سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (7)

بدر محمد بدر

سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (7)

بداية معرفتها بالشهيد الأديب سيد قطب صاحب الظلال وشقيقتيه: أمينة وحميدة

قصة دخولها السجن الحربي عام 1965 وتعرضها للتعذيب مع آلاف الإخوان

بدر محمد بدر

[email protected]

 إن الزوجة الداعية تحتاج إلى زوج واعٍ كما كان رجل الأعمال الحاج محمد سالم, يتفهم حقيقة دورها, وأصالة رسالتها, ونبل غايتها, فيساعدها ويشجعها ويشد من أزرها, بل يتحمل من أجل قيامها بواجباتها.. وهذا الزوج الواعي الناجح مهما كانت أعباؤه, يمكنه أن يمد يد العون لزوجته, وأن يقف إلى جانبها, سواء بتوفير الوسائل التي تساعدها على حمل عبء الدعوة, أو بالتغاضي عن بعض حقوقه طوعاً ودون من أو تذكير, مادام الأمر يتعلق بإصلاح أمة وخدمة وطن, وغرس دين في نفوس الناس..

وعلى الرغم من أنني توليت العمل معها سكرتيراً صحفيا وإعلامياً في أواخر عام 1982, أي بعد وفاة زوجها رجل الأعمال بأكثر من ست عشرة سنة, إلا أنني وجدته الغائب الحاضر في حياة المجاهدة زينب الغزالي.. كانت تتحدث عنه دائماً باهتمام وحب وشوق وتقدير وإعجاب, كانت تتذكر دائماً مواقفه وكلماته وتعبيراته وتتحدث عن رقيه السلوكي وخلقه العالي ورفقه بالضعيف وذي الحاجة وجهاده من أجل دينه ووطنه, وصبره واحتماله الكثير من أذى العسكر.. وكانت هذه الذكرى الطيبة سلوتها في شيخوختها, ومخزن ذكرياتها التي ملأت عليها حياتها, رحمها الله رحمة واسعة.

وفي عام 1962 تعرفت الداعية الكبيرة على شقيقتي " الشهيد " سيد قطب: حميدة وأمينة, وكانت هذه الصلة هي بداية علاقتها بالشهيد رحمه الله, بعد أن أذن لها المرشد العام حسن الهضيبي بأخذ رأي الأستاذ سيد فيما يفكرون فيه من مناهج وبرامج تربوية وإيمانية كي يدرسها أفراد الإخوان, وكانت هذه البرامج تعتمد تفسير ابن كثير في مجال التفسير, والمحلي لابن حزم في الفقه, والأم للإمام الشافعي في أصول الفقه, وكتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب في العقيدة, وفي ظلال القرآن لسيد قطب في التفسير الحركي والشامل, فأوصاهم سيد قطب بدراسة مقدمة سورة الأنعام في تفسيره المعروف " في ظلال القرآن ".

ومرت الأيام والشهور حتى أفرج عن سيد قطب عام 1964 بعد حوالي عشر سنوات قضاها في السجن, ولم يكد يقضي بضعة أشهر خارج السجن حتى أعيد اعتقاله في شهر أغسطس عام 1965 بتهمة العمل على قلب نظام الحكم ( وهي التهمة نفسها المشرعة في وجه الإخوان المسلمين دائما إلى يومنا هذا ), وسرعان ما بدأت حملة اعتقالات عارمة في صفوف أعضاء الإخوان المسلمين قيل إنها بلغت نحو مائة ألف ( قالها شمس بدران لزينب الغزالي, وأنهم ملأوا بهم السجن الحربي وسجن القلعة وسجون أبو زعبل والفيوم والإسكندرية وطنطا وغيرها! ).

