الورطة

شريف الراس

وفيها حكاية ما جرى لأستاذ الفلسفة

محمود قاضي القلعة (العبقري سابقاً)

منذ لحظة وصوله إلى البلاد إلى أن نجا من الموت بأعجوبة

شريف الراس

أعلنت المضيفة أننا على وشك الهبوط في مطار العاصمة.

تململتُ قليلاً تحت الحزام المشدود إلى المقعد، منتظراً تلك اللحظة (المحرجة والمطمئنة) التي نشعر بها عندما ترتطم دواليب الطائرة بالأسفلت أول ما تحط على المدرج في جريانها السريع. وتوجهت بنظري نحو النافذة الصغيرة متلهفاً لرؤية أي شيء من المطار، لولا أنه كان بيني وبين النافذة رأس جاري الصامت، هذا شيخ من الجزيرة العربية لم يبادلني الحديث بكلمة منذ أن أقلعنا من مطار الظهران، هاهو مغمض عينيه بوجل واضح، وشفتاه تتمتمان بدعاء ما. ربما كان يقرأ آية الكرسي، فخجلت أن أقطع عليه خشوعه، وقلت لنفسي مواسياً:

* أنت على كل حال لن ترى شيئاً من خلال هذه النافذة، ثم إنني أريد أن أسألك يا بروفيسور أبا عدنان: ما الداعي لكل هذا التحرّق والتململ؟.. فها إن الطائرة قد حطت، وسوف تتوقف بعد دقائق، وننزل، وأجد في ردهة المطار - خلف الزجاج- أم عدنان، وعدنان. وقد ألمح معهما –مثل كل مرة- ابن أخي أنور بثيابه العسكرية الأنيقة التي لا همّ له إلا أن يكويها كل يوم، وسألمحهم مهما كان حشد المستقبلين خلف الزجاج الأصم كبيراً، لأن أنور يسطع كالشمس، إنه –على خجله الشديد- أجمل مجنّد إلزامي في جيوش العالم، وعلامته المميزة أيضاً أنه يحمل على كتفه ابني عدنان، والاثنان معاً يبتسمان فرحين وهما يلوّحان لي بأيديهما: "عمي.. نحن هنا.. أبي نحن هنا". غير أن عدنان لن يكون جالساً على كتفه هذه المرة، لأن عدنان شبّ وصار رجلاً في الرابعة عشرة.

وبقية المشهد معروفة، لأنني سوف أسأل أنور، مثل كل مرة: "أما انتهت المدة القانونية لخدمتك العسكرية؟.. ألا تريد أن تعود إلى تل عنبر؟". فيبتسم خافضاً بصره وهو يقول: "الله كريم يا عمي"، ثم نودعه ونأخذ سيارة صغيرة من المطار إلى حلب فتل عنبر، ويظل عدنان –طول الطريق- يسألني عن أدق تفاصيل حياتي هناك، وهو يحب كثيراً أن أحدثه عن البحر في الدمام، لأنه لم ير بحراً في حياته، أما أم عدنان فإنها تظل صامتة، لأن التعبير عن العواطف على مسمع من السائق الغريب: عيب.

لا تزعلي أيتها الإنسانة الرائعة، فقد انتهى كل شيء، وأنا بينت لك ذلك في رسالتي الأخيرة، سوف نعيش معاً إلى الأبد في بيتنا الصغير، ولن أغادر تل عنبر قط، وقد لا أغادر البيت أصلاً، لأنني وقد تجاوزت سن الخمسين سأتفرغ للكتابة والرسم، أريد أن أؤلف كل الكتب التي لم أؤلفها، وأريد أن أحقق حلمي القديم برسم لوحات رائعة، وبعد اليوم لن نعود إلى رحلة الشتاء والصيف أبداً، لأنه تجمّع لدينا رصيد كاف لتغطية نفقات ما تبقى من العمر.

مرّ كلّ ذلك في لحظات، والركّاب فكوا الأحزمة ونهض معظمهم عن المقاعد، وجاري الشيخ الجزيري فتح عينيه عندما توقفت الطائرة تماماً، والتفت إليّ مرتاحاً:

- الحمد لله على السلامة يا أخ.

* أشكرك..

ها إنه يبتسم بارتياح، ولاحظت أن عينيه السوداوين مكحولتان بكحل أسود أيضاً، ويبدو أن مشاعر الارتياح أغرته بأن يمضي قدماً في عالم المودّة الجميل، فسألني:

- هل هذه أول مرة تركب فيها الطائرة؟

* بل هي آخر مرة إن شاء الله.

فضحك وهو يقول:

- لو كنت أعرف أنك تتحلى بهذه الروح المرحة، لما توقفت عن الحديث معك طول الطريق.

قال ذلك وهو ينظر إلى أعلى، لأنني كنت أطول منه بشبر على الأقل.. فقلت له:

- معك كل الحق.. شكلي العملاقي الضخم –سبحان الله- يوحي للناس بهذا الانطباع، لذلك فإنني عُرفت بين أصدقائي بلقب: الآفة.

فانفجر الرجل بالضحك، وأنا لن أنسى ذلك ما حييت.. لأن هذه آخر مرة أرى فيها إنساناً يضحك، فبعد ذلك مباشرة نزلت الفأس في الرأس بشكل مفاجئ وصاعق.

من كان يتوقع أن يحدث ذلك؟

وصلت إلى موظف الجوازات، وأنا مطمئن إلى أن صفحتي نقية تماماً، وفي كل مرة، عندما أعود في رحلة الصيف، يدمغون جوازي بالختم المثلث "دخول" فأدخل، ولسان حالهم يقول:

"لا شأن لنا بك، فأنت منذ بداية الثورة لم تتدخل بأي شيء على الإطلاق.. ليت كل الركّاب يفعلون مثلك فيهتمون بمأكلهم ومشربهم، ويتركون لنا أعباء قضايا المصير".

قلّب الموظف أوراق الجواز بسرعة الواثق من أن كل شيء هو على أحسن ما يرام، وحمل الختم المثلث وهمّ بأن يدمغ الجواز، لكنه توقف فجأة وكأنه تذكر أمراً ما، فعاد إلى الصفحة الأولى وتأملها، ثم نظر إلى وجهي (لاحظت أنه أشرم) سألني:

- هل أنت محمود قاضي القلعة؟

* أظن أن ذلك مكتوب قدامك في الجواز.. هل هناك أي التباس لا سمح الله؟

- لا.. لا شيء، مكتوب هنا أنك خرّيج دراسات عليا.

* فلسفة.. أي نعم.. أنا تخرّجت من الجامعة مدرساً للفلسفة منذ ربع قرن.

- مبيّن هنا في الجواز أنك غادرت البلاد في نهاية الصيف.

* هذا صحيح.. فأنا في كل سنة أسافر إلى الدمام ثمانية أشهر، زوجتي وأنا نسمّيها رحلة الشتاء، وأعود مع بداية الصيف لأعيش مع أهلي.

- لكنك رجعت مبكراً هذه المرة.. لا أظن أن السنة الدراسية قد انتهت.

* أنا لا أشتغل مدرّساً يا أخي.. فمنذ أن غادرت البلاد أول مرة، قبل عشر سنوات، مارست مهنة دهّان.

فسألني بارتياب: دهّان؟!

هنا لاحظت أن الشرم الذي في شفته العليا هو شرم منفّر، كما أن فأس الغدر الغامض التي كانت تهتز فوق رأسي، (هذه الفأس التي كنت أتحاشاها متعمداً الحديث بلسان إنسان عادي مطمئن)، قد أمسكت بها يد قوية، وعليّ أن أنتظر الضربة القاتلة في أية لحظة، غير أنني قررت التماسك وشددت أعصابي بقوة، قلت:

- بلى يا أخي.. يعني في مصر: نقّاش، وفي العراق: صباغ، ولا أدري ماذا يسمونه في بلاد المغرب العربي، لأن العرب لم يتفقوا بعد على اسم موحّد لهذه الحرفة البسيطة.

وتلفّتُّ حولي كأني أبحث عن ذلك الشيخ الجزيري، الذي ربما كان سيضحك لو أنه سمع هذه الطرفة، لكن الموظف الأشرم استعادني إليه بسؤال آخر، لكن بلهجة استخفاف مثيرة للارتياب:

- إذن أنت من بلدة تل عنبر؟!

حاولت جهدي أن أمسك قلبي عن أن يسقط في هوة الذعر التي كاد ينزلق فيها، وتشبثت بحالة الإنسان الطبيعي، فقلت ملاطفاً:

* صحيح أن بلدتنا تل عنبر صغيرة وبعيدة.. هناك في الشمال.. في جبال إدلب.. لكنها مدينة قديمة وجميلة، خيراتها كثيرة وكل بيوتها من الحجر المنحوت، أظنك سمعت بها لأنها في تأريخ نضالنا الوطني كانت أحد معاقل البطل إبراهيم هنانو.

- وماذا كان يشتغل ذلك الهنانو أفندي؟.. وما حاجته إلى المعاقل؟.. هل كان يربط فيها حميراً؟

نزلت الفأس في الرأس وبعدها لن تقوم لي قائمة.

(أحياناً.. كنت وأنا أراجع حساباتي القديمة على مهل، في ساعات السجن الطويلة، أعود إلى هذه النقطة فأسأل نفسي: هل كنت حماراً إذ زلق لساني بذكر اسم إبراهيم هنانو في زمن عبد الذات؟.. لأنه إذا كان إبراهيم هنانو بطلاً وطنياً، فماذا تركت لعبد الذات يا عبقري؟).

سألني: هل لك ولد اسمه عدنان؟

فقلت ملهوفاً:

ماله عدنان؟.. إنه بالفعل ولدي الوحيد، وعمره أربعة عشر عاماً، لكن ما الذي أوصل اسمه إلى هنا؟.. أخبرني يا حضرة الأفندي أرجوك.. مستحيل أن يكون عدنان قد فعل شيئاً، فهو ما يزال طفلاً، هل أصابه مكروه؟ ماذا جرى له؟.. خبّرني أرجوك.

قال: بل أنت الذي ستخبرنا الآن بكل شيء.

وضغط على زر أمامه، وكتب بضع كلمات على وريقة صفراء، دسّها في الجواز والتفت إلى "هناك". فجاء من "هناك" رجلان لا داعي لوصفهما، يكفي القول: إنهما عبارة عن ثياب مدنية أنيقة تغطّي وحشين لا علاقة لهما بأية نأمةٍ إنسانية، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ماذا حدث؟..

الأشرم أعطاهما الجواز قائلاً:

- خذوه إلى المقدّم خضّور.

* لكنني أريد أن أعرف السبب يا جماعة أرجوكم.. هناك التباس حتماً، فأنا منذ بداية الثورة لم..

اختفت بقية العبارة في حلقي لموانع بيولوجية خالصة، فقد فوجئت بلكمة مروعة على أمعائي جعلتني أتلوى تحت وطأة آلام التمزق القاتل، فيما راحت عيناي تحترقان بوهج شموس كثيرة متشظية، وسمعت من يقول:

- تعلّم كيف تكون مؤدباً يا ابن الشرموطة.. لا تتكلم إلا عندما نطلب منك نحن أن تتكلم.

وكانت صورة عبد الذات تبتسم في ميدالية معدنية صغيرة زيّن بها هذا "المؤدّب" ياقة جاكيته، ومشيت معهما.

عبرنا ممرات طويلة داخل مبنى المطار، لا شيء غير الأبواب المغلقة وصور عبد الذات، بمقياس كبير، ملصقة على الجدران، وأنا أمشي بين هذين الوحشين الأنيقين صامتاً، معدتي ما تزال تمضني بأوجاع الضربة، وذهني يسأل بإلحاح:

"ماذا أصاب عدنان؟.. كيف أنقذ عدنان؟".

وعندما عبرنا ردهة الجمارك، والناس مشغولون بفتح حقائبهم، ألقيت نظرة خافتة على الواجهة الزجاجية الواسعة التي يسطع وجه "أنور" خلفها عادة.. كان حشد المستقبلين كبيراً، ولكنني لم أستطع أن ألمح أحداً، لا أنور ولا عدنان ولا فضيلة، لأن صفاً من صور عبد الذات كان يغطي الزجاج، فيحجزنا عن البشر.. إنه ينظر إلينا دائماً وهو يبتسم. لم يبق في البلاد كلها إلا هذا الفرعون بل صورته فقط، وجدار هائل من الزجاج السميك يحجز خلفه كل الناس: إنهم يصرخون، يلوّحون بأيديهم، ينادون، ولكننا لا نسمعهم أبداً.. لا أحد يسمع أحداً، لا أحد يريد أن يعرف حكايتنا، وأنا أكاد أصرخ: "أيها الناس.. ألا يوجد بينكم من يخبرني عما جرى لولدي؟". في تلك اللحظة أدركت أن ابني عدنان قد قُتل، فنفضت رأسي رافضاً هذا التوجس المقيت.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

وكنا قد صعدنا درجاً ضيقاً إلى غرفة في الطابق الأول، فأُمرت بأن أقف هنا.

الوحش الثاني، الذي لم يعلّمني الأدب بلكمة قاتلة على معدتي، ظل واقفاً معي، كان يتأملني بنظرة فيها حقد غامض، ولكن فيها إشفاق مشوب بالأسف، كأنه يريد أن يقول:

"إذن فأنت الثور الكبير الذي حان وقت إرساله إلى المذبح؟! ما الذي جعلك تفلح بخط أعوج؟".

لم أسأله عما إذا كانت هذه غرفة المقدم خضور، فلا جدوى من السؤال، وعلينا أن ننتظر ثمرات جهود زميله صاحب القبضة التأديبية القاتلة، الذي كان قد قرع الباب بلطف، وتفقد هندامه جيداً قبل أن يفتح الباب ويغيب خلفه.

سألني أبو نظرة إشفاق: هل معك حقائب؟

قلت: لن يضيع شيء.. سأجدها في ردهة الجمارك إذا لم تستغرق المقابلة وقتاً طويلاً.

فقال.. لم يقل.. لم يتحرك لسانه بكلمة، وإنما ارتسمت على شفتيه بسمة استخفاف، وفي الوقت ذاته فوجئنا بباب الغرفة يُفتح ويأتيني منه شاب عجيب، فيحتضنني وهو يغمرني بالقبلات ويقول:

- غير معقول!!.. أستاذنا الكبير محمود قاضي القلعة؟!.. هذا شيء غير معقول أبداً.. تفضل نفضل أستاذي.. تفضل أرجوك.. يا مرحباً يا مرحباً..

ثم التفتت إلى "العنصرين" اللذين صعقتهما المفاجأة:

"اطلبوا لنا فنجانين من القهوة".

ثم أغلق الباب.

هل هذا هو المقدّم خضور؟ إنه شاب طويل، نحيف، أنيق، أسنانه بيضاء، طويل العنق بشكل خاص.

نظر إليَّ وهو يبتسم بفرحته الغامرة:

كأنك لم تعرفني يا أستاذنا العظيم.. معك حق.. لأن صورتي في ذهنك هي صورة تلميذ صغير في مدرسة ابتدائية.. وبعدها لم نر بعضنا..

ثم هزّني بيديه، وأسنانه تتألق بالفرح:

أستاذنا العظيم.. هل صحيح أنني ألقاك بعد أكثر من ثلاثين سنة؟.. هل صحيح أنك نسيت قرية المطعونة؟ مستحيل!.. أنت بالذات لا يمكن أن تنسانا، فأهل المطعونة كلهم ما زالوا يذكرونك بمحبة واحترام.. كنت أستاذاً رائعاً.

سألته: وأنت؟

فتساءل مستغرباً: أنا؟!.. لا.. لا.. لا تقل أنك نسيت الولد خضور أبو خضور.

فصرخت مبتهجاً: خضور أبو الكلب؟!

