الزمن الجريح

نعماء محمد المجذوب

الزمن الجريح

رواية: نعماء محمد المجذوب*

(1)

وقف سمير حيال قبر أحلام، وفي صدره هموم، وتفكير جثاً على ركبتيه، ماداً يديه فوق القبر، كأنه يضمها، ثم ألقى أزهاراً عند رأسها، وبصوت خافت قال:

- أحببتك، ولا أزال أحبك.

بأسف شديد قالت ليلى، وهي تحاذي ضريح أختها، وبيدها وردة صفراء:

- لقد تأخرت يا سمير.. تأخرت كثيراًَ.

انتحل عذراً، وأقسم أن النوم لم يلمس أجفانه حين علم بانتحار حبيبته..

كانت على مقربة امرأة أجنبية، في بنطال ضيق، حاسرة الذراعين، يتموج شعرها بلون بنفسجي، وفي نظراتها مرح.

بتهكم ممزوج بالتحسر، قالت ليلى:

- خسرتها.. ولكن، ربحت صفقة حب جديدة.

استدارت ليلى تمضي في الطريق.. نظر سمير إلى البلد، قال يحدث نفسه:

عجباً، لقد تغير كل شيء، امتداد في البنيان، اتساع في الشوارع، مظاهر تبدلت بأخرى، تحرر ينتشر بين الناس.. تملكه إحساس بالندم، واللوم، قاوم البكاء.. ثم التفت نحو زوجته قائلاً:

- ديدي: هل أنت سعيدة معي؟

بكلنة أجنبية قالت وهي تبتسم:

- سعيدة جداً، جداً.

- لكنني أحببت، وشغل قلبي بغيرك في السابق.

- شيء عادي، في بلادنا لا نتزوج إلا بعد تجارب عدة.

- ما تقولينه ليس حباً، هو وهم.

- الحب يتجدد في كل زهرة.

- والزهرة الأولى؟

- تذبل، وتخلفها أخرى.

- والإخلاص؟

- لا نعرفه كما عندكم.

الشاهد فوق القبر، حفر فيه اسم أحلام، وتاريخ ميلادها، ووفاتها.. وأزهار تبعثرت على جوانبه.. تساءلت ليلى بشفقة:

"هل يشمل الله برحمته إنساناً أنهى حياته بالانتحار؟... غفر الله لك يا أختي"

أيقظ الموقف ذكريات، شخصت أحلام من خلالها بمراحل حياتها المتلاحقة، تتحرك من خلال الأحداث، والتجارب، ثم لتستريح عند مصير محتوم..

* * *

الطريق طويلة، والقمر يراقب المسافرين من شقوق الغيوم، والوقت يلهث، والعربة تغذ السير.. أجساد نائمة، وأخرى ذابلة، تلامس عيونها الطريق، وتعد أنفاس الوقت، والطريق يبتلع عربات تترك زفراتها دخاناً يهرب إلى الفضاء، والأفق يتسع، ويمتد آفاقاً عبر آفاق،.. وعين القمر تلامس بأنوارها الأشياء، والبراري، وتلثم الآكام، والصخور.. قد يختفي وراء الغيمات، ويتلصص من شقوقها، وقد ينسل برفق بنوره من خلال زجاج النوافذ، يداعب الوجوه، والأعين الراقدة الحالمة، ويعكس ظلال الأشياء، تتراكض خلال العربة، يلحق بعضها بعضاً، والرؤوس تتأرجح فوق الأكتاف.

أحلام تراقب، وتتساءل:

"هل الإحساس مات، أم هي الهموم ركدت وماتت؟

هل النوم ظلال، وأين ترحل الظلال؟"

ودع القمر المسافرين، وراح يرقد وراء الأفق، بتحسر زفرت، وهي تقول:

"هل كان الوطن يضيق بنا، أو نحن نضيق به، فنهجره؟

لماذا لم نصبر على البلاء؟

كلنا نحتاج إلى تغيير، مهما ابتعدنا عنه، فلن نستطيع أن نهرب منه، هو يلبسنا أينما نكون.. نهرب بإحساسنا فقط.. نسافر، يدور معنا، وندور معه.. نهرب إلى الغربة، وفي داخلنا شوق، وحنين وألم، ولوم".. بمرارة قالت:

"هل خذلناه يا ترى؟"

النوم يبسط جناحيه على الركاب، والذكرى تلو الذكرى توقظ أحلام وتجعلها في حالة مريعة، وصراع عنيف مع نفسها، وتسخر من الظروف القاسية، وتتساءل:

"لماذا لم نستطع اجتياز المحنة؟.. هل نحن جبناء؟... ربما."

استحوذ عليها الندم، كأنها المشردة الوحيدة..آه: من يصنع مصائرنا؟

كان رأس ليلى يتأرجح فوق كتفها، فتحت عينيها، بصوت ناعس، سألت:

- ما بك يا أحلام؟

- دعيني بحالي.. فقط أفكر بالأحداث، والمآسي التي دفعتنا للرحيل من نابلس.

ثم عادت إلى الشرود، والذهول.. الأحداث المتلاحقة أثارت شهيتها للتخيل، والتذكر، وهي ترى الخدر يستولي على المسافرين، ويهربون من الواقع الأليم، لهم سمات واحدة، تجمعهم محاور الألم، والقلق، والشتات، فتحت الأم عينيها القلقتين، ومسحت دمعات حركها الأسى، تمنت أن تغفو قليلاً، ولكن ذكرى مشاهد الفواجع حالت دون ذلك.

توقفت العربة عند مدخل بلد مجاور، بدأ ضجيج الكلمات يرهق الآذان، والساحة تموج بزرافات من القادمين، والصخب يملأ المكان، ويتحرك مع حركة الموج الزاخر، الباحث عن المأوى، وشيئاً فشيئاً اندثرت الأصوات مع أصحابها.