وفي فجر الجمعة 20 / 8 / 1965 اقتحم رجال البوليس الحربي منزل الداعية المجاهدة زينب الغزالي, وأتلفوا ما فيه من أثاث وأجهزة وكتب وأوراق, حتى إنهم لم يتركوا شيئاً سليماً في مكانه, وقبضوا على ابن أخيها محمد محمد الغزالي الجبيلي الطالب في كلية المعلمين, الذي يقيم مع عمته, وطلبوا منها عدم مغادرة المنزل حتى تأتيها أوامر أخرى, وسرعان ما عادوا وفتشوا المنزل مرة أخرى, واستولوا على ما يزيد على نصف كتب المكتبة, وهي مكتبة ضخمة فيها كل أنواع الكتب من إسلامية وعلمية وتاريخية وأدبية.. الخ, وفيها كتب مطبوعة منذ أكثر من مائة عام, وقد حاولت الداعية إثناءهم عن تصرفاتهم الهوجاء دون جدوى, بالإضافة إلى قيامهم بالاستيلاء على محتويات الخزانة الحديدية التي كانت تخص زوجها رجل الأعمال, دون أن يسجلوا شيئاً من تلك الممتلكات الخاصة التي استولوا عليها, سواء الأموال والمجوهرات أو غيرها!

وصلت زينب الغزالي إلى السجن الحربي ( لأن القضية تم قيدها جنايات عسكرية بدعوى أن المخابرات العسكرية هي التي اكتشفتها, وقامت النيابة العسكرية بالتحقيق مع المتهمين من شباب ورجال وقيادات الإخوان وكانوا بالمئات ), وشاهدت الداعية الصابرة المئات من رجال وشباب الإخوان المسلمين, ممن تعرف بعضهم, ورحى التعذيب تدور أمامها قاسية مؤلمة في كل مكان, تطحن النفوس البشرية طحنا, وتحطم العظام الآدمية تحطيما, وتدوس الكرامة الإنسانية, وتزهق أرواح الأبرياء النقية, تحت سياط القهر والظلم والطغيان, مما سطرته الداعية الكبيرة في كتابها الشهير " أيام من حياتي ", وقبلها سجلته القدرة الإلهية في سجلاتها التي لا تنسى ولا تمحى, حتى يقام ميزان العدالة الرباني, فيأخذ المظلوم حقه كاملا, ويدفع الظالم ثمن جرائمه وطغيانه.. وليشهد التاريخ على هذه المرحلة التي ارتكبت فيها المآسي والفظائع بحق أبرياء لم يرتكبوا جرماً, ولم يقترفوا ذنباً, وإن كان, فهناك قانون يحاكمون إليه, وهناك قضاة يقررون البراءة أو العقاب, لكن هذه المرحلة المظلمة في تاريخ مصر بقيت شاهداً على غياب الحرية وإهدار العدالة وشيوع المظالم, وامتلاء السجون والمعتقلات بالشرفاء والأبرياء والدعاة إلى الله عز وجل.

وفي عام 1975 صدر كتاب الداعية الصابرة زينب الغزالي " أيام من حياتي ", بعد خروجها من السجن بنحو أربع سنوات, أصدرته دار الشروق بالقاهرة التي أسسها محمد المعلم ـ رحمه الله ـ, وبرغم الظروف السياسية التي كانت تمر بها مصر في تلك الفترة, من استمرار رجال عبد الناصر في السلطة التنفيذية, وفي وسائل الإعلام ووزارة الثقافة بشكل خاص, إلا أن الرجل ـ المعلم ـ تحمل عبء المسئولية وحمل الأمانة, وما يمكن أن تسفر عنه من متاعب ومشاكل, لتعريف الأمة بما كان يجري خلف الأسوار.

وسرعان ما انتشر الكتاب حتى أصدرت الدار منه عشرات الطبعات الشرعية, كما صدر في طبعات أخرى كثيرة غير قانونية, وترجم إلى العديد من اللغات, منها : الإنجليزية والفرنسية والأوردية والبشتونية والصينية وغيرها, وطبع منه مئات الآلاف من النسخ, وأدى هذا إلى انتشار معرفة الناس بالسيدة زينب الغزالي في مختلف أنحاء العالم باعتبارها داعية ومجاهدة وصابرة وصاحبة رسالة.

وأنا أنصح القراء والقارئات الكرام لهذه السطور بالبحث عن هذا الكتاب وقراءته بإمعان, ليكتشفوا أيضاً جوانب مهمة من شخصية الداعية المجاهدة, التي تعرضت لتعذيب رهيب لا يحتمله بشر, فما بالنا بامرأة عاشت حياة هادئة وناعمة ومرفهة؟!