فضحك الشاب طويل العنق قائلاً: يعني نسيتني أنا ولم تنس الكلب؟

قلت: ذلك أنك كنت التلميذ الوحيد الذي كان يصر على أن لا يدخل الصف إلا وكلبه معه، ثم إن كلبك الرائع كان فريداً في صفاته.. وهل يوجد في الدنيا كلب مثل شرارة؟ (ما أعجب مفاجآت الذاكرة!!).

فكاد يطير غبطة وابتهاجاً وهو يتساءل: وما زلت تحفظ اسمه أيضاً؟.

والحق أنني في تلك اللحظة استعدت صورة ذلك الطفل كاملة، كان يدهشني فيه أن عنقه يشبه عنق كلبه السلوقي "شرارة" شبهاً عجيباً، وها إنني الآن أراهما أمامي: الطفل جالس تحت مقعده الخشبي بجسده النحيل وعنقه الطويل، وكلبه السلوقي جالس تحت المقعد بجسده الرشيق، وأضلاعه البارزة وعنقه الطويل، والاثنان معاً يصغيان إلى الدرس بانتباه شديد.

جاءت القهوة.. والوحش أبو الإشفاق، الذي جلب القهوة، همس في أذن سيده بكلمات انتهت إلى طلب بطاقة سفري، قال المقدّم الذي يحبني:

لأن الحقائب وصلت، ونريد أن نجلب حقائبك حتى لا تضيع.

أخذ الرجل البطاقة ومضى.. فقلت ملاطفاً:

- أخشى أن أكون قد سبّبت لكم إزعاجاً بخصوص الحقائب.. فأنا قادر على أن أحملها بنفسي حين أخرج الآن..

فقال خضور: وعلام أنت مستعجل يا أستاذنا؟.. هل يرافقك أحد؟.. إن كان معك أحد فأخبرني باسمه لندعوه هو أيضاً.. أنت الليلة ضيفي على العشاء، أنت وكل من معك حتى ولو كانوا ركاب الطائرة جميعاً، عشاء وسهرة حتى الصباح.. آه ما أمتع أن أقضي معك سهرة مناقشات فكرية حتى الصباح.. هذا حقي شرعاً.. من حقي عليك أن أصادرك ليلة واحدة، لقاء مصادرتك إياي كل هذه السنين.

فسألته باستغراب شديد: أنا؟.. أنا صادرتك يا حضرة المقدم؟.

- خضور أرجوك.. بلا مقدم ولا بطيخ. أنا الآن بين يديك خضور التلميذ المعجب، صاحب كلب الصيد شرارة.

*حسناً يا خضور.. وكيف صادرتك؟

- أنت علّمتنا في المدرسة الابتدائية سنة ثم مضيت، أما أنا فإنني ثابرت على متابعتك، كنت أقرأ كل مقالاتك، مستحيل أن أجد جريدة أو مجلة، في تلك السنوات جميعاً، وفيها مقالة لك إلا وأشتريها.. هل تحب أن أناقشك بمواضيعها الآن؟

* أإلى هذا الحد؟

- طبعاً.. فأنت صاحب الفضل عليّ.. ولولا مقالاتك العظيمة لما انتميت إلى الحزب وصرت ما أنا عليه الآن.. أنت.. مقالاتك هي التي خلقت عقيدتي السياسية التي جاءت هذه الثورة العظيمة لتحقيقها في أرض الواقع.. أنت أستاذنا جميعاً.. إن كلماتك يا أستاذنا صارت رجالاً. (ودق بيده على صدره باعتزاز).

وقدم لي سيكارة وأرّثها لي بولاعة من ذهب، وكان لساعة يده سوار من الذهب أيضاً..

- يا مرحباً يا مرحباً.. إذن اتفقنا على سهرة الليلة.. آ..؟

قلت:

* أنا موافق على كل مخططاتك.. وإنني أشكرك على هذه الحفاوة.. لكن أليس من الأفضل أن نحل مشكلتي أولاً؟!

- مشكلة؟!.. أية مشكلة يا أستاذنا الجليل؟.. هناك سوء فهم قطعاً.. لأنه من غير المعقول أن يكون أستاذ الثوار دهّاناً.

ثم قلب أوراق جواز سفري وتساءل ساخراً:

- دهّان!.. أأنت دهان؟.. أنت مكانك الطبيعي في الصفوف الأولى من واجهة الثورة. يا رجل: نحن بأفكارك نحارب، فالثورة اشتراكية، وأنت أبو الاشتراكية.. (كيف أخبره بأنني أنا من ضيّع في الأوهام عمره؟)..

ثم قال: سأذهب بنفسي لأنهي موضوع هذا الالتباس.. لحظات وأعود إليك.. خذ راحتك أستاذي.. المكتب مكتبك، أنت تمون على رقابنا..

وخرج وأغلق الباب خلفه..

ومرت ساعة، وساعتان، ودهر طويل دون أن يرجع هذا الخضور أبداً.. والوقت يمر بطيئاً وثقيلاً بشكل قاتل، لقد حفظت تفاصيل هذه الغرفة وشكل كل قطعة أثاث فيها.. وما عاد يجديني أن أحاول قتل الوقت باستعراض أشياء الغرفة على مهل، فذهني مشغول بأسئلة مقلقة: "هل وقعت في فخ الاعتقال!؟.. ولماذا تأخر المقدم خضور كل هذا الوقت؟.."

لكنني أعود فأهرب من القلق إلى استعراض أشياء الغرفة الصامتة: جهاز الهاتف، مذياع صغير، صورة عبد الذات وهو يبتسم، مشجب كرسي..

لقد حفظتها بدقة تامة مثلما حفظت عن ظهر قلب ترتيب كل حذاء كان معروضاً في واجهات المحلات التجارية الفخمة في شارع الحمراء من أوله إلى آخره ذهاباً وإياباً، ويداي في جيبي وأنا أمشي على هذا الرصيف حتى نهاية الشارع، وأتوقف أمام واجهة كل مخزن فأتأمل ما فيه، كانت الأحذية كثيرة وأنا أكره الأحذية، بل إنني أستغرب كيف يمكن أن تحترم إنساناً بناءً على غلاء ثمن حذائه، لكنني كنت مضطراً لانتظار "توفيق" الذي سيرحب بي حتماً ويقبلني محرراً في مجلته، وتوفيق مسافر في واشنطن وسوف يعود إن لم يكن غداً فبعد غد، إذن عليّ أن أستعرض واجهات الرصيف المقابل، هنا الأحذية كثيرة.. ومع مرور الأيام وجدت لديّ تآلفاً مع الأحذية، من الممكن للإنسان –بدلاً من أن يتأمل لوحات فنية تغني روحه- أن يتأمل أحذية ذات أسعار كاوية، وتوفيق تأخر في رحلته، وكانت توجد بين واجهات المخازن الضخمة دكان صغيرة عتيقة، تفوح منها رائحة الفلافل المقلي المنعشة، هنا كانت محطة توقفي يومياً، فالفلافل لذيذة وهي تسند المعدة جيداً، وكان يجلس على الرصيف، أمام دكان الفلافل، ثلاثة حمالين أو أربعة، كل منهم يرتدي "حلساً" سميكاً، وعلى كتفه حبل عريض وهم يلفون سيكاراتهم ويدخنون في انتظار من يطلبهم للعمل، ومع كثرة ترددي في الرواح والمجيء أمامهم، صارت بيننا ألفة عجيبة وصامتة، فنحن لم نتبادل مع بعضنا أية كلمة.. ولكنني –من نظراتهم- شعرت بأنهم يقولون لي ساخرين:

"تعال واجلس معنا يا حضرة البروفيسور، بلا فلسفة بلا كلام فارغ، نعطيك حلساً وحبلاً عريضاً، ونجلس في انتظار من ينفّعك بقرشين لقاء حمل أغراضه. تعال وصفّ على الدّور".

أرعبتني الفكرة فهرعت مسرعاً، هذه المرة إن لم أجد صديقي في مكتبه، فسوف أترك بيروت وأرجع إلى تل عنبر. لقد حفظت أشكال الأحذية وأسعارها وأوضاعها في الواجهات الزجاجية جميعاً. طلعت روحي. ثم إن أسعار بعض تلك الأحذية كانت غير معقولة، هل صحيح أن ثمة إنساناً يشتري حذاء بمبلغ يكفي لإطعام ألف رغيف فلافل لألف شخص جائع؟.. لا.. لا.. أنا لا أحب هذه الأجواء، وخير لي أن أرجع إلى تل عنبر، يومها ضحك "أخي توفيق" حتى كاد ينقلب من فوق كرسي مكتبه الضخم، عندما وجدته في المجلة، وأفرغت شحنة غضبي على الأحذية والفلافل والعتالين.. المهم أنني وجدت "أخي توفيق" يومذاك.

لكن أين راح تلميذي خضور؟..

هل أقوم وأفتح الباب لأسأل عنه؟!..

أم أنه لا حق لي بالحركة منذ أن دخلت غرفة ضابط أمن؟..

غير أنني ما عدت أطيق الانتظار في هذه الغرفة التي سحقت أعصابي بصمتها.. أريد أن أعرف –على الأقل- أين صارت حقائبي، وماذا جرى لأهلي الذين ينتظرون في ردهة استقبال القادمين؟.. وولدي عدنان؟ ماذا أصابه؟ ولماذا سألوني عنه؟

- هل أقوم وأفتح الباب وأخرج؟

- اعقل يا رجل.. كن رصيناً واعرف أين أنت.

- هل أنا معتقل؟

- انتظر ريثما تعرف.. ومن المهم أن تتمالك أعصابك وأنت في حالة الانتظار، فخضور يحبك ويحترمك بصدق..

وخضور سيعود إليك حتماً مثلما عادت إليك صورة ذلك التلميذ الفقير الذي كان عنده كلب سلوقي اسمه شرارة، ذلك الحيوان الرشيق ذو الأضلاع البارزة والعنق الطويل، كان كلباً جميلاً وذكياً، وكان يصغي للدرس بكل انتباه.. أما في رحلات الصيد أيام الجمعة، فإنه كان يثبت مهارة مدهشة في اصطياد الأرانب، وكنا نلحق به راكضين في الحقول أنا والتلاميذ ونحن نضحك ونلهث، ففي أيام الجمعة كان التلاميذ يحبون أن يظلوا معي، أما البنات فإنهن يقضين يوم العطلة الأسبوعي في بيوتهن، ولكن فرحتهن لا توصف عندما أصل إلى بيت إحداهن مع أبيها مدعواً على العشاء، كان أهل "المطعونة" قد أجمعوا على أن هذا المعلم الشاب، القادم من تل عنبر، ليس معلماً عادياً، إنه "فلتة" حسب تعبير الشيخ نوح إمام المسجد الطريف الذي كان يؤكد لي أنه كان في أيام شبابه أطول مني وأعرض، ولكنه "تقلص" مع مرور الزمن، فالشيخوخة تصغّر جسم الإنسان، ثم يقول لي:

"إن كانت الكتب المدرسية لم تذكر هذه الحقيقة العلمية بوضوح، فإنها كتب ناقصة".

وها إنني أرى الشيخ نوح أمامي الآن بعد تلك الغفوة الطويلة، تحت أكداس الذاكرة التي تراكمت فوق بعضها سنوات طويلة، ومع الشيخ نوح جاءت أم وضحة صاحبة الغرفة التي استأجرناها مدرسة. كانت غرفة طينية ذات سقف منخفض، لكنها غرفة واسعة بحيث أن نصفها الداخلي معتم تماماً، هناك وضع أبو إسماعيل كل محصول القرية من الفول ريثما يحين الوقت وترتفع الأسعار، فينزل به إلى المدينة، لكن المشكلة أن التلاميذ صاروا يهرشون جلودهم بسبب الحشرات السوداء الصغيرة التي ملأت الغرفة، وفيما راحت أم وضحة تؤكد أن هذا "الفسفوس" آتٍ من الفول، فإن التاجر أبا إسماعيل، الذي تبرع بإيوائنا –على حسابه- مع خزين الفول في هذا المستودع الواحد، أصر على أن الفسفوس اللعين آت من أخشاب السقف العتيقة، واجتمع وجهاء المطعونة أمام الباب، وكل منهم مستند إلى عصاه حتى لا يزلق في الوحول أثناء المشي، وقرروا وضع حد للمشكلة، فكان الحل الوحيد هو بقاؤنا في هذه الغرفة التي لا يدخلها النور إلا من الباب، فإذا أغلقنا الباب عمينا، وإذا فتحنا الباب قتلنا البرد، وفي هذه الناحية من الغرفة كانت المقاعد الخشبية العتيقة التي يجلس عليها الأولاد والبنات، يصغون بفضول شديد إلى أحاديث الأستاذ عن جمال الدنيا عندما تتحقق الاشتراكية ويأتي النعيم.

فتح الباب فنهضت على الفور، كأني بلغت لحظة الخلاص التي طال انتظارها، لكن الذي جاء لم يكن المقدم خضور، وإنما جاء صاحب اللكمة التأديبية، جاء بوجهه الجامد ولهجته الآمرة:

- تعال.

* إلى أين؟

- هذا لا يعنيك.

* والمقدم خضور؟

- امش معنا وأنت ساكت.

* والأغراض!!.. حقائبي يا أخي.. وأهلي الذين ينتظرونني.. زوجتي وابني..

- وتسأل عنه أيضاً يا ابن الشرموطة؟!

هذه العبارة الحضارية الأخيرة جاءت مع لكمة قاتلة من قبضته الحديدية على المعدة تماماً، أظن أن عينيّ خرجتا من محجريهما وأنا أتلوى من شدة الألم.. كنت أمانع أمعائي من أن تخرج من فمي.. صار من الغباء أن أطرح أي سؤال.. وحتى لو جاءت الأجوبة كلمات لا لكمات، فما الفائدة من الكلمات؟ فأنت مأخوذ مأخوذ، سعرك بسعر ورقة يابسة تجرفها الرياح، فلننتظر إلى أن نعرف المحط الذي سوف تهدأ عنده الرياح.

وها إن الرياح تجري بي, في سيارة عسكرية صغيرة مكشوفة الجانبين ومسقوفة بغطاء قماشي، وأنا جالس بين أربعة زبانية: أبو لكمات الآداب هو الذي يقود السيارة، وقد عرفت أن اسمه "أبو الحنتير" (لا أعرف ما هو الحنتير) أما رفيقه الصامت، الجالس إلى جانبه فينادونه "مرشد".. وعن يميني جندي وعن شمالي جندي، ونحن نعبر شوارع دمشق وأنا أرى أناساً وسيارات وعمارات وصوراً كبيرة وكثيرة لعبد الذات، وكأنني لا أرى شيئاً على الإطلاق، فقد كانت جمجمتي تغلي بدماغ يوشك أن ينفجر: ماذا يجري في هذه الدنيا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ على من أطرح أسئلتي؟ لماذا تهرّب المقدم خضور من مقابلتي؟ إلى أن أفقت على حادثة عجيبة جعلتني في حالة يأس، نهاني من جدوى طرح أي سؤال.

فقد وصلنا إلى حي شعبي في أطراف المدينة، وها إننا نجتاز بسيارتنا شارعاً ضيقاً، وثمة صبي راكب دراجته الهوائية يقودها بيد، ويسند بيده الثانية كيس خبز على صدره (بعد أن مات عرفنا أنه كيس خبز) فصرخ به أبو الحنتير: خذ يمينك يا ابن العاهرة. يلعن "...." أمك..

توقف الصبي، ونزل عن دراجته، ونظر إلينا قائلاً باستنكار:

- أنا كنت آخذاً يميني بشكل صحيح.. فلماذا هذا السباب؟

أوقف أبو الحنتير السيارة، ونزل إليه حانقاً:

"ولك أيضاً لسان يردّ يا ابن الكلب؟.. سأعلمك كيف تبلع لسانك".

وصفعه بكفه المخباطي صفعة أفقدته التوازن، فسقط المسكين أرضاً هو ودراجته.. ووقع الكيس الورقي من يده، وراح يتوسل بوجه مذعور:

- حرام عليك عمو.. أنا ما أذنبت.. حرام عليك..