كانت الأم وابنتاها يتفحصن الوجوه، يبحثن عن خيري الذي سبقهن مع أسرته، ثم شعرت أحلام بربتة خفيفة على ظهرها، وصوت يهتف:

- تعالين بسرعة، لا تتمهلن، أنا بانتظاركن.

بهدوء نظرن إليه، وقلن:

- ونحن بانتظارك أيضاً.

بدت اللهفة ممتزجة بالحيرة، وهن يتساءلن:

- إلى أين ستأخذ بنا في هذا البلد الغريب؟

لم يكن ليخطر ببالهن يوماً ما، أن يتركن الوطن بهذه السرعة، ومع الهزيمة، والإحباط.

سألته الأم، وهي تلوك كلماتها بضيق:

- إلى أين يا خيري؟ البنتان مرهقتان.

- اطمئني.. ستكونان بخير، فقط اهدئي.. هيأت لكن المأوى، قريباً من المدرسة والسوق.

لم تستطع أحلام النوم هذه الليلة، التجربة كانت مذهلة للغاية والبيت بارد، لم يستر أرضه سوى حصير من القش، وبعض المفارش اتكأت على الجدران.. كانت الأم تتنفس، وكأن صخراً يعلو صدرها، قالت تخفف عن ابنتيها:

- الشكر لعمكما خيري، البيت واسع، وفيه ما يلزم، فقط استسلما للنوم.

تنهدت أحلام، وهي تقول:

- هل بإمكاننا النوم يا أمي؟

- حاولي يا ابنتي، وتناسي كل شيء.

- لا أستطيع، الصمت يعذبني، دعيني يا أمي أثرثر، وأفرغ ما في نفسي من ضيق.

بصوت متردد، يشوبه التصنع بالهدوء، حاولت الأم أن تقول شيئاً، أن تواسي ابنتها، كي تخفف عنها لذعة الفراق، وألم التهجر، ولكن الكلمات لم تسعفها، كانت دموعها تسبقها، فتبادر إلى مسحها بطرف كمها، يقذفها الإحساس بالقهر، يعذبها، ويجعلها مسكناُ للآلام.

غفت ليلى على عذابها، أما أحلام فمثل الحدث المروع أمامها نشطاً بأنفاس ملأى بالرعب، تطل من ثنايا الأمس القريب، انفجرت ببكاء مرير، سدت فمها بكفها، لكن شيئاً منه تسرب من بين أصابعها، اقتربت منها الأم، وبحنان قالت:

- نامي يا ابنتي، لا تفكري كثيراً.

- سأحاول.

- قد نجد الأمان هنا.. بلا شك.

شعرت بدموع باردة تملأ عينيها، وهي تسترجع الأحداث، قلبت وسادتها الرطبة بالدموع، جعلتها البرودة تحلم، لقد سقطت مشاعر بلا ألم، وعندما استيقظت في الصباح، كانت الوسادة ما زالت مبللة، وكانت ما تزال تبكي، وهي تتذكر جرافات العدو تهدم البيوت، والرياح تذرو الأتربة، ومن بينها رأت أباها قد أصيب بطلقة نارية، وزحف بدمه إلى المنحدر، وبيده بندقيته.

كانت تعيش الألم، والقلق وهي تتذكر البيت الذي أضحى أنقاضاً في وطنها الذبيح، سيجته الذكريات، كان يقوم على ربوة مطرزة بالخضرة، بين جبلين شامخين، يتوارد إليها الأهل والجيران، تضحك لهم الشمس، ويضيئها القمر، كثيراً ما كانت تلعب فوق المنحدر، وترتقي مع أترابها فوق السفح، والطيور تغرد، والأغنام تثغو.. لقد زودها البيت والربوة، والعشب، والزهر بحب الحياة.. وما كان الأطفال يتكدرون وهم يلعبون، ويمرحون، ويتعثرون ضاحكين، زودهم الجبلان، المرتفعان بالحذر الشديد.. كانوا كالفراشات فوق الربوة.. في الوطن تتواثب الحياة تواثباً، يبتسم صباحها وأصيلها وإذا ما أقبل الليل وانتشرت الدجية، كان الائتلاف في وقت السمر، يغمرهم الأنس، وتدور بينهم الحكايات عن أزمان قد مضت.

تنهدت وهي تقول لليلى:

- لا يمكن أن أنسى ذلك الزمن، حين كنت أسند مرفقي في حضن أبي وأمي، وبلذة أسمع وأستمع وكأنني أعيش في ماضيهما.

شاركتها ليلى الذكرى، وقالت:

- أفي لمح البصر نفقد كل شيء؟.. ماذا حل بنابلس وبروبتنا؟

- لقد تغيرت الأشياء في الواقع، وما تغيرت في نفوسنا، جرفتها جرافات العدو، ليقيموا مستوطناتهم.

- أذكر حين حمل أبي البندقية كي يردهم لكنهم هم الذين أردوه قتيلاً.

طمرت أحلام وجهها في الوسادة، تردد قائلة:

- لم رحلت يا أبي، نحن نحتاجك كثيراًَ.

تسرب إلى سمع ليلى فحيح بكاء، ونشيج في رحم الليل، مشت على أطراف أصابع قدميها، وهي تلملم ذيل ثوبها بيديها، اقتربت من الغرفة المجاورة، ومن خلال بصيص ضوء خافت، رأت أمها ساكنة بخشوع، مادة كفيها النحيلتين، مرهبة الروح، تشكو سوء الزمن، وتهمهم بدعوات، وتدعو لفرسان الله في الوطن الممتهن، الذين لاذوا بالله، ينشدون عنده القوة والنصر.

بقيت ليلى تختلس النظر، تشاركها دموعها، اقتربت من أمها، لامست كفها الباردة كتفها، وبهدوء ورجاء قالت:

- لقد تعبت يا أمي، جسمك لا يتحمل، والله سبحانه يسمع أنينك ودعاءك.

