الثورةُ، وظاهرةُ كَيِّ الوَعِي

محمد عبد الرازق

محمد عبد الرازق

يسعى مَنْ يديرُ الحالة السورية ( كما يسميها هو ) بعد مرور أربع سنوات على انطلاق الثورة، إلى إيصال الحاضنة الشعبية لها إلى ظاهرة " كَيِّ الوَعِي ".

 و يُراد بها: جعلُ السوريين، و تحديدًا الذين هم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، يشعرون بالحسرة و الندم على رغبتهم في الخروج عن عباءته، فيأخذون بجلد ذاتهم، و يعيدون إنتاج ثقافة القبول بالاستبداد؛ بذريعة غموض المستقبل، و درء المفاسد أولى من جلب المصالح، و لا يُكلِّف اللهُ نفسًا ما لا تُطيق.

و حتى لا نكون مكابرين، و ندفن رؤوسنا في رمال الفرح بالتحرر من قبضة أشرس نظام أمني في المنطقة، أرى أن نتريث في الحكم على نجاح هذا المسعى، من خلال سَبْرِ الواقع في تلك المناطق، و الإصغاء إلى لسان حال الحاضنة الشعبية لهؤلاء الثائرين.

ربما تتباين الحالةُ من منطقة إلى أخرى بسبب نوعية القوى المسيطرة ( جيش حر، كتائب إسلامية ذات خصوصية محلية، نصرة، جند الخلافة، و حتى تنظيم الدولة ـ نعدّه تجاوزًا ـ ).

بيد أن المؤشرات فيها جميعها تنبئ عن تدنٍ في مؤشر الحماس لدى شرائح مجتمعية، أخذت تتنامى نسبتُها مع مرور الوقت، من فصائل معينة، أضرَّت بها سلوكيات عناصر تنتمي إليها، توصف بأنها سريعة التحول في إعطاء البيعة، و إظهار الولاء؛ تأثرًا بالدعم المادي، و خوفًا من المحاسبة. بعد أن كثرت تعدياتُها على شرائح مجتمعية أظهرت رضا بالأمر الواقع، أو كان لها رأي مخالف لتلك الفصائل: فكريًا، و سياسيًا، و سلوكيًا.

إن القضية التي نرى أن تكون شاخصة أمام ناظرَيْ رجالات الثورة الحقيقيين، أن عموم من يظهر ولاءً للثورة في تلك المناطق قد أمضَوا شطرًا من أعمارهم بنسب متفاوتة في محاضن النظام، و هذا لا يعني طعنًا في مشروعية الثورة، أو وجاهتها، لأننا لا نتكلم عن ثورة سيكون رجالها من كوكب آخر، أو من أصقاع غير سورية.

إلاَّ أن ما عليه واقع الحال، هو أن نسبًا ليست قليلة من هؤلاء، قد أُشرِبت ثقافة و سلوكيات خمسين عامًا، أمضتها في ظل نظام مستبدٍ، و فاسدٍ في شتى ميادين الحياة. فلمْ يُغيِّر من حالتها هذه، و أخلاقياتها تلك تحوُّلُ البندقية من كَتفٍ إلى أخرى.

لقد تجلَّت جملةُ الأسباب المؤدية إلى بروز هذه الظاهرة ( ظاهرة كَيِّ الوَعي ) في مظاهر، نذكر منها:

1ـ الاعتداد بحمل السلاح، و جعله مناسبة لتصفية حسابات قديمة مع الآخرين، متناسين أن هؤلاء، و هُمْ في حقيقة الأمر ضحايا نظام سلطويّ فاشيّ، لم تستطع سوى ثُلّة من الناس أن تجهر بمواقف معارضة له، فالكلُّ قد كان تحت سيف سلطته، و الكلُّ قد رتع من موائده، و الكلُّ قد شرب من كأسه، و كما قال سيدنا عيسى عليه السلام: ( مَنْ كان بلا خطيئة فليرْمها بحجر ).

2ـ مباشرة أخذ الحقوق الشخصية، المغلفة بدثار الثورة، دونما مستند قانونيّ، أو شرعي؛ استغلالاً لحالة الفراغ التي خلَّفها انحسار سلطة كانت شديدة الهيمنة الأمنية على مدى خمسين سنة، أنتجت حالة من الهلع الرهيب لدى عموم السوريين من أجهزة الدولة؛ ممّا جعلهم يتحسبون لأية حالة تجاوز نحو الآخرين، لعلمهم أن الآخر قد تواتيه الفرصةُ للوصول إلى مسؤول متنفذ في تلك الأجهزة، و بالتالي سوف تكون البطشة شديدة على هذا المتجاوز.

3ـ استباحة حرمات الممتلكات، و العُهد العامة، و الخاصة دونما مرجعية قانونية، أو شرعية صادرة من جهة مخوّلة تستمدّ مشروعيتها من رضا الناس، و القبول بحكمها فيما تقضي؛ الأمر الذي جعل الناس تلجأ إلى اعتماد ما يُسمّى ( سياسة الردع ) لحماية نفسها، و أحيازها.

4ـ بقاء الارتهان إلى ثقافة التخوين التي أشاعها النظام بين أبناء المجتمع السوري؛ فهذا شبيحٌ، و ذاك خائنٌ، و عميلٌ، و لصٌ، و حراميٌّ، و مصاصٌ دماءَ الناس، و مرتهِنٌ إلى هذه الدولة أو تلك، و مُعتاشٌ على آلام الناس، و أنّات اليتامى، و آهات الثكالى. و أخطر من ذلك كلّه: أنه خائنٌ لتضحيات الشهداء، و راقصٌ على جراح المكلومين.

لقد كان عهدُ الناس بنظام الأسد أنه إذا أراد أن يقضي على معارضيه أن يُشهِر في وجوههم إحدى هذه الأسلحة:

أـ سلاح الاتهام بالوهابية للمتدين غير الصوفي.

ب ـ سلاح العمالة و الرجعية لغير البعثي المتدين، و لاسيّما الإخواني.

ج ـ سلاح الانتماء للبعث اليميني العراقي للمعارض اليساري، أو العلماني.

و يبدو أن هذه الشِّنْشِنَة ما تزال مستحكمة في أذهان، و عقلية شريحة عريضة من المجتمع السوري، و لم تستطع الثورة أن تطهرهم منها بعدُ.

5ـ ظهور سلوكيات عملية، و لفظية من الثائرين و لا سيما بعد انكشاف غبار المعارك، و وقوفهم أمام جثث القتلى، و شخوص الأسرى، فهذا يسبّهم، و ذاك يلعنهم، أو يدوسهم، أو يمثِّل بهم، و يقتلع أحشاءهم، أو ينتف شوارهم و شعورهم، أو يضربهم أمام عدسات الجوالات. و كلّ ذلك توثقه لقطات الفيديو من قبل زملائهم؛ الأمر الذي ألَّب عليهم الرأي العام و لا سيما الغربي، و هو ما نخشى أن يكون أدلة ضدهم في قضايا تخص قضايا حقوق الإنسان في يوم من الأيام، أو على أقلّ تقدير أن يجعلهم هذا الأمر يقفون مع مجرمي النظام في طاولة واحدة، أمام محاكم الجنايات الدولية.