فركله الوحش بقدمه ركلة قاتلة، أظن أنه كسر أضلاعه، لأن الصبي المطعون وضع يده على خاصرته، وانثنى عليها وهو يبكي متألماً ومستغيثاً:

- دخيلك عمو.. إكراماً لله.. التوبة..

كان المسكين قد تكوّم بجسده الهزيل فوق الدراجة النائمة تحته، وكان يستغيث ويتوسل والوحش ماض في دوسه بقدميه، ضربة بالحذاء على الراس، ضربة على الصدر، ضربة على العنق:

"وتريد أن تعلّمني الأدب أيضاً يا ابن الحرام؟!".

والفاجعة المذهلة تجري هكذا على نحو خاطف مفاجئ، والناس قد توقفوا بعيداً بألسنة مربوطة وأعين مبهوتة وجاحظة، كأنما هم تماثيل مصفوفة، وأنا أهمّ بأن أتحرك من موقعي بين حارسيَّ، فأجد يداً غليظة على ركبتي هذه ويداً غليظة على يدي تلك، وكلتاهما تضغطان آمرتين بالتعقّل، لكنني لم أمتلك نفسي فصرخت:

"اعف عنه يا أبا الحنتير، فالعفو من شيم الكرام".

وكان أنين الصبي يمزق قلبي، كان صبياً فقيراً، ضعيفاً، ومستجيراً، وأنا أتمزق.. إنه من سن ولدي عدنان، وها إنهم يقتلون ولدي عدنان أمام عيني، وأنا مكبل ومطعون في قلبي تماماً، وأظن أن هذا الوحش الهائج لم يسمع رجائي، فقد ظل يركل جثة العصفور المتقلبة فوق الدراجة بعنف وغضب، وصبيب الشتائم البذيئة ما يزال هادراً على لسانه، ولمح الكيس الورقي فركله بقدمه فطارت أرغفة الخبز في الهواء، ثم نظر إلى الناس المبهوتين وصرخ فيهم:

"هذا مصير كل كلب يسب رئيسنا المناضل عبد الذات"..

ثم نفض يديه ورجع فجلس وراء المقود وانطلق بالسيارة، فأدركت أنه سيطلب مني أن أشهد في المحكمة بأن ذلك الصبي المسكين قد سب رئيس الدولة.. ولكن لم يحدث شيء من ذلك أبداً، وأنت يا محمود قاضي القلعة مازلت تعيش في الوهم، إذ كيف تسمح لذهنك أن يستذكر كلمات مثل: محاكم، قوانين، حقوق؟!.. يا بني آدم اعقل، فلقد تطورت الأوضاع صعداً إلى أن بلغنا مرحلة إلغاء كل هذه الأشياء التي لم يعد لها لزوم.. وهذا الصبي المسكين مات وهو ينظر إليك أو إلى أي إنسان كأنما عيناه الجامدتان على جحوظ الموت، كانتا تسألانك: "أين الرجال؟"

كانت السيارة تمضي بنا من زقاق إلى زقاق ونحن صامتون، وكنت أنظر إلى مؤخرة رأس أبي الحنتير وأنا أبتسم لتعبير "شيم الكرام" الذي ما يزال يرن في أذني.. بينما صورة ذلك الصبي القتيل، بل وجهه الناحل فقط، بل عيناه المتجمدتان على جحوظ بهتان وذعر واتهام تحشرني حشراً في زاوية محرجة: أين الرجال الذين يحمون أطفالهم من الوحش؟.. إنني أحتقرك يا محمود قاضي القلعة، يا خصيّ، يا جبان، يا كذاب.. يا من اختبأت خلف وهم الحيادية والانزواء والسفر بعيداً، والعزلة واحتراف صباغة الأبواب والجدران، فحتى لو كنت دهاناً، بل حتى لو كنت نزاح مراحيض فإن هذا لن ينجيك من ملاحقة عيني ذلك الصبي المغدور، الذي سيظل يسوطك بسؤاله المدوّي:

أين الرجال؟.. أين النخوة؟..

إن قاتل الأطفال وحش، ولكن الساكت عن ذلك الوحش دودة.. يا محمود قاضي القلعة أنت دودة حقيرة ومقرفة، أسفي على كل هذا الطول والعرض والعملقة، لو كانت هذه الجثة على بغل لكانت أكثر فائدة للبشرية، فالبغل يرفس على الأقل.

وتوقفت السيارة، وأنا توقفت عن الانسياق مع هذا التوبيخ الذاتي الذي أعذب نفسي به يومياً خلال كل سنوات الصمت، قلت زاجراً:

"انتبه لنفسك يا عبقري، بدلاً من التوبيخ نبّه كل قواك الفكرية للمساعدة في اتخاذ القرار الحكيم، والنطق بالأجوبة المنجية، فأنت مقبل الآن على "التحقيق"..

أمروني بلهجة جافة: انزل..

نزلت، نحن أمام مدخل بناية عادية لا يميزها إلا وقوف مسلحين من شرطة الجيش على جانبي الباب، وصورة كبيرة لعبد الذات فوق الباب.. ثم دخلنا ردهة الطابق الأرضي (سيفرجون عني الآن حتماً ما إن يكتشفون براءتي) ثم بدأنا ننزل الدرج إلى قبو تحت الأرض (سواء أكان المقدم خضور موجوداً مع المحققين أم غير موجود، فإنهم سيعرفون من أنا، وكم ناضلت قبل الثورة..

"إذن فلماذا لم تمارس واجبك باستلام منصب قيادي في الثورة؟".

هكذا سوف يسألونني والجواب جاهز:

"فأنا –أيها السادة المحترمون- عندما لاحظت أن تلاميذي جديرون وقادرون على صنع الثورة، آثرت الانزواء ليأخذوا فرصتهم كاملة".

فيضحك المحقق هازئاً –رغم ثيابه العسكرية ونجومه الكثيرة- ويقول لي ساخراً:

"أتظن أننا لا نعرف قصتك؟ انظر إلى هذا الملف الضخم، هذا ملفك يا عبقري، وهو تدوين أمين لكل ما يجب أن يعرف عنك، أنا شخصياً ألخصه بكلمة واحدة: جبان.. أنت يا محمود قاضي القلعة جبان وانهزامي وتافه، وكل محاولاتك للتمسك بالعفوية والصدق وما تسميه البراءة والإخلاص، كل هذه المحاولات لن تغفر لك، فأنت جبان جبان، هل نسيت كيف كنت تبكي أثناء حبستك الأولى، في البداية كنت تتباهى بأنك أول سجين اعتقلته الثورة، فعندما وصل العسكر بدباباتهم إلى مبنى البرلمان، صبيحة اليوم الأول، وقفت أنت تصرخ وحيداً بين المتفرجين الصامتين على الرصيف: عودوا إلى ثكناتكم يا عسكر.. فلماذا تراجعت؟.. أبأربعة أشهر في السجن تتخلى عن عقيدتك الثابتة بأنه لا أمل من العسكر؟.. ثم خرجت من السجن نافضاً يديك من كل شيء.. انظر إلى هذا الملف الضخم يا عبقري، إن كل ما فيه يشهد بأنك لم تعارض الثورة، ولم تتحرش بها من بعيد أو قريب خلال هذه السنين كلها.. لذلك وجب اعتقالك ومحاسبتك الآن".

غير أنني سأقول له: يا حضرة المحقق إنني..

مثل هذه الأفكار الصبيانية تمر بسرعة خاطفة، إذ إننا لم نلبث أن صرنا أمام باب محروس، ما إن دخلته حتى وجدت نفسي في قبو شبه معتم، ليس فيه أي محقق وإنما فيه أربعة أشخاص قاعدون في انتظار وصول السيارة المخصصة لنقل المعتقلين إلى السجن. "إنها تشبه سيارة نقل اللحوم من المسلخ إلى القصابين.. ألا تعرفها؟". فأدركت أن المسألة قد انتهت، وقرار المحكمة صادر ومبتوت فيه وموقع عليه قبل أن أصل إلى البلاد..

فاجلس يا عبقري.. واسكت..

أو فاجلس وخذ راحتك في التفكير الهادئ المتمهل، واستعراض الأوضاع والتحسب للمفاجآت.

لكن الأحداث حرمتني من هذه "النعمة" أيضاً.

فقد جرت الأحداث بسرعة خاطفة، بحيث لم تتسنَّ لي فرصة أستطيع فيها أن أرتب أفكاري التي صارت –بدورها هي أيضاً- تتضخم وتزداد غموضاً وتشظياً وهي تتدحرج معي في هذا المنحدر الذي انزلقنا فيه إلى هاوية غامضة وسحيقة.. أين صرنا؟

سمعت صوت الشيخ حسن، في العتمة الشديدة، يقول صارخاً بأعلى صوته:

- لا أستطيع أن أحدد لك أين صرنا على وجه الدقة، ولكني واثق –والعلم بيد الله- أننا الآن في طريقنا إلى تدمر.

لم يكن الشيخ حسن بعيداً عني، ولكنه اضطر للحديث بأعلى صوته حتى تصل كلماته إليّ مخترقة صوت جعير محرك السيارة الحديدية المصفحة التي حشرونا فيها، فقد كانوا –عن عمد- قد فتحوا أسطوانة عادم الصوت (الصالنصة – الأشطمان) في أسفل السيارة ليأتينا صوت انفجارات غرف الاحتراق طازجاً من المحرك، بهدير صاعق يدمّر الأذنين ويفتك بالأعصاب، وهكذا فإننا لن نصل إلى تدمر إلا ونحن محطمون تماماً، هذا فيما إذا كنا مأخوذين إلى تدمر حقاً. ذلك لأننا لم نستطع أن نعرف أي شيء حتى عن جهة المصير، فلننتظر سكون الريح، وآنذاك تحطّ الورقة اليابسة فتعرف المكان الذي تستقر فيه.

وضعت فمي في أذن الشيخ حسن وسألته:

* هل أنت واثق يا شيخنا من أننا ذاهبون إلى تدمر؟

وضع الشيخ حسن فمه في أذني وقال:

- وما الفارق بين تدمر وغيرها؟.. لا تسلّم نفسك للقلق يا ولدي، ارم خلف ظهرك كل الهموم والمشاغل والتساؤلات الدنيوية واترك قلبك يستريح إلى الاطمئنان.. ألا بذكر الله تطمئن القلوب.. إذن فلا تشغل نفسك إلا بذكر الله.. جرّب ذلك ثم أخبرني.. جرّب أن تردّد أية آيات تحفظها من القرآن الكريم، حتى ولو كانت الفاتحة.. لكن اقرأها بخشوع وانصراف كامل لله تعالى، ثم انظر كيف ينعم قلبك باطمئنان رائع.

كان شعر لحيته الناعمة الحريرية يدغدغ خدّي وهو يحدثني مقرباً فمه من أذني.. وكنت أتمنى لو أنه يظل يحدثني، فلقد وجدت فيه بعض العزاء والسلوى، فأنا أريد أن أهرب من أفكاري بأي ثمن، كما أن هذه المصفحة العسكرية العتيقة التي حشرونا فيها، والعتمة الشديدة، وصوت هدير انفجارات المحرك القاتلة، وغموض البداية وغموض النهاية، كل ذلك جعلني أشعر بأنني أكاد أختنق تحت وطأة كابوس ثقيل جداً على صدري.. مع أن الكوى الصغيرة التي في جدران المصفحة كانت مفتوحة، وهواء الليل يأتينا من الخارج، ولكن لا شيء في الخارج غير الليل..

في البداية، عندما تحركت بنا المصفحة من "مركز التجمع" كنا نلمح من الكوى الصغيرة بعض أضواء دمشق، لكن الشوارع كانت خالية تقريباً، فلقد بدأت الرحلة في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.. ثم ما لبثت الأضواء أن اختفت ولم يبق إلا العتمة المطبقة داخل علبة حديدية فاجرة محشور فيها خمسة أشخاص، وكان من حسن حظي أن جلس الشيخ حسن إلى جانبي، أما الدكتور أكرم، وهو على ما يبدو حقوقي كبير، فقد جلس على المقعد المقابل، مؤكد أنه يفكر صامتاً بحقوق الإنسان.. وإلى جانبه يجلس شابان من زعماء العمال سابقاً كانا في صمتهما المطبق مستمرين على الوضع الذي كانا عليه في مركز التجمع: صمت الإنسان الغاضب المقهور الذي يعرف خصمه بدقة ووضوح، ويعرف أنه على حق وأن عدوه على باطل، ويعرف أن كل الأسلحة صارت في يد عدوه، بينما لم يتبقَّ لديه هو غير سلاح الصمت، وهذه هي المحنة.. بينما الشيخ حسن (هذا الشاب الطريف الذي اتخذني ولداً له، مع أنني أكبر منه بعشرين سنة على الأقل) فإنه لم يكن يرى أن ما نحن فيه محنة، بل نحن في نعمة.. وأحاديثه الودية اللطيفة أثناء لقائنا في "مركز التجمع" كانت كلها تصب في هذا الاتجاه. (إنها نعمة كبرى من الباري عز وجل أن يكتب لنا العزلة بعيداً عن فسق كل ما يجري في الخارج.. هنا نحن محصّنون من خطر التلوث بأي من تلك الموبقات التي أصبحت منتشرة في كل شيء.. وإنها نعمة كبرى أيضاً، يا إخواني، أن يتفرغ الإنسان للعبادة طول الوقت. اكسبوها فرصة واستغلوا كل دقيقة بالعبادة ما دام الباري عز وجل قد خلصكم من أية مشاغل أخرى.. وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.. وابتسموا.. وأتيحوا لقلوبكم أن تنعم بمشاعر الفرح الحقيقي.. وثابروا على التبسم والابتهاج لتقهروا الذين يريدون أن يروكم مهمومين مقهورين).

كنت أقول له: أنت يا شيخ حسن ترشّ على الموت سكراً.

فكان يطأطئ رأسه ليتمكن من أن ينظر إليّ من فوق حافلة نظارته الطبية، ويقول مبتسماً:

- الموت الحقيقي هو أن تقبل بأن تعيش تلك الحياة التي في الخارج، أعوذ بالله.

ثم سألني:

- هل تقبل على نفسك أن تعبد شخصاً بدلاً من الله سبحانه وتعالى؟

* اخفض صوتك يا شيخ حسن، فنحن الآن في قبضة أيديهم.. وقد تكون هذه الغرفة مزودة بلاقط صوت خفي.

فكان الشيخ حسن يضحك قائلاً:

- طز فيهم وبلاقطات الصوت ومكبرات الصوت أيضاً.. يا رجل طالما أنت قابل بمقاييسهم للخوف والأمان والترهيب والترغيب، فإنهم منتصرون عليك.. بينما أنت تجرّدهم من كل أسلحتهم حين ترفض هذه المقاييس المادية الخسيسة، وتسمو بروحك إلى معارج المقاييس الربانية السامية. عندما يكون قلبك عامراً بإيمان يحمل كلمتك تهز الجبال..

ثم انقطع الحديث..

ففي تلك اللحظة دخل الحرس علينا ليأمرونا بأن نقوم لنركب السيارة، فنهض الشيخ حسن بفرح حقيقي، كأنه متوجه في رحلة سعيدة كان ينتظرها منذ زمن بعيد، ومشينا والحرس مصوبون أسلحتهم إلينا، وركبنا في "المحشر" الخلفي من هذه السيارة المصفحة، بينما صعد جنديان فجلسا إلى جانب السائق في المقصورة الأمامية التي يحجزها عنا لوح زجاجي، وأظن أن هدير صوت المحرك عندهم أخف بكثير مما هو عندنا..

حاولت أن أنام فما استطعت.. ما أطول هذا الطريق!! حركت رأسي نحو الكوة الصغيرة التي تأتي منها نسمات آخر الليل.