ساعدتها في النهوض إلى فراشها فوق الحصير، دثرتها بدفء وهي تقول في نفسها:

"هل الدثار يدفئ قلبها؟.. ما أظن".

كانت الأم تتذكر زوجها في لحظات ما قبل الفراق، لحظات فقدت فيها كل شيء، نظرت إليه قبل الوداع، وبدهشة تساءلت:

"أين تمرد نظراته؟.. أين شموخه وإباؤه؟.. وذلك الدم الذي كان يفور في عروقه؟.. أبعد كل ذلك يمرغ جسمه في التراب، وتسكن جوانحه؟.. ويفرق بينه وبين بندقيته؟"

لحظات رعيبة فقدت فيها الزوج، والبيت، والوطن، تركت جراحات في القلوب ساخنة، وأنفاساً تتكسر.

قالت لابنتها:

- نحن الآن في أرض غير أرضنا، ووطن غير وطننا.

بحدة أجابت ليلى:

- هذا وهم يا أمي، نحن في جزء من الوطن الأكبر الذي قسمه المستعمر إلى دول، كنا أمة واحدة، وقلباً واحداً، وسنبقى كذلك، علينا أن ننسى بإرادتنا الفكرة الوهم، ونتصالح مع أنفسنا، وننسج بأحلامنا حاضراً جديداً، بطريقة مختلفة.

اقتربت أحلام منهما قائلة:

- الحياة لم تتوقف، إنها تنهمر بداخلنا، وتتدفق، ولكن، هل يوقفها الأسى، والتذكر؟

قالت ليلى:

- أكره الإحباط، ليس هذا من طبعي.

- ولكنك تتكلمين وأنت ترتعشين.

- لا أنكر ذلك ذكرى أبي، وبلدي تدور في ذهني، وتلقيني في ذهول مرتعش.

تابعت الأم، والدموع تنهمر ساخنة على وجهها:

- هل أنسى لحظات الوداع؟

مر صمت ثقيل، ثم قطعه صوت أحلام، يقول:

- أتيت بجسدي إلى هنا، وخلفت روحي مع أبي، والوطن، تأخذني الذكرى إلى طفولتي، حين كنت أركب على كتفه، وأتعلق بعنقه، أو أشد شعره، وأمي تكركر قدمي، وأنا أتحرك وأضحك وأكاد أقفز، وأبي يخشى علي من الوقوع، فيمسكني، ولا أبالي بشيء أضحك ويضحك أبي وتضحك أمي.

نظرت أحلام حولها، أحست بأحلامها، سافرت بسفرها، وضاعت، وآمالها تتعسر، وأمامها سفر طويل بلا هوية، وإلهام داخلي خفي، ولكن.. إلى أين؟

وضعت كفها على عنقها، وهي ترتجف وتقول:

- أوشك أن أختنق، أرى زمني يتوقف، هل أبي يناديني بشوق إلى عالمه؟

صرخت:

- وأنا بشوق إليه، حياتي من دونه ميتة، بلا معنى جميل، حياتي ألم وحزن، أليس هذا هو الموت بعينه؟

قالت ليلى تهدئها:

- إنها مشكلتنا جميعاً.

بحرقة قالت أحلام:

- أعيش في ظلام نفسي.. كيف نترك الوطن هاربين، وهو يتعذب؟

- حاولي أن تنسي.

- ما شاهدته لم تشاهديه، كنت أحوم حول أبي كالنحلة حول الفراشة، وكالهرة تتمسح بأهداب ثوبه.. تركناه ودمه ينزف، يروي التراب، والدمع يسيل من عينيه من غير بكاء، ووجه يتشح بالذبول.. آه ماذا أقول؟ غرست الذكرى في نفسي صورة لا تمحى.. ذكرى في أحلى سني عمري.. كنت كزهرة تشتاق لقطرات الندى ليفتحها، كلماته لن أنساها حين كان يرددها أمامي: "أنت موهوبة يا ابنتي، سأكون بجانبك لمستقبلك.." هل أصبحت ذكرى تردت في دروب الضياع؟.. هل أرد ما حصل إلى حظي التعيس؟.. لقد شتت الخواء قواي.

بدهشة قالت ليلى:

- لم الخواء يا أختي؟ املئيه بالتفاؤل، وبالدراسة لتأمين مستقبلك. لا تيأسي، فعطاء الله يغمرنا، صحة، وعافية، وسلامة أعضاء، وعقل، ماذا ينقصك سوى الإرادة لتتغلبي على مشاعرك المتشائمة؟.. كل شيء له أجل.. أروي نفسك من عطاء الله الذي حباك به، وله علينا ظل ظليل.

- نحن الآن غرباء في غير أرضنا، ليس لنا ذكريات فيها.

- البلدة عربية، إسلامية، وهي جميلة، تدعونا إلى البسمة، والتآلف مع المحيط، فيها البحر يموج، وشاطئه يحتضنها، والجبال راسية في أطراف البلدة، والينابيع فوارة، والزروع في كل حقل وبستان، وشعب محب للغرباء.. الطبيعة كتاب مفتوح، يدعونا إلى تدبر آيات الله فيه، تذكرنا بنابلس، بروابيها الخضر، وبكل شيء فيها.

- وهزيمتنا في الوطن؟

- إن كنا نعيش اليوم في نكسة، فلكل جواد كبوة.

قالت الأم وهي ترى شدة قلق أحلام على الوطن، وذعرها على مراتع صباها:

- لا تقلقي، ستعتادين على البلد، ولكن قد يستغرق وقتاً.

(2)

في أحد الأيام، مع نسيم الصبح، قضت أحلام عند الشاطئ وقتاً ممتعاً مع الطبيعة،... تذكرت وطنها، لامت نفسها، كيف تستمتع وهو يتعذب؟.. تشتتت روحها، واضطرب قلبها من الخوف.. ثم في البيت كانت تغرق في أحزانها ليلاً، وجدتها ليلى ساهرة، سألتها:

- ما بك يا أحلام؟

- أفكر بما يجري في الوطن.