لقد سجلت زينب الغزالي في هذا الكتاب " نماذج " مما لاقته من أهوال في السجن الحربي عقب القبض عليها في عام 1965, ـ ولسنا هنا في مجال التعرض لتلك الحقبة ـ حتى صدر عليها الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة ( 25 عاما ), ثم يتم نقلها بعد الحكم إلى سجن النساء بالقناطر الخيرية, ثم بعد ست سنوات عجاف يصدر قرار من رئيس الجمهورية محمد أنور السادات في أغسطس 1971 بالعفو عن بقية مدة العقوبة, بعد أن عاشت في عذابات السجن وآلامه, وكان هذا العفو الرئاسي نتيجة لوساطة شخصية من الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت رحمه الله.

أظهرت تجربة السجن ـ بكل ما فيها من قسوة ومرارة وشعور بالهوان ـ أصالة معدن المجاهدة زينب الغزالي, وكشفت عن جوانب مهمة في شخصيتها, لم تكن لتظهر إلا في الأوقات الصعبة وظروف المحن.

كانت زينب الغزالي قوية الشخصية, مهابة الجانب, قادرة على الجهر بكلمة الحق في أي مكان وفي أي زمان, تؤمن عن يقين بأنه إذا كان الله معها فمن عليها؟! تملك الحجة والمنطق ووضوح الرؤية والعزيمة, وعمق الإيمان بما تؤمن به وتدعو إليه, لا تجامل في حق, ولا تنحني لعاصفة مهما كانت التبعات, بل عاشت لله وبذلت وضحت.. تقبل الله منا ومنها.

لم تفرح زينب الغزالي بخبر الإفراج عنها, الذي صدر في العاشر من أغسطس عام 1971, بعد أن عاشت ست سنوات عجاف في السجن, والسبب هو أن قرار الإفراج لم يشمل رفيقة دربها وأنس روحها الآنسة " حميدة " شقيقة الشهيد سيد قطب, التي عاشت معها آلام المحنة, وذاقت مرارتها قطرة قطرة.. رفضت زينب أن تخرج من السجن إلا بصحبة رفيقتها, فاستعان مأمور السجن ومدير المباحث العامة ـ الضابط أحمد رشدي وقتها ـ بشقيقها عبد المنعم الغزالي ليقنعها بالخروج, على أن تبذل مساعيها ـ من خارج السجن ـ للإفراج عن حميدة قطب وباقي الإخوان, وبالفعل خرجت الداعية الصابرة ثم لحقتها السيدة حميدة قطب بعد ثلاثة أشهر, وهي الآن تعيش في العاصمة الفرنسية باريس مع زوجها الطبيب حمدي مسعود, وتزور القاهرة بين الحين والآخر.

خرجت زينب الغزالي من السجن لتجد أوضاعاً جديدة وظروفاً مختلفة, فعلى المستوى الأسري توفي زوجها الحاج محمد سالم سالم بعد معاناته الشديدة بسبب سجنها وتعذيبها, فبالرغم من أن " الثورة المباركة " استولت على أمواله وشركاته تحت ستار القوانين الاشتراكية, إلا أن الأزمة الكبرى في حياته كانت في اعتقال زوجته زينب الغزالي, فلم يتحمل الرجل الصدمة, وأصيب بشلل نصفي بعد أن قام المجرمون بالضغط عليه وإرهابه, ليكتب بيده ورقة يقول فيها إنه طلق زوجته زينب الغزالي, وتحت سيف القهر كتب الرجل هذه الورقة ليحملها رجال الأمن إليها في السجن, ليزيدوا من آلامها, ظناً منهم أنها ستنهار وتضعف عندما تعلم بالأمر..

وعندما خرجت من السجن, وجدت زوجها ـ الذي توفي بعد سجنها بحوالي ستة أشهر ( في عام 1966 ) ـ قد ترك لها وصية شرعية أودعها محكمة الفيوم الشرعية, يؤكد فيها أنه طلقها بالإكراه, وأن طلاق المكره لا يقع شرعا, وعليه فإنها زوجته أمام الله وأمام الناس, وأنه يلقي الله على ذلك, وأن كل أثر يترتب على طلاق المكره غير معتبر شرعا, فاستراحت كثيرا.