كنت متشوقاً لرؤية بشائر الفجر.. لكن يبدو أنني حين التفت اصطدمت ذقني بنظارة الشيخ حسن، فقال:

- أما تزال مصراً على أن تعذّب نفسك بالقلق!

* وماذا أفعل يا شيخ حسن.. إنني لا أستطيع أن أنام..

- يا رجل، من الذي ينصحك بالنوم!!.. أما اتفقنا على أن تشغل وقتك بذكر الله؟

ويبدو أنه نام بعد ذلك.. أما أنا فقد بقيت أتقلب في هذا الجحيم البارد, الأسود، الفاجر بالضجيج الذي يصمّ الآذان، والتيار يقذف بي من موجة إلى موجة.. ففيما أنا مأخوذ بمشاعر القلق على ابني تقذفني الموجة فإذا بي أمام المقدم خضور فيأتي "الفيلم" ويستعرض في لحظة واحدة كل تلك السنة الجميلة في مدرسة قرية المطعونة، ثم أرى أمامي حبلاً مربوطاً بطوق النجاة، فأتمسك بالحبل وأسبح نحو طوق النجاة، إذن من المستحيل أن لا يسبقني المقدم خضور إلى ذلك السجن ليخبرهم بخطئهم، ويصرّ على أن لا يخرج إلا ويدي في يده، ونعود معاً وأجد حقائبي وجواز سفري وزوجتي وابني، هذه المرة لن أتركهما أبداً.. لن أغادر تل عنبر بعد اليوم، بل إنني لن أغادر بيتي ما حييت، لكن أين صار طوق النجاة؟.. إنني أعرفه جيداً لو رأيته فهو –مثل دولاب دراجة الصبي القتيل- له شكل دائرة، وللدراجة دولابان اثنان واحد منهما التوى تحت قدمي ذلك الظالم أبي الحنتير الذي كان يضرب بحذائه ضربات قاتلة، على صدر الصبي، على ساقيه، على رأسه، على عنقه.. والصبي المسكين الضعيف يتأوّه ويستغيث ويتوسل ويستجير إلى أن همد تماماً.. أظن أنهم عندما حملوا جثته لاحظوا الكسور الكثيرة في عظامه، غير أنّ ما سوف يخيفهم فيه هو عيناه اللتان حجّر الموت نظرتهما التي تمزق قلوب الرجال، هذا إذا بقي في قلوب الرجال نخوة!.. إذن كيف تخطط للانعزال داخل جدران بيتك يا بطل؟

جَهْجَهَ الفجر، واستطعتُ أن أرى رأس السائق الذي يعزلنا عنه حاجز زجاجي، والجنديان اللذان معه نائمان، والشيخ حسن نائم أيضاً، وكذلك الدكتور أكرم والنقابيان العماليان.. ومن الكوة الصغيرة رأيت أن كل ما حولنا هو امتدادات لا نهائية في البادية.. إذن فنحن متوجهون إلى تدمر كما خمّن هذا الشيخ الطريف الذي تكاد نظارته الطبية تسقط عن أرنبة أنفه، وما دامت هذه النظارة مخصصة للقراءة (مما يضطره لأن يطأطئ رأسه كلما أراد أن يتحدث إلى شخص أو أن ينظر إلى بعيد، حتى يتمكن من الرؤية من فوق الإطار) إذن فلم لا يخلع هذه النظارة، خصوصاً أنه لا مجال لقراءة أي شيء؟

حاولت أن أشغل نفسي بتأمل منظر البادية، لا شيء غير هذه الامتدادات السهلية المنبسطة، وعلى جانب الطريق أكوام صغيرة مبعثرة بشكل فوضوي، ولم أستطع أن أميز ما إذا كانت أكواماً من حجارة أو من تراب.. وحين حدّقت النظر جيداً، واتضحت أنوار الفجر، اكتشفت أنها جيف أغنام نافقة.

التفتّ إلى الشيخ حسن لأسأله: "ماذا أصاب كل هذه الأغنام حتى نفقت هكذا؟" لكنني وجدت نفسي، وأنا أتأمله بحب وإشفاق، أسأل نفسي: ترى من يكون هذا الشيخ حسن؟

انفجر أحد إطارات السيارة، توقفت السيارة، توقف صوت هدير المحرك الفاجر. أفاق الجميع، سمعنا صوت السائق وهو يسب ويلعن ويكيل الشتائم الميتافيزيكية. نزل السائق والجنديان لاستبدال الإطار.

كنت أضغط بيدي على أذنيّ اللتين فوجئتا بصوت الصمت والسكون، وتبادلنا تحيات الصباح داخل هذه العلبة الحديدية الباردة، ثم تلفّت الشيخ حسن حوله كمن يبحث عن مخرج "أريد أن أتبول" ثم صرخ من خلال الكوة الصغيرة: "افتحوا لنا الباب.. نريد أن نتبول".

جاء الجواب: ممنوع.

صرخ الشيخ حسن:

- أخذتم منا حرية القول.. فاتركوا لنا حرية البول..

ثم التفت إلينا ضاحكاً وهو يقول:

- تصوروا مبلغ السعادة التي أوصلونا إليها حتى صارت أغلى أمانينا أن نمارس حقنا في التبول..

أردت أن أخرج به عن هذا الموضوع فتساءلت عن سر نفوق هذه الأغنام.. فقد كان الطريق مليئاً بجثث هذه الحيوانات المسكينة..

قال الشيخ حسن:

- لا قدرة لي على الجواب.. إن مثانتي تكاد تتمزق، وهذا وضع لا يسمح بأن يتعاطى فيه التفكير.

فابتسم الدكتور أكرم وقال بصوته الهادئ الأنيس:

- الدولة لم توفر لها الأعلاف فنفقت جوعاً.. الصحف كتبت عن هذا الموضوع كثيراً.. الصحف، صحفهم قالت إنها كارثة محقت ثروتنا الحيوانية محقاً.

سألت: ولماذا لم يوفروا لها الأعلاف؟

فقال مستغرباً: كأنك تعيش في غير هذه البلاد.

قلت: البارحة وصلت.

ثم عرضت محنتي بإيجاز.

فتح الباب الخلفي وقال الجندي: من منكم الذي كان يصرخ؟

الشيح: أنا.. أريد أن أتبول.

الجندي: انزل وساعدنا بتركيب الإطار ثم دبّر أمرك.

الشيخ: بارك الله فيك.

ولم ينزل قبل أن يلتفت إليَّ موصياً:

- لا تكمّل حكايتك قبل أن أعود.. حكايتك عجيبة فعلاً.

ثم أغلقوا علينا الباب.

قال الدكتور أكرم بصوته الهادئ الرصين:

- استمع إليَّ يا حضرة الأخ.. وخذ بنصيحتي فتستريح.. فأنا رجل حقوقي ودكتور في القانون، نحن محكومون بموجب أحكام قانون الطوارئ.. يعني أن الحاكم العام يحق له أن يصادر حرية أي مواطن يخشى منه الأذى، هذا يسمونه "حجزاً احترازياً".. وربما شعر أهل النظام بأن ثمة خطراً سيأتي من طرفك، فأمروا بحجزك ليحترزوا منك ويتحاشوا أذاك سلفاً.

سألته: لكن من غير المعقول أن يكون عبد الذات قد وقّع بنفسه أمر اعتقالي، لأنه لم يكن هناك وقت كاف لهذا الإجراء.

قال: لديهم أوراق جاهزة وموقعة سلفاً، وفيها مكان فارغ لكتابة اسم الشخص الذي سوف يقع في المصيدة.. وعلى كل حال فهذه كلها مظاهر شكلية لا تقدّم ولا تؤخّر.. فما دام المواطن في نظرهم ليس إنساناً في الأساس فإن كل هذه القشور لا أثر لها، فنصوص القوانين إنما وضعت للبشر.

ثم دار حديثٌ أدركت منه - بعد أن شرحت للإخوان ظروفي جيداً - أن الدولة خائفة من أن أقوم بعملية ثأر طائشة..

- ثأر لمن؟..

- ثأر لشخص عزيز عليك وقد قتلوه أثناء غيابك..

ثم سألني:

- أأنت واثق من أن ابنك عدنان ليس منتمياً إلى جماعة المجاهدين؟

نزل نصل السكين إلى قلبي.. قلت مذهولاً: لا أدري..

وما عدت أسمع شيئاً.. كنت منحنياً على نفسي حزيناً مطأطئ الرأس، أنظر إلى يديّ المعقودتين في حضني.. وحين رجع الشيخ حسن ورآني على هذه الحال قال لهم:

- أما نصحتكم بأن توقفوه عن الحديث إلى أن أعود؟.. هذا رجل طيب القلب، بريء، عاطفي، لا يحتمل الهزات.. الباري عز وجل أراد أن يمتحنه وعلينا أن نساعده في محنته.

ثم جلس إلى جانبي ووضع كفه على ركبتي بمودّة وقال:

- اسمع يا أخ.

رفعت رأسي إليه ففوجئت بنفسي أنفجر ضاحكاً بالرغم مني.. فقد كان وجهه معفراً بالتراب.. وكان التراب على شعر لحيته أيضاً..

- ماذا فعلت بنفسك يا شيخ حسن؟

- رفعت النظارة عن عيني وتيمّمت.. إذا لم تجدوا ماء فتيمموا، وأنا أحب أن أظل طاهراً، خصوصاً في هذه الأوقات الحرجة التي لا تعرف فيها متى يفاجئونك بالرصاصة الغادرة التي تيسر لك فرصة لقاء وجه الباري عز وجل.

قلت له: لي عندك رجاء.. أثناء إقامتنا في السجن أرجوك أن تظل معي.

فقال: سأظل معك ولن أتركك أبداً، وسأجعلك تُطَمْئِن قلبك بذكر الله.. بالصلاة..

فقلت مداعباً: لا تثقل عليَّ يا صاحبي.. فأنا.. أظن أنني مدين بصلوات ثلاثين سنة.

ضحك الشيخ حسن وقال:

- هنيئاً لك يا عم.. لن يكون لديك وقت للحزن أو التفكير بالهموم.. لأنك ستقضي الوقت كله بالركوع والسجود حتى تفي ما تجمّع في ذمتك للباري عزّ وجلّ.

مسكين أنت يا شيخ حسن.. فعندما وصلنا إلى السجن، ودخلنا، واستقرت أوضاعنا، علمنا أن من يُضبط متلبساً بجرم تعاطي الصلاة يؤخذ فيذهب ولا يعود أبداً، لكن مالنا نستبق الأحداث؟

ها إنني، عندما أجلس لأراجع حساباتي القديمة، أجد نفسي مبتدئاً من لحظة الوصول.

توقفت بنا سيارة الإرهاق في الردهة الأولى، بعد الباب الكبير مباشرة، وكان ثمة سيارتان تفرغان حمولتهما، إذن علينا أن ننتظر.

كنا-مدفوعين بفضول شديد- نحاول أن نقتنص بأبصارنا أية معلومة عن تينك السيارتين.

الأولى: شاحنة عسكرية كبيرة، محمّلة بالمواد التموينية، وقد جيء بعدد من المساجين لتفريغها.

والثانية: سيارة ركاب، وها إن الجند ينزلون ركابّها واحداً واحداً، وكلما نزل راكب تلقفوه باللكمات والرفسات والضرب بأعقاب البنادق و: "انزل يا ابن القحبة" و"تعال يا أخا الشرموطة". إلى أن يشرف المسكين على الهلاك فيمسكوا به من تلابيبه ويجرّوه نحو باب الدخول. وهو باب واطئ لا يمكن للمرء أن يعبره ما لم يحن قامته ويمشي راكعاً. لذلك فإنهم ألصقوا صورة الطاغية عبد الذات فوق عارضة الباب. (عرفنا فيما بعد أنهم يسمون هذا: الركوع الأوتوماتيكي).

سألت نفسي وجلاً: أهكذا سيفعلون بنا؟ (فات أوان السؤال القديم: لماذا اعتقلونا؟).

والتفتُّ إلى صديقي الشيخ حسن فوجدته قد أصبح في حال آخر. كان خائفاً ومضطرباً. وكانت شفتاه تتحركان بالتمتمة بدعاءٍ ما.. أنا أيضاً بدأت أتلو آية الكرسي وقد شلّني الخوف. لم يبق أي بصيص أمل بالنجاة من هذا الوضع المهين والساحق، ورغم ذلك فإنني ألصقت وجهي بالكوّة الحديدية الصغيرة لعلّي أرى أية إشارة عن وصول المقدم خضور، لكنني بدلاً من ذلك رأيتهم يُنزلون من السيارة شيخاً عجوزاً ما إن لمحته حتى انعقد لساني:

- مستحيل.. هذا خالي الحاج عبد الرزاق.

وكان الجند قد أنزلوا خالي من سيارة الركاب ونزلوا به ركلاً ورفساً وضرباً بأعقاب البنادق. وشتائمهم المقذعة تذبحني. وتلفتُّ حولي متململاً كأني أبحث عن مخرج من هذا الصندوق الحديدي اللعين. لكن: كيف؟ .. وحتى لو خرجت إليهم يا عبقري فكيف تنقذ هذا الشيخ الواهن الذي (بلطمة لئيمة) طار العقال والحطة عن رأسه، وبضربة لعينة ثانية تمزق جاكيته، وبركلة عنيفة سقط على الأرض وانحل حزامه القماشي عن وسطه، وسقطت الساعة القديمة التي كانت محشوة بين طيات الحزام.. والرجل يصرخ مستغيثاً بصوته الواهن الضعيف. وأنا أكاد أصرخ بأعلى صوتي:

"يا ناس.. هذا مجاهد قديم.. هذا سيف من سيوف ثورة هنانو".

لكنهم كانوا قد وصلوا به إلى باب الدخول الواطئ، الذي تعلوه صورة الطاغية. وبدلاً من أن يأمروه: "أدخل يا كلب" أمروه: "اركع لسيدك يا حقير". كان الدم ينزف من شفته العليا.

أعرضت بوجهي وقررت أن لا أنظر إلى تلك الجهة أبداً. غير أنني بقيت غير مصدّق بأن يكون الرجل الذي رأيته هو خالي، ولكنه خالي الحاج عبد الرزاق، وكيف لا أعرفه؟

وكان المساجين في الجهة الثانية، يواصلون عملهم في تفريغ الشاحنة العسكرية مما فيها من أكياس وصناديق. وكان يقف للإشراف عليهم شخصان، أحدهما هو مدير السجن قطعاً. لأنه كلما مرّ به سجين وهو ينوء بحمله الثقيل فإنه يكافئه بلعنة قذرة وشتيمة مقذعة.. أما الثاني فقد كان.. ماذا أقول؟ .. مستحيلٌ أن يكون صديقي الرسام شكري فوق السطوح.. فذاك فنان عظيم بينما هذا القرد تاجر، إنه المستغل البشع الذي يربح من توريد "الأرزاق" إلى السجن. وكلما زاد عدد الضحايا زادت أرباحه، غير أنني واصلت إمعان النظر إليه من خلال الكوة الصغيرة في جدار المصفحة، إنه لا يراني قطعاً، وإنه شكري فوق السطوح قطعاً. صحيح أننا لم نلتق منذ أكثر من عشرين سنة، لأنه اختار البقاء في أوروبا نهائياً بعد أن طغت شهرته هناك، ولكن هذا الرجل البشع الواقف أمامي الآن، مع مدير السجن، هو "صاحبي" ذاته.. كيف حدث هذا؟.. ثم قلت لنفسي جازماً: مستحيل.. هذا شخص آخر. ولكنه يشبهه.

وهذا "الشبيه" الذي أراه الآن قرد حقيقي على شكل إنسان، عجوز، متهدل الكتفين، ضعيف البنية، بوجه طويل يعترضه فم كبير، بأسنان صفراء مبعثرة كأنها متقيحة بقيح أسود من كثرة التدخين. وأما ما تبقى من وجهه القميء ففيه حاجبان كثيفان بارزان، فوق عينين غائرتين مخيفتين، وله-بجانب منخره الأيمن-كتلة لحمية بارزة، تشبه حبة حمّص متفسخة. وهذه المواصفات الثلاث (الحاجبان والعينيان وحبة الحمص) تجعلني أجزم بأنه صاحبي شكري.