- اليهود غدارون، وحياتهم مدورة باللعنة، طردونا من جنتنا المقهورة، من أعلى ربوتنا إلى الوادي، ثم هجرونا.

- أتذكر يحن فاجأونا قبل طلوع الفجر، وما كنا لنملك أن نبقى أحياء حتى مطلع الشمس، كنا وغيرنا كحروف طائرة حائرة.

- إذا نظرنا بعين الإنصاف عذرنا أنفسنا، فدماؤنا كانت مهدورة، واليهود ينفذون ما خطته الصهيونية، والله العادل يقدر أقدارنا بحكمة.

- لعنة الله عليهم،.. أتذكر كيف ألقونا بالعراء، فنمنا خلف الأشجار، جعلونا كضفادع مذعورة، يردد الليل لغطها.

- نتساءل: هل يسمع العالم صراخنا؟

- يقول المثل: المعرفة شجرة الأسف، فلنتجاهل حتى لا نندم، وننفجر.

أحست أحلام بالحياة تتدفق في صدرها، رغم لوعة الأحداث،.. أخذ الحلم يراودها في إعادة صوغ حياتها بطريقة مختلفة، والابتعاد عن التفكر في الماضي، والإقبال على الحياة، وإحراق الذكريات في أتون النسيان، وتجاهل كل ما يقلق... صممت على اجتياز واختراق العقبات.

تساءلت:

أيمكنني ذلك؟.. لم لا؟

فلأحاول.. الأحلام تموت إن لم أجر وراءها.

سأبني لي وجوداً في هذا البلد، وإلا فسيجهلون وجودي.

ردت الحماسة في صدرها خوفاً من الفشل، حاولت أن تفر من روحها، ثم تغلغلت بنشاط.. تفحصت حالها في المرآة. ألقت كتفيها وشعرها الذهبي وراء كتفيها، فركت جبينها.. عادت النضارة إلى وجهها. بدهشة نادتها أمها:

- أراك تتهيئين للخروج، إلى أين؟

- إلى زميلات تعرفت عليهن في المعهد.

- ليس بهذا الشكل، عليك أن تراعي تقاليد المجتمع، وقيمه، لا تعرضي مفاتنك في الطرقات، لئلا تتعرضي للأذى.

بضيق أجابتها:

- الحياة قاسية يا أمي، سأبعد قسوتها عني، التفكير الدائم في الوطن يعذبني، ويرهقني، أبحث عن أحلام جديدة، لا أريد أن أكون مهمشة... دعيني أعيش كما يحلو لي، وأحلم كما أشاء، وأحقق لنفسي واقعاً جديداً.

وبتحسر قالت:

- أبي توسد التراب، لم يجد من يدفنه، أو يمسح عن وجهه الدم بعد أن فرغت بندقيته من الرصاص.. هل تعيد الحياة إلينا ما فقدناه.

- أبوك مات شهيداً.

- وبيتنا تهدم.

- المهم نحن قد سلمنا.

- وعمي خيري يبحث عن حياة جميلة له ولأسرته، ونحن النساء الثلاث محجوزات في بيت أشبه بالفارغ،.. دعيني يا أمي أتنفس، وأخرج من هذا المأوى البارد.

وبتأثر بالغ قالت:

- إن من بقي من شعبنا في الوطن يعاني الحرمان، ويذبح على مرأى من العالم، وتحت رداء الصمت، ونحن هنا نتلوى من الألم.

بذهول نظرت إليها أمها، تفحصتها بشيء من الغضب، همست:

- جيلكم يختلف عن جيلنا.. يا إلهي ماذا يحدث لبناتنا؟ يجري بهن الزمن بسرعة فائقة، يكبرن، وينضجن هكذا دون سنين.

كانت أحلام تتجول في الشارع المحاذي للشاطئ، كان النهار متألقاً، تزرع فيه الشمس أنوارها البهية، تستظل منها بين الحين والآخر بظلال النخيل، فكرت بزيارة بيت عمها خيري المطل على البحر،.. تراجعت عن الفكرة، لأنها أحست بالجوع، ولن تستجدي اللقمة عندهم، وإن هلكت جوعاً.

تذكرت أباها فجأة، وهو في لحظاته الأخيرة، ودمه يتناثر منه، ويتلقاه التراب بشهية.. ذاب في رحم الأرض، وكان قبل ساعة يجري معها، ويضحكان، تناثرت الكلمات غضبى من حلقها، وتساءلت:

"لم قتل أبي؟ ألأنه يدافع عن أرضه، وبيته؟ أم أن القضية دفعته للثورة على العدو؟… كيف أهرب من الذكرى وقد حصلت أمام عيني، وزرعت في ذهني؟.. أخدع نفسي إن قلت: سوف أنسى.

في البيت نظرت إليها أمها بتساؤل:

- أراك قلقة، دامعة العينين، هل ذهبت إلى صديقاتك؟

- فقط تمشيت فوق الرصيف.. حسبت أنني أهرب من الصدمة إلى الطبيعة، فإذا هي تلاحقني في ذكرى أبي، في دمه المتوهج، قتلوه، فقتلنا معه، نحن أموات في أحياء.. لماذا مات، وتركنا نساء بلا معيل؟

- أجله قد انتهى.. البركة في عمك خيري، هو المعيل لنا.

بسخرية قالت:

- أشبه بالمعيل.

- اهتمي بدراستك، لتأمين مستقبلك، ولا تفكري بشيء آخر.

ثم وجدت الأم نفسها تسترسل هي الأخرى بالذكرى مع ابنتها، بتحسر قالت:

- كنا نعيش في بيت واحد، متآلفين معاً، ومتحابين مع الأهل، والجيران، كنا نحس بالدفء الإنساني فيما بيننا، ثم شتتنا الاحتلال.. استولوا على الرابية، شيدوا فوقها مستوطنة، وسيجوها بالأشجار، ومن ورائها سياج من نار.. هنالك كنت وكنا، وكان لنا عز ودار.

