي (لم تعرف الإنسانية وحشية مثل وحشية القرن العشرين) . نحن نعيش اليوم في عصر الفوضى الخلاقة التي أسستها روح الأعور الدجال.

ليونيل ميسي الذي كان السبب الأول في تحقيق فوز منتخب الأرجنتين ليجعل معظم شعوب العالم تحتفل وترفع علم الأرجنتين (الشمس) لم يَدرس في مدرسة عادية ولكن في أكاديمية تهتم بتدريب تلاميذتها لعبة كرة القدم أكثر بكثير من تعليم العلوم والفنون . لهذا حافظ ميسي على نقاء الفطرة التي وضعها الله في داخله . ولهذا تمرد ميسي على تيار أعور الدجال المسيطر على العالم ولم يأخذ منه شيئا ، فرغم أنه ولد فقيرا ثم أصبح من أغنياء العالم ومع ذلك لم يتغير وظل محتفظا بمكارم الأخلاق والتعامل الإنساني المثالي مع جميع شعوب العالم . ولهذا ميسي قد أخفق في الفوز بكأس العالم في المرات الماضية لأن الدول المنظمة للمونديال كانت تسير في تيار أعور الدجال وتدعمه بجميع نواحيه ، لهذا كان فوزه بكأس العالم لأول مرة يحصل في منطقة عربية لا تزال تتمسك بالقيم والمبادئ الإنسانية . ميسي هو اللاعب الوحيد من عمالقة كرة القدم الذي لم يقل عن نفسه ولا مرة واحدة بأنه أفضل لاعب في العالم . ميسي هو الوحيد الذي لم يحتفل بعد تسجيله لأي هدف حاسم ، بالظهور عاريا ليعرض عضلات صدره وعضلات بطنه على الشاشة وعلى المشجعين في الملعب . لهذا ولتلك الصفات التي يحملها كإنسان وكلاعب أسطورة من أساطير كرة القدم ، إستحق ميسي فقط من بينهم جميعا ، إرتداء العباءة العربية (البشت) رمز الرجولة والشهامة والشرف والتمسك بالعادات والتقاليد الحميدة .

لا شيء يوجد صدفة ، ولا حدث يحدث صدفة ، فكل شيء يسير ضمن خطة إلهية تكشف لنا حقيقة كل شيء وحقيقة كل حدث . هذا هو الفرق بين منطق أعور الدجال الذي يؤمن بالصدفة ومنطق عين البصيرة التي من أجل تنميتها ظهرت الديانات والعلوم والفنون لتؤسس الحضارات على مر التاريخ .

في المقالة القادمة إن شاء الله سنعرض علامات أخرى تتعلق بمونديال قطر وتؤكد على صحة ما ذكرناه في هذه المقالة والمقالة الماضية ... والله أعلم .