وتذكرت أيضاً أن شكري فوق السطوح كان يعتز بأن شعره كثيف.. وهذا "الشبيه" شعره كثيف، غير أنه ذو شعر أملح اللون، وطويل، يتهدل فوق نقرته نازلاً حتى قبة القميص. أما القميص ذاته، المصنوع من قماش مشجَّر، فهو مفتوح الصدر، تشبُّهاً بالمراهقين. كذلك فإن ساعة يده من ذهب، بالإضافة إلى خاتم ذهبي كبير في إحدى أصابع يده النحيفة.. كان من الواضح أن مدير السجن مسرور منه، وأن العلاقة بينهما وطيدة ، مؤكداً أنهما شريكان.

قالوا لنا: انزلوا يا أولاد القحاب.

لو أنني مشيت خطوتين فقط نحو ذلك القرد وتوسلت إليه: سواء كنتَ شكري فوق السطوح أم كنت شبيهه فأنا صديقك محمود قاضي القلعة، وإنني أرجوك أن تشفع لي عند صاحبك مدير السجن فيأذن لي بالدخول من غير هذه الركلات والإهانات.. غير أن شكري كان واقفاً يرى كل ما نزل بنا من ضرب ولعنات ودماء واستغاثات، من غير أن يقطع حديثه الودي البسّام مع مدير السجن.. إذن فلأقتلعه بجذوره من خلايا الدماغ، ولأَمْحُ من تلافيف الذاكرة كل صور الماضي المتعلقة بهذا المخلوق، فلنقل إنه مات مثلاً.

وخالي الحاج عبد الرزاق -رحمه الله- مات أيضاً. مات في حضني بعد حفلة الاستقبال بثلاثة أيام. قال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، بصوت واهن:

- عاهدني على أن تكون كما عرفناك.. ابن الحاج خالد قاضي القلعة.. يعني أريدك أن تظل رجلاً صلباً متيناً.. لأن لديّ خبراً يجب علي أن أنقله إليك قبل أن ألاقي وجه ربي.

ثم صمت هنيهة ليريح أنفاسه، كان يتكلم بصعوبة لأن ضربة حذاء كانت قد مزقت شفته العليا التي انتفخت بورم أزرق. قال:

- يا محمود.. حصّن نفسك دائماً بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، فما يريده الله يكون، يا أبا عدنان ابنك عدنان قتل، سقط شهيداً، أعدموه على باب المسجد عندنا في تل عنبر.

ثم سكت مرة أخرى.

في الوهلة الأولى لم يفجعني الخبر.. كأنني أسمع خبراً حيادياً عن شخص لا أعرفه.. أو كأنني –في الوقت ذاته- لا أرى جديداً في هذا الخبر الذي سمعته من زمن بعيد، فمنذ أن حطت الطائرة بنا رأيت ولدي قتيلاً، لكنني لم أكن أمتلك شواهد حسيّة.. وها إن خيوط الحكاية تتجمع من خلال الأنفاس الأخيرة لخالي الغالي، الذي اتخذ من ذراعي وسادة لرأسه المتعب. كان الكلام يهيّج آلام شفته المتورمة، وأظن أن عظمة خده، تحت العين اليمنى، كانت محطمة أيضاً، فقد كان الانتفاخ الأزرق قد غطى نصف وجهه، ولكنه غالب آلامه ليخبرني بما حدث.

فعندما خرج الناس من صلاة الجمعة، في ذلك اليوم الأسود، لم يكن أيّ منهم يعلم أن اثني عشر شخصاً من أبناء تل عنبر يجب أن يُعدموا على باب المسجد (وذلك حتى يعرفوا ثمن اغتيال فرد واحد من أنصار مولانا عبد الذات): وهكذا صرخ الضابط فينا، وقرر:

(.. لا وقت لديّ أضيعه في انتقاء الأشخاص، فليُعدم أول اثني عشر مصلياً يغادرون باب المسجد).

وكان بينهم ولدك عدنان، وكان بينهم من هم أكبر منه، لن أذكر لك أسماءهم لئلا أزيد من أحزانك، فبلدتنا صغيرة وأنت تعرفهم جميعاً.

(بعد وفاته بثلاثة أشهر أو أكثر علمت أن ابنه الحاج صالح كان بين هؤلاء الشهداء.. ولكنه لم يخبرني بذلك؟! إشفاقاً عليّ).

سألته: لكن كيف حدثت المجزرة؟

قال: أطلق الجنود النار في الهواء لإحداث ضجة تثير الفضول، فيأتي الأهالي لمشاهدة عملية الإعدام، وحين امتلأت الساحة بالناس، أمام باب المسجد، صرخ الضابط بجنوده: "رشّوهم" فسقط هؤلاء المساكين قتلى يسبحون في دمائهم، والناس معقودو الألسنة بالذهول الصاعق، لأنهم لم يصدقوا أن هذا الذي يجري أمام أبصارهم قد حدث فعلاً، وبهذه السرعة الخاطفة.

كان الدكتور أكرم جالساً معنا، مطرق الرأس صامتاً، كان يريد أن يشعرني بأنه يشاركني الاهتمام بخالي، التفتُّ إليه وأنا أغالب دموعي وسألته:

* بأية شريعة يحدث هذا، بل بموجب أي قانون؟

أجاب من غير أن يرفع رأسه:

- قانون الطوارئ الذي يحكمنا به عبد الذات، يبيح تشكيل محاكم ميدانية تحكم وتنفذ على الفور، هذا ما حدث عندكم.

فقال خالي بصوته الواهن الضعيف:

- دعوكم من كل هذا الكلام الفارغ.. بلا قانون بلا بطيخ.. حين يكون ظالمك وحشاً فلا كلمة إلا للسلاح.. ونحن بلا سلاح.. إنهم سيقتلوننا بالأحذية كما تُسحق الصراصير.

وبصعوبة شديدة حرك يده ليتلمس خده الوارم.

سألته: وعندما احتشد الناس في الساحة، هل جاءت النساء أيضاً؟

قال: حضرت نساء كثيرات.. غير أن فضيلة (يقصد زوجتي أم عدنان) هي المرأة الوحيدة التي وهي ترى بعينيها عملية اغتيال وحيدها، لم تصرخ بالعويل والبكاء.. وإنما..

فسألته بلهفة وإلحاح: وإنما ماذا يا خالي؟.. ما لك سكتّ؟

نظر إليَّ بعينيه الذابلتين: لا تنس أنك وعدتني بأن تظل رجلاً.

فقلت مسرعاً: وأنا عند وعدي يا خالي.. مالها أم عدنان؟ ماذا حدث؟

قال: فضيلة يا محمود انفجرت بضحكة هستيرية مروعة.. فقدت عقلها.. وأظن أنهم يسعون لنقلها إلى مستشفى المجانين بعد أن فقدوا كل أمل بشفائها.

ثم إنه نطق:

 أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

ومال برأسه على ذراعي وغفا إلى الأبد.

قال عبد المجيد: مات.

وخيم الصمت على وجوهنا جميعاً، فقد كان حولي أكثر من عشرين سجيناً، يشهدون بقلق ورهبة لحظات النزع الأخيرة لهذا الشيخ المحطم، المتكوّم في حضني.. كانوا أكثر من عشرين، وفي مقدمتهم هذا الطفل عبد المجيد.

قال عبد المجيد بصوت هامس: الفاتحة.

فتحركت الشفاه بقراءة الفاتحة سراً، ثم ما لبث الصمت أن أطبق علينا من جديد.

تقدم عبد المجيد وأخبرني هذه المعلومة: هنا يا عمي الرجال لا يبكون.

فسألته وأنا أمسح دموعي بكم قميصي:

- إذا كان الرجال هنا لا يبكون.. إذن فماذا يفعلون؟

قال: يموتون.. إنهم يموتون فحسب.. ويموتون بصمت.

الشعراء الذين كتبوا قصائد كثيرة عن براءة الأطفال لا يعرفون ما هي براءة الأطفال لأنهم لم يعرفوا هذا العبد المجيد. لقد كان معنا في السجن فتيان وصبيان غير قليلين، لكن هذا العبد المجيد بالذات، كان أكثرهم طفولة وأكثرهم قرباً إلى القلب، وأظن أنه مامن رجل بيننا إلا وحلم بأن يتبنى هذا الطفل إذا ما جاء الفرج ورجعنا إلى دنيا الحياة والناس والمجتمع، فهذا الطفل اليتيم (12 سنة) رفض أن يأخذوا أمه مالم يذهب هو معها، لقد أزعجهم بإصراره على أن يرافقها فقالوا له: "تعال". تمت عملية مداهمة بيت هذه الأسرة المنكوبة في نفس اليوم الذي أُعدم فيه أبو عبد المجيد في ساحة الشهداء بدمشق، لعصيانه الأوامر العسكرية المشددة بعدم إطلاق النار على عساكر اليهود في خطوط التماس.. وأبو عبد المجيد، القادم من إحدى قرى حمص إلى الجبهة ليخدم العَلَم، ظل أكثر من تسعة أشهر جندياً انضباطياً ملتزماً، مع أن عساكر العدو على مرمى حجر منه، ولكنه في ليلة عيد المولد النبوي أحب أن يحيّي هذه المناسبة بتمجيد خاص، فصعد فوق تراب الساتر، وأذّن المغرب بأعلى صوته، فسمع من جند العدو من يسخر بدينه وإلهه و "بدلاً من هذه الصلوات تعلموا كيف لا تنهزمون". وفي الحال صوّب أبو عبد المجيد بندقيته الرشاشة وقتل ثلاثة منهم، وكادت خطوط الجبهة تشتعل، لولا أن عبد الذات أسرع للتوسط لدى القوات الدولية معلناً استعداده لدفع دية القتلى الثلاثة، فاشترط عليه اليهود أن يعدم "القاتل" في ساحة (المرحة) فنفذ الأوامر على الفور، وكتبوا على صدر الشهيد المقتول في أكبر ساحة بدمشق: هذا عقاب من ينشر المخدرات في أوساط الجيش.

غير أن الشهيد وهو يصعد المنصة بقدم ثابتة، هتف بأعلى صوته:

- عبد الذات يهودي.. عبد الذات خائن.. الله أكبر.. الله أكبر.. عبد الذات حاخام.

وهذا ما أدى لمداهمة قريته على الفور.. وتم اعتقال زوجته "للتحقيق" فتركت أطفالها عند أمها، إلا عبد المجيد الذي رفض أن يأخذوها وحدها فجيء به معها..

سألتُه ذات مرة: إذن ففي هذا السجن نساء أيضاً؟

قال: كثيرات.. نساء وعجائز وأمهات وصبايا.. أنا بقيت معهن أسبوعاً، ثم مللت وطلبت نقلي إلى قسم الرجال..

سألته: ولماذا مللت يا عبد المجيد؟

قال: عيبٌ عليّ أن أخبرك.. عيب..

وكانت تصل إلينا أخبار غامضة عن اعتداءات رجال الحرس، في عتمة الليل، على أعراض السجينات البائسات.. لذلك آثرت احترام صمت هذا الطفل الذي تنبئ عيناه بأن ما يدور في رأسه أعمق وأشد هولاً مما يسمح للسانه أن يقوله، وهذا ما زاد من عطفي عليه وتعلقي به وحلمي الذي أخذ حدّه الكامل من القرار الحاسم، بأن أتبنى هذا الطفل، وأكفل أمه وإخوته كلهم إذا كتب الله لنا سبيل العودة إلى الحياة.

ولكن يبدو أن للباري عز وجل حكمة أخرى لا تدركها عقولنا، حسب تعبير الشيخ حسن الذي لم يجرؤ على ممارسة الصلاة علناً ولو لمرة واحدة، لأنه رأى بعينه أسلوب القتل الشنيع الذي مات به من خرقوا قرار اللاصلاة، فأصدر لنا فتوى بجواز الصلاة بلا وضوء وبلا تيمم، وأفتانا أيضاً (بالهمس دائماً) بجواز الصلاة قعوداً، أي من غير ركوع أو سجود أو أية حركة تفضح "الارتكاب" غير أن مجزرة يوم الثلاثاء ظلت تفرم عدداً من المساجين كل أسبوع بتهمة ضبطهم وهم يصلون بهذا الأسلوب الإيمائي، فتصدى لهم الشيخ حسن بأن علّمنا كيف نصلّي "رَمشاً" أي أن يتظاهر المرء بأنه نائم، ولا يقوم بأية حركة إلا أن يرمش بعينيه كلما أراد النقلة في حركة من حركات الجسد أثناء الصلاة.

وإن شاء الباري عز وجل أن نفاجأ بهذا الطفل الرائع عبد المجيد وهو يقفز وحيداً إلى أعلى معارج الشجاعة متحدياً خنوعنا، ومتحدياً فجور القتلة وصارخاً بأعلى صوته:

- حي على الصلاة.

كان قد ذهب لرؤية أمه في زيارته الشهرية لقسم النساء.. ولكنه ما لبث أن عاد، وكانت المهاجع مفتوحة على بعضها، فوقف في الوسط وصرخ بأعلى صوته هاتفاً بالأذان:

الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله.

ولم يكد يصل إلى "حي على الصلاة" إلا وكان الجميع قد احتشدوا حوله، لقد جن الطفل حتماً، وأفسح الجند دربهم ماشين فوق رؤوسنا إلى أن وصلوا إليه والتفوا حوله، وهو لم يتوقف أبداً عن الهتاف الغاضب:

الله أكبر.. سوف أصلي نكاية بكم أيها اليهود.. الله أكبر ولتنزل اللعنة على حاخامكم الفاجر عبد الذات..

الله أكبر وإنني ألعنكم وأبصق عليكم وأتحداكم.. اعدموني إن استطعتم.. فسوف أصلي لأستنزل غضب الله عليكم..

صدرت إلينا الأوامر بمكبرات الصوت بأن نظل في أماكننا حتى نرى عقوبة هذا المارق.

ثم جاء مدير السجن أبو نفخة بنفسه، وخلفه جنديان يحملان بدن شجرة ثقيلاً.. لم يبق إلا الرعب والذعر والقلوب التي تخفق بوجيب لا يطاق.. ماذا سيفعلون بالطفل!.. ولماذا كل هذا "البدّ"؟.  

تقدمتُ من مدير السجن مستعطفاً:

- يا سعادة المدير.. اعف عنه يرحم الله والديك.. اعف عنه فهو طفل صغير لا يعرف ماذا يفعل.

أزاحني صاحب السعادة بيده من أمامه قائلاً:

- أنت تسكت وتأكل خراء..

ثم واجه الطفل بوجه ثور هائج وسأله:

- ماذا تقول عن مولانا عبد الذات يا كلب؟

أجابه عبد المجيد بغضب:

- عبد الذات هو الكلب، وهو خائن ويهودي وخنزير وعدو الله.

لطمه الثور الهائج بصفعة أسقطته أرضاً: اخرس..

نهض الطفل متعثراً ليقول بتصميم أشد:

- أنتم تخرسون وسوف أصلي نكاية بكم.. الله أكبر..

أمسك جنديان بجسد العصفور ورمياه أرضاً، بمنتهى السهولة، ثم وضعا "البد" فوق عنقه فلم يعد يستطيع أن يتزحزح. كانت نقطة وسط البد فوق العنق النحيل، ووقف الجنديان على نهايتي البد ليقلّدوا لعبة "طالعة نازلة" التي ينعم بها أطفال الأمم الأخرى.. وصوت العصفور المخنوق ظل يحشرج "الله أكبر.. الله أكبر" إلى أن سمعنا طقطقة عظام عنقه وهي تنسحق وتتحطم.