بألم أردفت أحلام:

- وكان لي مرتع وذكريات، تفتحت من زهرة طفولتي، تنفح فيها المنى، وهفهفة الأحلام الشادية، أما هنا فأسري عن نفسي بالصداقات، فسرعان ما تعاودني الذكرى.. فأسأل نفسي: لم نحن هنا؟.. خيمة في الوطن في ظل جدار منهمر، حياة لنا، ووجود.

أطلت ليلى بوجهها السمح، وبعجب سألت:

- أتحت ظلال القصف، والدبابات، والنيران؟

- أفضل من حياة خاملة في أي مكان آخر، تنساب فيه الحياة بهدوء، وأمان.. لا ري في الروح إلا في أحضان الوطن.

- أراك تجعلين حياتك تخوض في بحر من قلق، والتوتر، ولا تهدئين على حال... صدقيني، إنني أخشى عليك.

(3)

تعكرت نفس أحلام بالذعر، والاضطراب، حين عاشت المواقف الرعيبة، أصابها الهلع وهي ترى الإنسان يطحن أخاه الإنسان، وتتوالد شرارات نار تشعل الكراهية والأحقاد، وتسحق كائنات جميلة، بريئة، تحرق أجنحتها، وهي تتأهب للتحليق في الغد.. الأطفال كانوا أشد تأثراً، نشؤوا في هذا الزمن المحطم لنفسياتهم، حرموا الطفولة الهنيئة، تمزقت أرواحهم، والتشرد شطرها بين الوطن، والغربة.

اختلطت في صدرها مشاعر الحب، والدهشة، والأسى، فكان قلبها يدمع، وعينها تجف، وصدرها ينشج، ونفسها تتمزق كورق الورد.

من هذا البيت المتواضع خرجت أحلام تبحث عن الحياة، ليكون لها طعم، ولذة، كان إحساسها عميقاً بالانتماء إلى المجتمع، وكانت فرحة، وابتسامة، ولفتة حالمة وهي تمشي فوق الأرض، وكانت انصهاراً في النفوس، دون أن تدري أن النغمة الناشزة في المجتمع الفاضل، تشوه النغمات.

عرفت بين الصديقات بصفات، كان للفكاهة في حياتها جانب كبير، كما عرفت بسرعة البديهة، وحضور النكتة، وخفة الظل، وعرفت برهافة الإحساس، والكآبة، وكثرة البكاء.. كانت تداعب صديقاتها وهن في جماعة بنكاتها، وتضفي المرح والبهجة بينهن، فمن مداعباتها أن ترغمهن على الضحك.. تجلس أمامهن، وترغمهن على الصمت، ثم تبدأ بالضحك شيئاً فشيئاً، ويعلو ضحكها، وتسيل دموعها، وتأخذ الصديقات بالضحك بشكل غريب، ضحكها كان يستدعي ضحكهن،.. هذه لعبتها المفضلة معهن، ثم لا يلبث أن يتحول ضحكها إلى بكاء صارخ، وهطل من الدمع غزير،.. يدهشن، يخففن عنها، ويتساءلن: لم كانت تفعل ذلك؟.. أفي صدرها أسرار مدفونة تفرغها بهذه الطريقة المتناقضة؟.. مرح، بهجة، ثم ألم وحزن، يخففن عنها قائلات:

- هوني عليك، وجففي دموعك، لا يجمع الله بين اليأس والأمل.

كن يرين ملامح القلق، والمرح بآن في عينيها العسليتين، ويلمسن الشرود فيهما، حين يرحل بها إلى الوطن، شرود يشعرها بالضياع أحياناً.

أما ليلى فكانت الطيبة والرقة على وجهها الأسمر، ويسكن القلق والذهول في عينيها السوداوين، وينسدل شعرها الفاحم على ظهرها بنعومة، ولمعان، وإن جلست بين الصديقات فدون صوت، وإن تحدثت فبصوت خافت.

كانت روح أحلام تعاني من الأحزان، والوله، وهي تسمع عما يصيب وطنها الحبيب من النائبات، حين غدا مرعى للسفهاء المفسدين، يستحكمون في الأرض المقدسة بالأوزار، والآثام، حتى طال ظلمتهم كل قرية، وكل مدينة، ونال الشجر، والزهر، وكانت دوافعهم خبيثة لتهجير السكان.. رعدت القلوب بالخوف، واستولت عليها الهواجس، ورددت المرابع أصداء العويل، وهم يغتالون الرجال والأطفال.

قالت الأم:

- إن دماء الأبرياء لا تخمد حقد اليهود، ستكون ناراً في ثورة لا تهدأ مع الزمن، يهود يقتلون الرجال والشباب، وينبت أطفال، وشباب، يحملون دماء الأبرياء لهيباً في قلوبهم.

باستخفاف قالت ليلى:

- يتوهم اليهود في إقامة دولة إسرائيل بالظلم، والعنف، ولو يريد الله لهم كياناً مستقلاً في فلسطين لكان لهم ما أرادوا، في عهد موسى عليه السلام، ويعتقدون أن الله لهم وحدهم، وأنهم شعب الله المختار، وأبناؤه، وأحباؤه، وفي كل مرة يفشلون.

- إن نجحوا اليوم بعض الشيء، فلبعدنا عن ديننا، وسيهدم الوهم برجوعنا إلى إيماننا الكامن في نفوسنا.

- سيستيقظ، ويهدر، ويهدم ما بنوه، عاجلاً أم آجلاً، والله معنا.

- إن كانت قلوبنا تتفطر حزناً وألماً لما يصيبنا اليوم من المحن، فلن نستسلم لها، ونضعف، ينبغي أن يكون حافزاً للنهوض.