مات عبد المجيد.. وإنني أعترف بعجزي عن وصف حالنا في تلك اللحظة، بل في تلك الليلة، بل..

وبعد أسبوع وصلتنا أخبار عن حقيقة ما جرى لعبد المجيد عندما زار أمه في قسم السجينات.. لقد وجدها تبكي بحرقة وأنين، ويدها على بطنها المنفوخة.

ولم يتسنّ لنا أن نعرف ماذا جرى بعد ذلك لهذه الأم الطاهرة، المفجوعة، المنتهكة.. لأن الأحداث التي عصفت بنا جعلتنا ننساها ونذهل عن هذه الدنيا بحالها.

ما عدت أطرح أسئلة.

فمع مرور الأيام ببطئها الثقيل (مر شهر رمضان ونحن لا ندري) تعلمت أنه لم تبق ثمة فائدة من طرح الأسئلة، لأن الإنسان إنما يطلب المعلومات ليستخدمها الدماغ في تكوين تصورات عما ينبغي عمله في المستقبل، بينما نحن هنا فقدنا "حسّ المستقبل" حسب تعبير مثقفي الفلسفات اللفظية الفارغة، مثلما فقدنا كل إحساس بالحزن، بعد أن صار الحزن تراكمات متلاحقة غير قادرة على إثارة أي مشاعر خاصة.. وهكذا فإننا –بالتالي- نفضنا اليد من أية "تطلعات".

وفي كل سجون الدنيا لا تنصرف الأذهان إلا لواحد من تطلعين: الهرب أو الإفراج، والهرب هنا مستحيل. (مع أنني اكتشفت –ولكن بعد فوات الأوان مثل كل مرة- أن عبارة "قتل أثناء محاولته الهرب، تتكرر كثيراً في دفتر سجل أسماء المعتقلين، ولكنني عندما استطعت أن أتذكر أسماء بعض هؤلاء الضحايا لطمت على رأسي مذهولاً: فالسجين المريض حين كان يلح بطلب المعالجة كانوا يأخذونه ثم لا يعود، فنظن أنهم أرسلوه إلى مستشفى بالمدينة، والشيخ حسن كان واحداً ممن أفقدته آلام ضرس العقل طعم النوم، فأشفقوا عليه وأخذوه للمعالجة، وها إنه مكتوب حيال اسمه: محمد حسن صواف كهربجي سيارات، 28 سنة، درعا، قتل أثناء محاولة الهرب).

أما "الإفراج" فيكون ثمرة قرار من محكمة، ونحن في الأساس غير متهمين حتى نحاكم. "فالجهة الوحيدة التي يحق لها قانوناً أن تأمر بالإفراج عنا يا أبا عدنان، هي الجهة التي أمرت باعتقالنا، وقد أخبرتك أن قرارات الاعتقال موقعة بإمضاء الحاكم العرفي، أي الطاغية عبد الذات بالذات".

هكذا كان يخبرني الخبير القانوني الدكتور أكرم رحمه الله، وكان يضيف:

"بل إنه لن يفرج عن الواحد منا حتى لو مات، لأن من يموت هنا يدفن هنا. فإنهم لن يخبروا أهله بأنه مات"..

أخبرني بذلك عشية يوم الثلاثاء عندما عاد مع مساجين "فرقة دفن المجرمين" وهي فرقة يشكلها أبو نفخة عشوائياً، مرة في الأسبوع، لدفن الوجبة الأسبوعية من المعدومين شنقاً أو رمياً بالرصاص. في تلك العشية كانت أعصاب الدكتور أكرم تالفة تماماً، إنها أول مرة يشارك فيها بهذا العمل.. ثم قال:

"كما تأكد لي أنه يوجد في المستشفى طبيب، لأنني لاحظت أن عيون الإخوة الشهداء كانت مقلوعة، إنهم يأخذونها لعمليات ترقيع القرنيات في مشافي العيون".

ثم توصل الدكتور أكرم إلى هذا الاستنتاج:

"الذين يذهبون يوم الثلاثاء يعدمون رمياً بالرصاص، بدليل أننا نحن رفاقهم ندفنهم بأيدينا هناك في البادية غير بعيد عن أسوار السجن.. أما الذين يذهبون للمعالجة الطبية فإنهم لا يعدمون.. بدليل وجود طبيب.. وبدليل أننا لم ندع لدفن أي منهم في يوم من الأيام".

رحمة الله عليك يا دكتور أكرم.. لم يخطر على باله أن يقوم الجند أنفسهم بعمليات دفن المرضى، مع أنه –هو المسكين- كانت إصابته بنوبة إسهال شديد كافية لأن يكتبوا حيال اسمه في دفتر السعداء: "قتل أثناء محاولته الهرب".

ويبدو أن هذا التدبير الإجرامي الوحشي كان إحدى وسائل أبي نفخة في تحقيق التوازن بين الطاقة الاستيعابية للسجن، وبين عدد الوافدين الجدد. إذ ندر أن مر أسبوع من غير وصول فوج أو فوجين من النزلاء الجدد، من المدن والأرياف، من السهل والجبل، من الكبار والصغار، من الأميين والمتعلمين، وكلمة من هنا وكلمة من هناك فإن تجميع الكلمات المهموسة والمبعثرة يؤدي إلى تكوين جمل مفيدة تجعلك تعلم بأن "الثورة" الشعبية مستمرة، وأن حوادث "الطقطقة" لم تتوقف في معظم أنحاء البلاد، فالمجاهدون يواصلون عملياتهم الجريئة بالتصدي لرموز السلطة الباغية بالقتل والاغتيال، وأن المجاهدين يعرفون أن الفساد كله هو في الرأس، رأس الطاغية عبد الذات المتحصن بألف حصن داخل قصره، لكنهم سيصلون إليه مهما كلف الأمر. "الأمر الذي سيتحقق فعلياً بعد بضعة أشهر، عندما وصل اثنا عشر مجاهداً إلى قلب قصر الطاغية، رغم كل التحصينات، ونشبت معركة هائلة في قلب القصر أسفرت عن استشهادهم جميعاً رحمهم الله، مما أثار جنون الطاغية عبد الذات، فأمر بإعدام كل الرهائن –يعني نحن المساجين- انتقاماً وتأديباً- فتم تنفيذ أمره الهمجي في الليلة ذاتها.. لكن: مالنا نستبق الأحداث؟".

جاء مدير السجن إلى مهجعنا (كيف فاتني أن أخبركم أن اسمه أسعد منخورة، وشهرته أبو نفخة؟!) وأشار إليّ آمراً:

- أنت يا بغل.. تعال..

فنهضت وتبعته وأنا مدرك أنني مطلوب لأعمال السخرة في نقل الأكياس والصناديق من شاحنة الأرزاق إلى مستودع المؤونة، لذلك فإنه لم يخالجني أي شعور بالخوف، لأنهم لو كانوا يريدونني للتعذيب (وهو ما يحدث يوم الجمعة عادة) أو للإعدام (وهذا موعده يوم الثلاثاء) لكان ناداني بشتيمة كلب أو خنزير أو قواد أو زوج القحبة أو ما شابه ذلك. أما تفضّله عليَّ بلقب "بغل" فهذا تكريم فيه لمحة ذكاء أيضاً، لأن العلاقة بين البغال وبين أعمال النقل والتحميل علاقة تأريخية ديالكتيكية حسب مصطلحات أصحابنا الماركسيين الذين كان مقاول الأرزاق شكري فوق السطوح واحداً من أبرز مثقفيهم (حسب الصورة التي توقفت عندها ذكرياتي عنه قبل عشرين سنة أو أكثر).

وجدنا حول الشاحنة العسكرية، في ساحة "البرّاني" أربعة مساجين آخرين، كانوا واقفين في انتظار الأوامر.. وعندما وصلنا إليهم قال لهم أبو نفخة:

- هيا ابدؤوا بالتفريغ.. هذا البغل "يعنيني أنا" يخبركم أين تضعون الأرزاق.. صار خبيراً بالعملية..

ثم سأل العسكري سائق الشاحنة: أين شكري بك؟

أجابه السائق: سبقك إلى سيارته الكارفان في الخارج.

خُطف قلبي عند سماعي اسم شكري بك، إنه شكري فوق السطوح قطعاً. لكن ماذا أفعل؟.. هل أركع تحت كرش أبي نفخة متوسلاً:

- خذني معك أرجوك.. أريد أن أرى صديق العمر؟

إن هذا مستحيل، إذ كيف يسمح لي بأن أغادر باب السجن وهو ذاهب وحده بلا حرس؟

فُتح الباب الكبير وخرج أبو نفخة ثم أغلق الباب الكبير، وخلال تلك اللحظة الخاطفة استطعت أن ألمح شكري وسيارته البيضاء "الكارفان" وبساط الربيع الأخضر الممتد على مدى سهول البادية، مرّ الشعور بخضرة الربيع مثل نسمة بهجة عابرة بعد أن نسيت الألوان والأيام، أما هذا الوغد شكري فلم يؤلمني منه، في تلك الساعة، إلا أنه لم يدخل مع سيارة الأرزاق.. فأنا منذ البداية صنعت المستحيل حتى "يكرمني" مدير السجن أبو نفخة بأن أكون بغلاً، ولقد بذلت جهدي أن أكون العتال المرضي عنه في كل مرة، أملاً بأن أحظى برؤية شكري، ولكن هذا الوغد لم يأت مع سيارة الأرزاق مرة قط. وها إنه عندما جاء اليوم لم يدخل، أنا لا أريد منه أي شيء، أريد أن أبصق في وجهه فقط لا غير.

كتمت غيظي ورحت أنقل الأكياس والصناديق مع رفاقي المساجين:

"على مهلكم يا إخوان.. لا تمزقوا كيساً.. لا تكسروا صندوقاً.. رتّبوا البضائع بشكل يعجب المدير، فإن عملتم جيداً اليوم حظيتم بهذه المتعة كلما جاءت سيارة الأرزاق".

((إنها لمتعة حقيقية أن تخرج ولو ساعة من كابوس الحزن والغم والتفكير بالهموم.. وإنها لفسحة حقيقية أن تحظى بالمجيء إلى "ساحة البرّاني" حيث مكتب المدير وغرف الحرس والمستودع والمطبخ.. ثم إنك قد تنتعش بسماع خبر من السائق أو استنتاج نبأ من خلال حوار بين حارسين، وقد تسعد بلمح جريدة قديمة على مقعد السائق.. صحيح أنها من جرائد عبد الذات ولكن الكلمات المطبوعة عليها تجعلك تتذكر –على الأقل- أنه ما تزال توجد دنيا خارج هذه الجدران).

واحد من معاونيّ المساجين الأربعة حاول أن يتقرب مني متودداً:

"العفو يا عم.. لهجتك ذكرتني بشخص أحبه كثيراً.. وربما كنتما من البلدة نفسها".

كان شاباً صغيراً، نحيفاً، وله لحية سوداء.

قال ذلك وهو يبتسم، بياض أسنانه بدا أكثر تألقاً وسط لحيته السوداء، وشاربه الأسود. (الجميع يرخون لحاهم مرغمين، لا يوجد حلاق).. أنزل كيس الرز عن ظهره في مكانه الصحيح بالمستودع (كانت رائحة تعفن الرز واضحة) ثم مد يده وصافحني:

- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أخي.. أنا من دمشق.. اسمي صلاح، والإخوة هنا ينادونني أبا أيوب.

- وأنا محمود قاضي القلعة.. أبو عدنان.

فهز يدي بحرارة وفرح: إذن فأنا لم أخطئ في حدسي، أنور من أقاربك حتماً.

فسألته مندهشاً: أنور ابن أخي؟.. هل تعرفه؟

تلفت الشاب اللطيف حوله حذراً ثم همس:

- أنا لا أعرفه فحسب، إنه أخي في الله، أنور يسكن عندنا.. في بيتنا..

هزتني نشوة المفاجأة فقلت له:

"لن أدعك تحمل أي كيس ثقيل بعد الآن، أنا أتولى حمل حصتك.. أنت جئتني من السماء".

ثم لم يتوقف الحديث والاستجواب، ومن خلال جمل هامسة ومتقطعة، في الذهاب والإياب، عرفت من هذا الصلاح الرائع ذي الجسد النحيف أنه، بفضل سكن أنور عندهم في البيت، لم ولن يقلق على أمه العجوز التي ليس لها غيره في هذه الدنيا، وأوضح لي عنوان البيت:

"عند مخرج سكة القطار من محطة الحجاز، لكن باتجاه الزبداني، وسوف تجد أمامك بستان تين شوكي. البيت مقابل البستان تماماً، وأنك سوف تهتدي إليه بسهولة".

فضحكت وقلت:

"كأنك تراني مغادراً هذا السجن غداً".

قال: "الله كريم".

وأدركت من حديثه أنه وابن أخي ينتميان إلى تنظيم جهادي سري واحد، لأنني عرفت منه كل "الأسرار" التي لم يخفها أنور عنه، فأهلي ما زالوا يبذلون كل المساعي الممكنة للإفراج عني، أو لرؤيتي على الأقل، وأخي (أبو أنور) عرض استعداده لأن يدفع كل ما يملك رشوة لمن يمكنه إنقاذي، وأم عدنان في مستشفى المجانين، وعدنان أعطاك عمره.. وحين سألته عن حقائبي وجواز سفري قال إن أنور لم يتحدث أمامه مرة بهذا الخصوص.. فأدركت أن(تلميذي الوفي) خضور قد فعلها، وأثبت أنه نذل شأن الآخرين من "رفاق الماضي" على درب النضال الاشتراكي.

ثم فاجأني صلاح بهذا الطلب:

- ما دام مدير السجن يسمع كلامك إذن فاطلب منه أن ينقلني إلى مهجعكم، أنا أحببتك وأريد العيش معك، كما أنني أريد أن أتعرف عن قرب بخالك المجاهد العظيم الحاج عبد الرزاق.. أحاديث أخي أنور عنه شوقتني للتعرف به.

(إذن فأولاد الحرام دفنوه هنا، وأهلي في تل عنبر لا يعرفون أنه مات يوم وصوله قبل حوالي سنة؟!).

وجلست مطرقاً.

سألني صلاح: ما بك يا عمي؟

قلت: لا شيء.. اتركني الآن يا صلاح وسأخبرك بكل شيء في الوقت المناسب.

وكنا قد أنجزنا إفراغ الشاحنة، وجاء المساء، فسمعنا صوت يد تخبط على الباب الكبير: "افتحوا الباب.. أنا شكري ومعي المدير".

فقفزت مسرعاً باتجاه الباب وكل أعضاء جسدي في حالة تحفز شديد التوتر.

فتح الحرس الباب، فأطل شكري وهو يسند أبا نفخة الموشك على السقوط لشدة السكر، بينما التفت شكري إلى الخلف صارخاً بامرأة تنزل من سيارته الكارافان:

"ارجعي يا شرموطة.. هل تريدين أن تفضحينا؟".

فرنّت ضحكة العاهرة وهي تقول بغنج بليد:

"أشتهي أن أرى كيف يكون مساجينه".

تلقف الحرس جسد مديرهم وأخذوه إلى غرفته، وأنا تقدمت من شكري الذي كان ينفض صدر قميصه بقرف:

"مرحباً شكري.. هل عرفتني؟".

قال مشمئزاً: نحن لا نعرف خونة.

واستدار ليذهب، فأمسكت به من كتفه وأدرته نحوي بعنف:

* انظر إليَّ يا شكري.. جرّدني من هذه اللحية الطويلة التي أنبتها البؤس وحاول أن تتذكرني.

فقال بإصرار، وهو يزيح يدي عن كتفه:

- كائناً من كنت فنحن أشرف من أن تكون لنا علاقة مع الخونة والمجرمين.

فصرخت كالمجنون:

- يا أنذل خلق الله.. والله إنكم أحط من عبد الذات.. تفو..

وبصقت في وجهه.