كانت الأم وابنتاها غارقات في نقاش يقوم على الظن والتخمين، بسبب ندرة المعلومات، أو بسبب أجزائها المبتورة، فالأحداث في فلسطين تتلاحق، ولا تنتظر، وواقع جديد يولد، وتحديات تظهر، تواجه الوضع الراهن، وما يؤدي إلى مستقبل خطر، واحتمالات رعيبة،.. وليس من السهل أن ينتزعن أنفسهن من النقاش، ولو قررن الصمت، فما حصل في الوطن حمل صدمة رهيبة للكثيرين، ولعلهم قلة أولئك الذين لم تأخذهم الصدمة، أو مستهم مساً هيناً، سرعان ما تم استيعابهم لها، وتجاوزها.

كن يدرن حول تفصيلات منقوصة، يلتقطنها من المذياع، أو من المهجرين، أما الحقيقة فمهما غامت فلا بد أن تظهر بعد زمن قصر أم طال، كان كل فرد يدلي بدلوه،.. فالتجربة في فلسطين كانت قاسية، واختلفت حولها الآراء.

- فلسطين لم تمت، وقدرتها على النهوض من كبوتها لم تعطل، إلا أن المعوقات في درب النهوض كبيرة، ومتنوعة.

- كنا نسمع من الأخبار بأن اليهود يواجهون شعباً غاضباً عليهم، ويصممون على ترحيلهم من أرضهم، مع ندرة الأسلحة.

- لقد أصبحنا في واقع جديد، يتطلب إعادة ترتيب الشعارات، والمواقف، ومن ثم تحديد الرؤية والاتجاه، والبحث عما يجب أن يعمل لمناصرة شعبنا في فلسطين، والحيلولة دون تنفيذ أهداف العدو، التي هي أخطر من العدوان نفسه.

قالت ليلى بحزن شديد:

- التهديدات للشعب تتوسع، وتهدد جيرانهم، وأمنهم.. ماذا تقصدين يا أحلام بإعادة ترتيب الشعارات، والمواقف؟

- سأحدثك فيما بعد.

- أراك كثيرة الخروج من البيت.. إلى أين تذهبين؟.. لو يعلم عمك، لتصرف معك بما يلائم.

قالت الأم بجزع:

- خدعها الناس بقولهم حسناء... البنت عادة تتوارى خلف أسوار النساء.

- هذا جيلك أنت يا أمي، أما جيلنا فقد اختلف الأمر.. إني أكره التمييز.

- أعوذ بالله من كلامك هذا.. تعالي، اجلسي بجانبي، وحدثيني.

- قد تجدين الأمر سخيفاً.

(4)

كان "عبد الكريم" يمهد الطريق للشباب كي يصلهم بالأفق الماركسي بالاجتماعات، وتوزيع الكتيبات، دون علم آبائهم، ظاناً أنه ينورهم نحو المستقبل، فكان يلتحم بصميم مجتمعه، ويعمل على خلخلة القيم الموروثة والموازين، حتى صار بعضهم يقولون بوجوب نسيان الماضي، وتغيير الحال، وصارت الشيوعية عقيدة لهم، يرونها منقذاً لهم.

علمت ليلى باعتناق أختها لتلك المبادئ، شعرت بالخوف، جادلتها قائلة:

- تلك المبادئ فيها دمار للماضي، والحاضر، والمستقبل، هي خراب،.. أنبيع قيمنا، وصلتنا بالله بشيء وهمي؟

قالت أحلام:

- التغيير يعني لنا شيئاً آخر.. نحتاج إلى قوة تحمينا، وليس إلى غيبيات.

- رجاء، قفي وقفة صدق مع فطرة نفسك، خلصيها من الشوائب، نحن بحاجة إلى تجديد ماضينا، وليس إلى تخريبه، إلى صيحة حق فيها الصدق، لنصد أعداءنا، أعداء الله، لنزحف إليهم، بأصالتنا العربية الإسلامية، قبل أن يتموا زحفهم إلينا، ويدمروا تاريخنا العظيم.

كان الحزب يدعوها باستمرار، وهي تلبي الدعوة، وباستمرار تنفصم شخصيتها عن الواقع الإسلامي، وبالتالي تزداد توتراً، وتمرداً.

كان "عبد الكريم" يروج لعقيدته، وكان يتميز بقوة الشخصية بحيث يخضع له أتباعه تماماً، يرتكز على الإلحاد، وعدم الإيمان بالله الخالق، بالإضافة إلى أفكاراً أخرى، ومعتقدات شاذة، غريبة عن مجتمعاتنا.

باستغراب سألت أحلام أختها:

- لم هذه الرتابة في حياتنا، وفي كفاحنا؟

انفجرت ليلى بالضحك، وهي تقول:

- ولماذا هذا الاندفاع العجيب الذي يظهر عندك، وعند غيرك من الشباب لا معاناة؟.. تعتمدون على دولة عظمى، على حين بنى أجدادنا التراث الحضاري العظيم رغم وجود دولتين عظميين، كانتا متمثلتين بالفرس، والروم،.. كان تراثنا معتمداً على منبع القوى، على الإيمان بالله تعالى.. صدقيني، لا يمكن أن يشفى وطننا من الذبح إلا بتجديد الإيمان، والجهود، وإعمال البصيرة والفكر، والمثابرة بالسير على قدم الذات.

قالت أحلام:

- إن الاعتماد على قوة عظمى في هذا العصر، أمر ضروري.

- أمر غريب، أنتخلى عن مبادئنا، من أجل التمسك بقوة مؤقتة؟! إن هذا لهاجس شيطاني.

استشرت الأفكار المتناقضة مع القيم في مجتمع البلد، والوطن الذبيح يتدفق دمه في كل مكان، ويشتد التواكل على إحدى الدولتين، يأملون الفرج في الاتكال.. ويمتد التشرد، ويتسع، ويبحث المهجرون عن متنفس لهم في جزء أمين.. ويشتد إقبالهم على المبادئ الجديدة،.. لعل، وعسى..