ففوجئت بالحرس جميعاً ينفجرون بالضحك.. فوجدتها فرصة لأن أنسحب بانتظام.. ومضيت..

أخبرني صلاح (أبو أيوب) بعد ذلك بأن هذا الوغد راح يمسح بكمه البصقة عن وجهه وهو يهدد وينذر ويتوعّد، ثم طلب من الحرس أن يأخذوه إلى "أسعد بك" –يعني صديقه المدير أبا نفخة- فقيل له: "إن سعادته صار في سابع نومة.. "شخيره وصل إلى الجوزاء".. فطلب منهم أن يعطوه اسمي وهو يصرخ غاضباً:

"سوف أنتهك أعراض حريمه".

ولكن المرأة شبه العارية مدت يدها من الباب وسحبته قائلة:

"تعال، كفاك فضائح.. العين تطرقك ما أبشعك حين تقلّد الرجال".

روى لي أبو أيوب هذه الحكاية وهو يضحك، وكان قد انضم إلى ركّاب مهجعنا.. ثم سألني بعد ذلك:

- ألا تخاف انتقام أبي نفخة؟

قلت: أبو نفخة، على نذالته وانحطاطه، يحتقر هذا المخلوق الحشرة أيضاً.

ثم مع مرور الأيام، تبين لي أن مدير السجن لم يسمع بالحادثة أصلاً، كما أن ذلك الوغد شكري لم يعد يرافق "بضاعته" أبداً، من المؤكد أنه تذكرني وهو يخجل من أن يجابهني العين بالعين.

في تلك الليلة بكيت، كان الجميع نائمين ولا شيء غير العتمة.

وحين انتبهت إلى أنني أبكي لأول مرة، رغم كل ما مرّ بي من محن وفواجع و "مشاهدات" ماحقة، هممت بأن أحرّك يدي لأمسح دموعي، ولكنني قررت أن أطلق لدموعي السراح.. "اجري أيتها الدموع الساخنة المحرقة.. اجري بللي وجهي وشعر لحيتي الذي طال، وبللي هذا القميص القذر الذي لم أستبدله منذ يوم مغادرتي الدمام قبل أكثر من سنة، هنا تصبح الثياب التي دخلت بها السجن جزءاً ثابتاً منك. بعض الإخوة –اضطراراً- يرثون شيئاً من ثياب الذاهبين يوم الثلاثاء، أنا لم أستطع احتمال ذلك وبقيت في ثيابي ذاتها..

وعندما انتبهت إلى أنني صرت أنشج، خفت أن يُسمع نشيجي فضغطت على شفتي المرتجفتين وألزمت نفسي بالبكاء الصامت، ولكن المريح.. إن للغدد الدمعية دوراً إنسانياً حنوناً.. إنها -بهذه الإفرازات المادية تترك للروح أن تسرح هي أيضاً.. وها إنني في زهو شبابي جالس في القاعة الكبرى بكلية الآداب، بين ثمان مئة شاب وفتاة، نصغي إلى الأستاذ جليل يحدثنا عن جان جاك روسو وتعلّقه بالحرية والطبيعة وقداسة الإنسان، ثم ما لبثت يومذاك أن فتحت الدفتر ورحت أتسلّى برسم شعر الفتاة الجالسة أمامي، والتي لا أرى وجهها.. إنها تخطيطات مريحة بقلم الرصاص. التفتُّ إلى الشاب الجالس على المقعد المجاور، كان هو أيضاً يرسم الفتاة ذاتها، ولكن من طرف وجهها الجانبي. كانت خطوطه أقوى والقلم يتحرك في يده بثقة أكبر، كان وجهه بليداً ولكن "فيه شيئاً ما" حاجبان كثيفان بارزان، عينان غائرتان وعميقتان وكرة لحمية صغيرة قرب المنخر الأيمن.

سألني همساً وبتودد: رسام؟

قلت مرتبكاً: أحب أن أكون رساماً.

قال بثقة: أنا رسام.

ثم صرنا صديقين: كان شكري شاباً لطيفاً، متواضعاً، بطيء التفكير، حنوناً، لكنه كان مصراً على أن يدرس فن الرسم، ونحن الثماني مئة طالب سنة أولى سوف نفترق عن بعضنا في السنة القادمة إلى التخصص في الفلسفة أو التأريخ أو الأدب أو الجغرافيا.. إذن فإن شكري لن يلبث أن يتركنا لأنه مصر على أن لا يدرس إلا الرسم، سألني:

"أين تسكن؟"

فأخبرته بأنني مستأجر غرفة عند سيدة شابة وظالمة تضرب زوجها في كل ليلة فأضطر لتخليصه منها. فضحك شكري ودعاني لأن أسكن عنده. قال:

"لن تجد أجمل من بيتانا بيتاً في الدنيا".

وكان ذلك.

*     *      *

كان علينا - بعد أن نزلنا من الباص عند مدخل سوق الهال- أن نخترق هذا السوق مشياً، ثم نواصل السير مشياً على الأقدام أيضاً، لأن الأزقة الضيقة، والمتعرجة، والمسقوفة أحياناً كانت تستعصي على وصول أية سيارات إليها، فبيت صديقي يقع في منطقة قديمة، معظم البيوت فيها عتيقة ومتهالكة، وبعضها ذو جدران طينية. كان يشجعني على المشي مبتسماً ثم يقول:

"سوف يعجبك بيتنا كثيراً".

وكنا قد تغلغلنا في أزقة ضيقة بين بيوت طينية قديمة تكاد نوافذها العالية المتقابلة تتلاقى مع بعضها، بل إننا كنا نمرّ أحياناً تحت سقيفة معتمة تصل ما بين بيتين متقابلين، وفوقها "علّية" صار الجو معتماً، ثم قال بارتياح: "وصلنا".

وتوقفنا أمام باب عتيق من الخشب المحفور بزخارف متآكلة، وكان كل ما حول الباب جدار طيني طويل وعال، وهناك –في الأعلى- نوافذ بارزة بمشربيات من الخشب المشبك، مزينة بزخارف أيضاً، غير أنه من الصعب وصف خشبها بلون معيّن من الألوان المعروفة.

فتح الباب وقال: تفضل..

كانت باحة الدار واسعة جداً، وأرضها مبلّطة بمربعات من الحجر الأبيض الصقيل، تؤطّرها أضلاع من الرخام الأسود اللماع، وفي وسط الباحة بركة ماء كبيرة، كلها من الرخام، يتوسطها عمود أبيض تتدفق منه المياه بنوافير بديعة ومدهشة، وحول البركة أصص كبيرة فيها أغراس ورد وأزهار ونباتات زينة أخرى لها –فوق لطف جمالها- رائحة عطرية منعشة وناعمة جداً.

تلفتُّ حولي، يغمرني شعور بالفرح والارتياح، إنه حلم جميل يوحي بالأمان والجمال واللطف، هذا عالم جديد، منعزل عن كل الدنيا، لكنه هادئ وناعم وأنيس.

"متّع عينيك باستعراض جمال هذه التحفة العمرانية الشامية يا ابن تل عنبر".

كانت مياه البركة تفيض فوق حوافها بمويجات بلورية رائعة، ثم تنحدر لتجري في ساقيه محيطة بالبركة لا تلبث أن تبتعد في مجرى مستقيم حتى تصل إلى أشجار النارنج الظليلة التي تحيط بهذا الفناء الواسع.. وهناك أيضاً دالية عنب ظليلة، وعريشة ياسمين متسلقة على الجدار، وبعد ذلك فإنه تحيط بهذا الفناء الأبيض البهي غرف ذات طابقين، كلها مبنية بالحجر الأبيض المنحوت، وأبوابها ونوافذها مؤطرة بمنحوتات بارزة من الحجر الأصفر والأسود والأحمر. وكانت كل هذه الجدران نظيفة بهية، وقد زُين بعضها –فوق الأبواب- بحزام من نحت بارز لنصوص قرآنية أو أشعار قديمة، وهناك أيضاً درج عتيق من الحجر الصقيل، له درابزون حديدي مزخرف، يرتفع بك إلى غرف الطابق الثاني التي لا تطل على الباحة مباشرة، وإنما تفصلها عن الحافة سقيفة خشبية قائمة على قناطر مسرفة في زخرفها. وكانت تلك السقيفة –شأن الأبواب الخشبية والنوافذ جميعاً- مرسومة بنقوش إسلامية قديمة بديعة جداً ومدهشة بجمالها وتناسق ألوانها، "وما كان أسعد الدمشقيين القدامى بالعيش في مثل هذه البيوت!".

قال شكري بعينيه الحالمتين وكلماته البطيئة:

- أمامك ست عشرة غرفة، اختر ما شئت منها لنفسك.

عشت معه في هذا البيت الرائع ثلاثة أشهر، فقد كنا في نهاية العام الدراسي، وعندما حاولت أن أدفع له الأجر رفض رفضاً قاطعاً على الرغم من حاجته الماسة للقرش الواحد.

كان شكري فوق السطوح محشوراً في نوع من الفقر يندر مثاله، فقد كان أبوه رجلاً ميسور الحال، كان صاحب فندق، وكان قد طلق أم شكري لأسباب غامضة (لم يحدثني صديقي عن أمه يوماً) ثم إن الرجل العجوز تزوج بامرأة عصرية رفضت السكن في هذا البيت، وأرغمته على السكن في شقة ضيقة ببناية عالية، "وها إنه يعيش هناك معها ومع أخواتي منها، وكلهنّ صغيرات، وأنا أمرّ عليه في الفندق صباح كل يوم فأقبض منه ليرة ونصفاً وأمضي، وبعد ذلك أنا مسؤول عن مصروفي بهذه الليرة والنصف، ولذلك تراني أضغط نفقاتي ما استطعت حتى أجمع ما يكفي لشراء بطاقة إلى مصر، فأنا مسافر في السنة القادمة لدراسة فن الرسم هناك.. لو كان عندنا معهد للفنون الجميلة هنا لما سافرت".

قلت: أنت لا تحب خالتك زوجة أبيك؟

قال: هي التي لا تطيق رؤيتي.. وتحقن أخواتي الصغيرات بشحنة الكراهية ضدي.

- وأبوك؟!

* لا علاقة لأبي بأي شيء يتجاوز مسألة الليرة والنصف.. وأظنه سوف يثابر على إرسال هذه الجراية البسيطة إليّ عندما أقيم في القاهرة.

- لكن هذا المبلغ التافه لن يكفيك.

* لا تخف عليّ.. تعلّمت كيف أعيش دون هذا المستوى.. أنا لا أريد شيئاً من هذه الدنيا.. فقط أريد أن أصبح رساماً قادراً على أن يهز الدنيا بلوحاته.. أيها الناس ثوروا.. يا جماهير المسحوقين ثوروا.. هبوا.. استيقظوا.. اخربوا الدنيا.. إن لوحاتي يجب أن يكون لها هذا الفعل الخلاق.

- إذن لهذا السبب انقطعت عن الدروس في الجامعة؟

* لا أمل من الدراسة في كلية الآداب، ثم إنني لن أتقدم للامتحان فلماذا أرهق نفسي بالمذاكرة وقراءة الكتب، خصوصاً أنها كتب قميئة بدلاً من أن توقظ الإنسان على واقعه المرير، وبدلاً من أن تجيب على الأسئلة الخطيرة التي تقلقك وتقلقني وتقلق كل شاب، فإنها –شأن إفرازات الثقافة البرجوازية- تجرف الذهن إلى متاهات الضياع والانخلاع ولعبة القضايا الفكرية الفارغة.. أتدري يا محمود!!، في كل الكتب التي قرروها علينا هذه السنة، لا يوجد ما يستحق القراءة إلا ذلك الفصل الخاص عن الماركسية في كتاب علم الاجتماع.. الماركسية هي التي عرفت كيف تشخّص الداء، وعرفت كيف تصف الدواء..

- هل أنت شيوعي يا صديقي؟

* لست منتمياً إلى أي تنظيم.. ولكن خط حياتي صار واضحاً تماماً.. سأناضل ضمن المفهوم الماركسي للفن والثقافة والحياة.. سأكون مع الفقراء والمظلومين والمسحوقين أينما كانوا.. وسأهب حياتي للنضال الدؤوب لتحرير الإنسان.. أرأيت إلى هذا البيت التراثي الجميل؟! سأحمل السلاح لمقاتلة الذين يمدون أيديهم الآثمة لهدمه وبناء عمارات تجارية مكانه، إن التجار هم أعداء كل القيم الإنسانية.

سألته: وأبوك منهم؟!

* كل إساءات أبي يغفرها له تمسكه ببقاء هذا البيت، لقد حاولت خالتي إقناعه بالبيع والهدم، ولكنه كان يصدها بشكل حاسم:

"يظل هذا البيت قائماً طالما أنا حي.. وحين أموت افعلوا به ما تشاءون"..

بل إن أبي هو الذي يصر على عدم بيع أي قطعة أثاث من هذه الأشياء البالية..

كنا نقيم في ذلك البيت الواسع وحيدين، إلى أن جاءنا نزيل ثالث، فذات يوم، وكنت أعدّ باذنجاناً مقلياً للغداء، فوجئت بهذا الفنان الحالم يدخل البيت حاملاً على صدره كلباً أبيض، بحجم أرنب كبير.

"ما هذا يا صاحبي؟"

قال: "اسكت ودعها للسماء، فأنا سوف أصرف من قروشي القليلة ما أشتري به طعاماً لهذه الكلبة.. هل تدري أين كنت؟.. كنت عند طبيب بيطري ربط لها ساقها المكسورة.. انظر.. يا للمسكينة!! يبدو أنها كلبة مدللة عند أناس أكابر.. وتاهت.. فوصلت إلى حارتنا فضربها الأطفال بالحجارة وكسروا ساقها.. وجدتها في الزقاق وهي تتلوى وتئن وتتوجع، فحملتها ومضيت.. سوف أسميها "وفية" ولا أظنني سأبحث عن أصحابها لأعيدها إليهم، لقد أحببتها، انظر إلى عينيها المترعتين بالتعبير"..

كانت عينا الكلبة تدمعان بصمت..

*      *     *

أنا أيضاً عيناي تدمعان الآن بصمت.. لكن أين تلك الأيام من هذه الأيام!! وأين تلك الظروف الشبابية المتطلعة إلى المستقبل من هذه الظروف الشيخوخية المجروحة بتراكم خيبات الماضي!! كنا أنا وشكري نريد أن نصلح الكون. كنا واثقين بأن كلامنا قادر على أن يصلح الكون وأنه سوف يضرب ويطرح ويرسم ويخطب ويكتب ويكتّل الأمة على دروب الخلاص.. غير أن الدرب عند شكري كان مرسوماً بريشة ماركسية محددة، بينما كنت أنا أجد لذة في أن أظل مأخوذاً بالعروبة والإسلام والاشتراكية معاً. توفيق قالها لي عندما وجدته في مكتبه بالمجلة في بيروت:

- أنت لم تتغير أبداً ولن تتغير. أنت حالم كبير.. حالم كبير.. وأنت ضائع يا محمود.

ثم سألني: هل تعرف لماذا أنت ضائع كبير؟

قاطعته ساخراً:

- لأنني حدثتك عن الأحذية ذات الأسعار الخيالية والفلافل وآلاف الجائعين وأولئك العتالين الذين أعجبتهم ضخامة جسدي فرشحوني بنظراتهم لأن أكون عتالاً ممتازاً.

ضحك توفيق مرة ثانية وقال:

- أهذا أنت؟ لم تتغير، ولا تستطيع الثبات على الحديث الجاد لحظة. إنك رأساً تقلب الموضوع إلى نكتة ساخرة.

فسألته: إذن ماذا تعني بقولك إني ضائع كبير؟.. لا تنس أنني كنت الأول عليكم في صف الفلسفة.. صحيح أنني بعد تخرجنا انصرفت لمهنة التعليم وهاجرتَ حضرتك إلى بيروت وصرت رئيس مجلة سياسية، ولكن هذا لا يعني أنك صرت قادراً على أن تصدر عليَّ مثل هذه الأحكام.