قالت ليلى:

- ليست الحروب الصليبية عنا ببعيد، التاريخ يحدثنا بالكثير، الغرب يبقى العدو، ولو زوق أساليبه.. تبقى السيادة نابعة منا، ما دمنا في تصالح مع ربنا.

كان اليساريون ينثرون أفكارهم في العقول، والأيام المشمسة تغيب عن فلسطين، ويزداد جرحها عمقاً، والمخلصون يخشون على العروة الوثقى من الانفصام، وجودها وجود للأمة، ونهايتها نهاية لها.

وقالت ليلى بألم:

- إنك يا أحلام تقبضين على الجمر، ولا تفطنين لكفك وهي تحترق.

- ولكن أشعر بالراحة لهذه الأفكار المتطورة.

- إسلامية الأفكار كماء الحياة، تنعش قلوب المسلمين، وتجدد نشاطهم، لإعادة بناء الأجيال، والأوطان.

- ألا تسمعين بالبلايا التي تهطل علينا مثل المطر؟.. فالشباب يقبلون عليها ليتخلصوا منها.

- للأسف، الآباء يتركون أطفالهم بأيد غير أمينة أحياناً، دون متابعة ودراية، وهذا أمر في غاية الخطورة، وعواقبه وخيمة.. ما يسمعون ينعكس في كلامهم، وتصرفاتهم، وأفكارهم، عاجلاً أو آجلاً، شئنا أم أبينا، ثم زفرت ليلى وهي تقول:

- لو كان أبوك حياً لما سمح لك بتبني هذه الأفكار الغريبة.

- قولي ما شئت.. أنا أؤمن بالتطور.

- وأنا مثلك، ولكن نريد أفكاراً عربية، إسلامية، بأساليب متطورة، تصبغ بالقيم التربوية الأصيلة، يراعى فيها خصوصياتنا.

نظرت إلى أحلام باستعطاف، وقالت:

- أترين هذه الأرض التي نقف عليها، ونتغذى بخيرها؟.. إنها تراب أجدادنا، ضمت عظامهم، ورفاتهم، تعبوا فيها كثيراً.. تحتاج إلى الذين يحمونها، لا إلى الذين يعيثون فيها فساداً.

كانت ليلى متألقة بحجابها، وخلقها، رغم النشأة الواحدة مع أختها، اتخذت المثل العليا، والسلام الذي يطير بجناحين قويين، جناحي التوحيد، وتلقيها الإيحائي.

- تبحثين يا أختي عن وجودك الإنساني الحقيقي، فالمحبة الإلهية تشعرك به، فلا تنساقي للأوهام، قوي صلتك بالمجتمع، فهذا البلد متماسك بالأخوة، متعاضد، يشعر بالعزة، يغشاه النور، وترخي الأخوة ظلالها في الألفة، والمحبة، وحسن التعامل مع أصناف الناس.

- وأفكارنا كذلك.

- بل هي استعمار جديد، يحاولون غرسها في واقعنا العربي الإسلامي.

أصبح البيت منقسماً على نفسه، يمين ويسار، ليلى تحمل عقيدة التوحيد، وتطيع الله، وتنتهي عن نواهيه، وأحلام تتحرر من القيم، وتسير من غير وعي، إلى مصير فوضوي.. فكانت ليلى تخشى على أختها من الانجراف، ولا تجد وسيلة معها سوى الحوار للإقناع، لتتجاوز هذه التجربة التي تتخبط فيها، بسبب اضطراب أفكارها، ولتمكنها من الانتصار على نفسها.

تساءلت ليلى:

"ترى: إلى أين تقودها أفكارها الغريبة؟

لماذا تلقي بنفسها في التهلكة؟

كيف أعينها على إعادة بناء نفسها؟

لماذا تستمر في حصار نفسها في خندق اليأس؟.. أنا في حيرة من أمري"

ثم تحاول إقناعها بعدم حضور اجتماعات لا تعلم عنها شيئاً، وتراها تعود منها متوترة، ثائرة، بعبارات، وكلمات غريبة.. أحلام تفكر بالوطن، وتحمل الشعب عار الاحتلال، وترى أن يثأر ويعيد البناء، ولكن بطريقة أخرى.

قالت ليلى:

- الثأر بإعادة بناء النفس، وليس بتدميرها، قال الله تعالى:

(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

أتت العمة "نبيهة"، إليهن زائرة، وكانت قلما تزورهن، سألت أحلام:

- أصحيح أنك تجرين وراء أفكار جديدة يا أحلام؟

- أجل، ومقتنعة بها.. ذابت في عروقي.

- كمن يسبح في مياه ضحلة، تريدين أن تخرجي من جلدك الميت، إلى آخر سيء.

- نريد التطور يا عمتي، وليس الجمود، نريد الإبداع في حياتنا، والاستفادة من الآخرين.

- إن كان التطور في الأساليب، فشيء رائع،.. أما التطور في التراث فبهدمه؟ فتراثنا ليس من إبداع الخلائق، ولكن من إبداع الخالق،.. ولا بد من الجهد المتواصل في اجتياز العوائق للوصول إلى الهدف.

اقتربت العمة "نبيهة" من أحلام، مسحت على رأسها، وهمست في أذنها كلمات ملأى بالحنان، ولكن أحلام تهرب بعينيها منها، وتنظر إليها بطرف ساخر.

صمتت العمة برهة ثم قالت:

- عندما أتينا وغيرنا هذا البلد، كان الضوء ينهمر، والبناء شامخاً، ثم أنتم الإلحاديون تريدون هدم البناء كلية، وإنشاء غيره.. حسن أن نتأثر بأفكار الغير، ورؤاهم، وأذواقهم، وأخيلتهم، ولكن بما يتناسب مع تراثنا الديني، والروحي، وإلا تحول الأمر إلى شيء مثير للسخرية، أو الشفقة، ولن نحظى بالاحترام أبداً، وتحول تراثنا إلى كارثة مكومة أمامنا، وعشنا في خديعة أنفسنا.

قالت أحلام بسخرية:

- فليبق آثاراً وذكريات في التاريخ.

- كيف نتناسى بناء ملأ البشرية بجماله، وعطائه، وروعته، لنبني آخر على طراز لا ينبع من داخلنا؟.. تراثنا بناء فيه إبداع يؤوينا، ويدفئ وجودنا، يحتاج فقط إلى تنقية وترميم، وإزالة ما علق به، بأساليب حضارية زاهية، لتبقى الحياة تضج فيه، وتبقى فيه النضارة، والسمات المميزة.

قالت الأم:

- كفي يا ابنتي عن أحلامك الهشة، نحن في بلد لا يد لنا فيه.

كانت أحلام تستهزئ بأقوال عمتها، وتستبعد من ذهنها أموراً كثيرة، فرائدهم في الحزب يوجههم إلى عكس ذلك. كانت تصوراتها شاردة بين اليمين واليسار، ولكنها أكثر انجذاباً إلى الآخر، وانغماساً فيه.

بصوت عال قالت:

- إن جرحي يا عمتي لم يتوقف عن النزف.

- كلنا في حالة نزف، سنبقى هكذا حتى تلتئم الجروح.

قالت الأم:

- الزمن يداوي الجراح.

- ولكنه يتحرك بطيئاً ثقيلاً كعادته.

- نخفف ثقله بالصبر، والكفاح.

- الأيام تتلو الأيام، يجر بعضها بعضاً، تحمل الخزي والبؤس.

- لم لا نتفاءل، ونقول: ستأتي الأيام بالفرج، والفرح؟

قالت ليلى بدهشة:

- هل أتاك يا أحلام خبر الوطن الجريح؟

- ما هو؟ هل من جديد؟

- إن العدو يقتل قتلاً جماعياً، دير ياسين أفناها على بكرة أبيها، وأخرى من القرى المجاورة، وفي غيرها يقطعون أيدي الأطفال، ضربت العمة بكفها على صدرها، وبدهشة تساءلت:

- لماذا يقطعون الأيدي بالذات؟.. أتراهم يريدون قطعها حتى لا تقذفهم بالحجارة، وباستخدام المقاليع؟ أم إلقاء الحجارة، والمقالع منها؟

- كلاهما.

التفتت ليلى إلى أختها، وقالت:

- أما آن لك أن تقوي صلتك بالله، وتبتهلي إليه كي يخلص وطننا من العذاب؟

- بل نعتمد على قوة عظمى.

بادرت العمة بقولها:

- سبحان الله! بم تفكرين؟... لا ترد فلسطين إلا برجوعنا إلى الله.

- غيب لا تراه عيني، وروسيا موجودة بقوتها، وعظمتها.. فقط نتبنى أفكارها، ونحلها محل ما تعتقدين.

- الإله في السماء يدبر شئون العباد.

- إذن، لماذا لا يدبر شئون وطننا؟

- لابتعادنا عنه، واستعانتنا بغيره.

- هراء.

حاولت ليلى أن تلمس قلبها، وتهزه، وتوقظه من هاجس الهوى، فقالت:

- وراء أي شيء تلهثين؟

عقب الحوار لحظات صمت، وليلى تأمل أن تطالعها أختها بردّ فيه تعقل.. ثم استرخى شيئاً فشيئاً.. نظرت أحلام إلى عمتها، حدقت في وجهها تستشف معاني الكلمات، حاولت أن تقنع نفسها، تركت العنان لتفكيرها، لم ترد أن تثير مشاعرها ضدها، تعرف قسوتها، وتحفزها القسوة إلى الضرب، والإهانة.. قررت أن تسكن، ولكن صمتها أثار ظلالاً محيرة في نفس العمة، وبغضب تقمصت شخصية أخيها خيري، وبحزم قالت:

- لن تخرجي بعد اليوم إلى تلك الاجتماعات التافهة.. أتفهمين؟

ثم خرجت ثائرة، متوعدة.. كان أخشى ما تخشاه أحلام غضب عمها إن علم بالأمر، التفتت إلى أمها قائلة:

- عمتي دائماً تعقد الأمور، ونحكم عليها دون تفحص.. هذا ليس عدلاً.

- ما العدل إذاً؟.. عمتك على حق.

قالت ليلى:

- وأنا تعبت لإقناعك.

عضت أحلام على شفتها بغيظ شديد، ثم قالت:

- أتمنى أن أنتقم من عمتي، ومن بيت عمي.. أنتقم منهم جميعاً.

- لماذا؟ تكلمي.. لقد رأيتك تشيحين بوجهك عنها.. وتصمتين.

- رأيت في صمتي قوة أقهرها به.. ألم تريها وقد خرجت ثائرة، غضبى؟

- لم أعلم بأنك حقود إلى هذا الحد.

تعثرت الكلمات على شفتي أحلام، مبللة بالألم.. تملك الأم إحساس بالشفقة، وبررت أخطاء ابنتها، وقالت:

- فقط أختك تريد أن تتطور، ثم تتهم بالتمرد.

- أمي: لم تبررين أخطاءها؟.. هذا يزيدها إصراراً وعناداً.

قالت أحلام:

- كلمات عمتي القاسية، وتوعدها لم تخلع أحلامي من قلبي، بل تزيدها رسوخاً.

- لم إذن تبكين؟

- لأشياء كثيرة.. الحرمان، القهر، الفقر، أليس لديكما إحساس بالمقارنة، بيننا وبين بيت عمي؟

- نشكر الله على كل ذلك.

يتبع إن شاء الله.

                  

* أديبة سورية تعيش في المنفى