قال: يبدو أن أعصابك اهتزت بعد السجن أربعة أشهر.

قلت: بل إنني أطالبك بأن توضح قصدك من مسألة الضياع.

قال: أنت يا صاحبي ويا أستاذي ما تزال ضائعاً بين خيارين: أن تكون فناناً أو أن تصبح سياسياً..

كل هذه السنين وأنت حائر بين هذين النقيضين: الفنان والسياسي.. صح؟!

أطرقت ساكتاً.. فسألني وهو يبتسم: مالك سكتّ؟! بم تفكر؟

قلت: هل أفهم من هذا أن انتظاري ضاع سدى وأنني لن أعمل في المجلة؟

ضحك توفيق ونهض عن كرسيه وأقبل نحوي قائلاً:

- تعمل؟.. أنت صاحب المجلة يا محمود. أنت تأمر ونحن نطيع.. أنا لست رئيس تحرير المجلة بل أنا صاحبها، وإن شئت دعوت لك كل المحررين والموظفين الآن لأخبرهم بأنك أستاذي وأن مقالاتك ساحرة لكن..

- لكن ماذا يا توفيق؟

- لكن في الفن وقضايا الثقافة والأدب.. أنت بهذا المجال نسيج وحدك.. أما أن تكتب في السياسة؟!.. هذه أرجوك أن تعفي نفسك منها.. ما رأيك؟ ها إنني ساعدتك على حسم القرار الذي ضيعك عدة سنوات. طلّق السياسة واحصر عبقريتك في شؤون الثقافة والفن.. صدقني يا محمود أنك لو أطعتني فسوف يسطع نجمك كأحسن ناقد فني وأبدع كاتب أدبي.. ما رأيك؟.. أسلّمك النصف الثاني من المجلة.

قلت: اتفقنا.

فقال: لكني أحب أن أوضح أمراً أساسياً. وهو أن خط المجلة أمريكي.. هل هذا واضح؟.. الإنسان الناجح هو ما يستشرف آفاق المستقبل قبل غيره. وأنا رأيت أن المستقبل لأمريكا فمشيت على الخط. مالك وقفت ممتعضاً؟!! ألم تستفد شيئاً من انقلاب رفاقك العسكر الذين حبسوك؟ متى تفيق لنفسك يا محمود!.. أفق يا أخي.. أفق لنفسك واعرف من أنت وأين أنت وما هو اتجاه التيار.. أفق يا محمود.

أيقظونا من النوم، بمكبرات الصوت، وأمرونا بأن نتوجه إلى الساحة الوسطى.

ماذا يجري هنا في هذه الليلة؟

أبو أيوب، الذي يكاد لا يبتعد عني لحظة، همس في أذني بكلمة السر:

"الدكتور محمد وضاح الجبين".

كان أبو أيوب واثقاً كل الثقة من أن ثمة »لجنة يهودية خفية« هي التي تدير - من وراء الستار - كل الفواجع الرهيبة التي تنزل بنا في هذا السجن.. وكان يقول:

- إنه من غير المعقول أبداً أن يكون هذا الجلف البليد أبو نفخة هو الذي يقرر وينفذ هذه المآسي والأعمال التنكيلية ومذابح الإعدام الرهيبة.. إن (هذه الجثة المنفوخة) لا يختلف ببلادته وتفاهته عن أي كيس تبن. ولذلك فإنه من المستحيل أن يكون صانع هذه المآسي الوحشية، من التفنن في أعمال التعذيب، إلى "ترويعة" يوم الثلاثاء حيث يختار عدد كبير أو صغير من السجناء اختياراً عشوائياً ويؤخذون للإعدام. (أبو أيوب - مثلي - لم يكن يعلم أن المرضى الذين كانوا يذهبون للمعالجة كانوا يعدمون أيضاً) إلى الاعتداء على أعراض السجينات وصراخهن الليلي الذي يقطع نياط القلوب (بما فيه من عويل الولادات سفاحاً) إلى هذا الطعام الفاسد والرديء الذي يسميه الحرس "الزقوم" حيث معظم المواد التموينية متعفنة أصلاً أو فاسدة، وكان أبو أيوب يؤكد:

"لا يوجد غير اليهود من يفرضون علينا أكل لحم الكلاب".

ثم يقول:

"ثم إن حقدهم التاريخي على الإسلام هو الذي يجعلهم يخفون عنا في زنزانات خاصة لا نراها قادة عظاماً من أمثال الدكتور محمد وضاح الجبين، هذا رجل بألف رجل، هل تدري يا عمي أبو عدنان أن كلمة واحدة من هذا الرجل يعلن فيها انهياره وتخليه عن الجهاد تعني انتصاراً لليهود الذين يمثلهم عبد الذات؟".

- وهل أنت واثق من أن هذا الرجل العظيم موجود هنا؟

- أكيد، وإنهم يعذبونه تعذيباً وحشياً منذ أكثر من شهر..

حين وصلنا إلى الساحة الوسطى، وجلسنا أرضاً تحت المصابيح الضعيفة، كانت تخمينات أبو أيوب قد صارت واقعاً، وأي واقع، ليتني مت قبل أن أرى ما حدث تلك الليلة .

كانت الساحة -على رحبها- تغص بالمساجين الذين جلسوا صامتين قلقين وجلين، وكانت تقف في وسط الباحة فتاة طاهرة لم تبلغ الخامسة عشرة بعد، فتاة مثل الوردة، كانت واقفة وسط الباحة حزينة، باكية، وثوبها ممزق من فوق الكتف، وكانت أنيسة، لطيفة، قريبة إلى القلب، وشعرها الأسود الطويل يرسم إطاراً حاداً حول بشرتها الوضّاءة. إنها فتة بيضة، بريئة، جميلة، إنها الطفلة "رفيف" التي كنت أتمناها ابنة لي، وخبأت اسمها بين جوانحي، ولكن أم عدنان وضعت ولداً ثم انقطع النسل.

ثم جاء الوحش أبو نفخة وهو يدفع أمامه شيخاً جليلاً ما إن رأيته حتى وجدت نفسي أكاد أقول:

"هذا هو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه".

وسادت الباحة حالة من المهابة والوقار والجلال، اخترقتها صيحة مذعورة من الفتاة الملتاعة:

- أبي..

وصرخ الرجل الذي تحيط به هالة من نور المهابة والجلال:

- بنتي حبيبتي.

ونفرت الدموع من عينيه، ومد يده يريد أن يصل إليها، لكن الوحش وضواريه حالوا دون ذلك، وسمعت أبا أيوب الملتصق بي يهمس في أذني قائلاً:

- أما عرفته؟! هذا الدكتور محمد وضاح الجبين. هذا مفخرة أمة بكاملها.

وكان هذا المفخرة يمد يديه نحو ابنته باكياً وقد اختنقت الكلمات في حلقه، وكانت الفتاة المفجوعة تمد يديها نحوه باكية نائحة مستغيثة:

"أنقذني يا أبي.. أنقذني يا أبي".

ونحن نبكي في قلوبنا، ونتمزق غضباً وقهراً ونستغيث بلا صوت:

"يا الله.. يا الله".

ثم ما لبث الوحش أن تقدم من "رفيف" ومزق ثيابها وجردها من كل ما يستر جسدها حتى أصبحت عارية تماماً، فأطرقنا بأبصارنا على الأرض، وفي التصور أن المسكينة قد غطت عورتها بيديها ودموعها وشعرها الطويل، غير أن السياط راحت تلهب وجوهنا وظهورنا:

"ارفعوا رؤوسكم أيها الأذلاء".

وفي الوقت ذاته سمعنا "الوحش" يصرخ في وجه الشيخ الجليل آمراً:

- تقدم وضاجعها وحبّلها يا ابن الشرموطة.

فبكى متوسلاً:

- حرام عليكم يا ناس.. إنها ابنتي.

فصفعه الوحش صفعة قاسية وهو يأمره:

- ضاجعها الآن غصباً عنك وعنها.. فنحن نعرف أنها ابنتك .. وإلا فلماذا جلبناها؟

وحين همّ هذا الطبيب وضاح الجبين بأن يتوسل إليهم من جديد جرّدوه من ثيابه تمزيقاً، وانهالوا عليه بالسياط، ليسوقوه عنوة لمضاجعة ابنته التي كانت تنوح نواحاً يمزق الأكباد، والشيخ الجليل يصرح حانقاً:

"ياالله.. يا الله".

ويرفض أن يتزحزح من مكانه، والسياط تنهش من لحمه، ونحن لا نعرف أين صرنا، ومن نلعن؟ وبمن نستغيث، وماذا نستطيع أن نفعل؟.. وبراكين القهر تكاد تنفجر في عيوننا.. ثم ما لبثت الفاجعة أن انتهت بانهيار رهيب. لقد مات الدكتور محمد وضاح الجبين والدماء تصبغ جسده الممزق.

- والفتاة؟ ماذا كان مصير تلك المسكينة؟

* أخذوها وانقطعت عنا أخبارها، ولم يبق منها إلا ذكرى مستقرة في القلب، مثل كتلة من حجر الصوان تظل تمضّ في القلب إيلاماً مع كل نبضة.. ذلك أنني لم أكن الوحيد بينهم الذي كان يتمنى أن تكون له بنت أو أخت مثل "رفيف" التي سحقها الوحش بهمجية ضارية وهو يقدمها ضحية استخذاء بين يدي سيده البطل عبد الذات الذي كانت صورته الملصقة على جدران الساحة تشع ببسمات الرضى..

*      *     *

انتهى كل شيء، وأظن أنه لم يتبق عليّ إلا أن أسدل الستارة وأمضي، لكن إلى أين أمضي؟

     قلت لصلاح: قم بنا يا أبا أيوب، قم بنا يا ولدي.

فسألني: إلى أين يا عمي؟ (كان المسكين ما يزال دائخاً في الحادثة المروعة: شاب مترع بالحيوية، وفتاة عارية، وشهيد غارق بدمائه، وذهول ضار عنيف).

فقلت: إلى مهجعنا طبعاً.. وإلا فإلى أين تحب أن نذهب معاً؟ إلى حديقة العريف الملحقة بقصر الحمراء في الأندلس؟!

فنهض صلاح متثاقلاً، وكان الآخرون أيضاً قد توجهوا للعودة إلى مهاجعهم ساكتين، مطأطئي الرؤوس، لا أحد منهم يجرؤ على أن تلتقي عينه بعين أخيه، مع أن كلاً منهم لا يجرؤ -في هذه الليلة بالذات- على العزلة أو الوحدة، أنا شخصياً كدت أتوسّل لصلاح أن يظل قريباً مني، أن لا يبتعد عني أبداً، وفي الوقت ذاته فقد لوحقنا بسياط الشتيمة واللعنات من مكبرات الصوت:

"ارجعوا إلى النوم يا قوادون.. كلكم قوادون، وما دامت "نمرة" السهرة قد أعجبتكم فإن كل قواد منكم سيمثل دوره مع أخته أو ابنته أو أمه في الليلة التي يحين فيها موعد "نمرته".

ضغط صلاح بيده النحيلة على كفيّ وهمس:

أرأيت؟.. هل صدقت كلامي؟!.. هذا الصوت ليس صوت مدير السجن.

فسألته: والمقصود؟

أجاب هامساً ونحن نجر أقدامنا خائبين:

- اللجنة اليهودية الخفية.. يجب أن يكون قائل هذا الكلام، المختفي وراء المايكروفون في مكان ما، يهودياً. لأنه من المستحيل أن يفعل هذا إنسان عربي مسلم.

أحسن إجابة على هذا الكلام أن تنصح هذا الشاب النحيل، ذا اللحية السوداء بأن ينام، مع أننا صرنا على أبواب الفجر.

- وأنت؟

* أنا لن أنام.. لقد شبعت نوماً، قضيت كل حياتي نائماً وها إنني أدفع الثمن، في هذه الدنيا متى ما أغمضت عينك لحظة عمن تسميهم "اللجنة الخفية" فقد هلكت.

قال: ما عن هذا سألتك.. قولك إنهم يجلبون أمي؟!.. إنها امرأة عجوز وضعيفة قد تموت معهم في الطريق.

وحين لاحظ أنني متمسك بالصمت استلقى لينام، ولكنه قبل أن يقطع كل أمل قال:

"هذه المسألة لم نحسب حسابها حين بايعنا على الجهاد حتى الموت".

ثم سألني: أأنت خائف أيضاً؟

بقيت ساكناً، وأنا مستلق على الأرض في ركني الخاص، يداي تحت رأسي بدلاً من الوسادة، وعيناي مفتوحتان على السقف الـتي لا أراه بسبب العتمة، فقد أطفئت كل المصابيح، أما قلت لك يا عبقري لقد أُسدلت الستارة وانتهى كل شيء؟!.. وأما قولك -لتعزية نفسك الخسيسة-- إنهم لن يستطيعوا ترويعك لأنك لا ابن لديك، ولا زوجة.. فهذه هي الخسة بعينها، الخسة هي أن تقول: "ربي أسألك نفسي"، والدناءة أن تتمنى أن تنزل الصاعقة "حوالينا ولا علينا" إذ من هم هؤلاء الذين حواليك يا عبقري؟.. كلهم أنت، الدكتور محمد وضاح الجبين هو أنت، وقد ضحى بنفسه نيابة عنك، افتدى إنسانيتك بنفسه، أنت مرتكب يا حضرة "الآفة" التافه، أنت مرتكب ويجب أن تحاكم.

صُرخ بأعلى صوت: محكمة.

فقال لهم صلاح، وهو يسندني بكلتا يديه حتى لا أسقط أرضاً من شدة الإعياء والوهن:

- حاكموا غيره الآن يا حضرات القضاة، فهو كما ترونه نائم، محموم، يهذي، والعرق يتصبب منه، درجة حرارته مرتفعة جداً.

فقلت له:

- لا تغلط يا أبا أيوب.. فأنا الذي طلبت عقد هذه المحكمة.. وإنني في أوج الصحو والانتباه.

والواقع أنني.. رغم غموض التعتيم وتداخل الصور المترجرجة -كنت أرى كل ما في قاعة المحكمة واضحاً رغم السواد، فها هم القضاة أمامي جالسون خلف قوس المحكمة، قالوا لي ساخرين:

"نحن اللجنة السرية الخاصة".

التفتُّ إلى صلاح لأخبره بأن اللجنة اليهودية البشعة التي حدثني عنها موجودة فعلاً، لكنني لم أجده واقفاً حدّي، وكان المقدم خضور جالساً فوق منبر النائب العام، وكان ينظر إليّ باستخفاف وهو يلوك علكة، وكلبه معه هذه المرة، لم ينطق بكلمة، ولا كلبه نبح وإنما كان يلتفت مبتهجاً نحو شكري فوق السطوح الذي كان يقصب قطعة من لحم الفتاة العارية، المعلقة من يديها، ويضع اللحم في صحن من فضة ويأتي لينحني بين يدي خضّور، فينعم عليه خضور بقلادة من ذهب ثم يرمي بقطعة اللحم إلى الكلب، ويظل مثابراً على لوك العلكة في فمه ببهجة وإخلاص.. أما شكري فإنه لاحظ أن نقطة دم نزلت من السكين فلوثت حذاء خضور، فاقتلع ورقة من كتاب لينين وراح يمسح بها حذاء المناضل السعيد، وكان قفص الاتهام محشوراً بجماجم الإخوة الذين فتحتُ لهم جوانح قلبي في السجن، وأغلقت عليهم جوانح قلبي في السجن، إنني أعرفهم وجهاً وجهاً ولكنني لا أعرف أسماءهم: ماعدا الشيخ حسن الذي كان يلوّح لي بيده من خلف قضبان قفص الاتهام، وهو يبتسم مشجعاً:

"لا تنس الباري عز وجل يا أبا عدنان".

وكان يقف إلى جانبه الدكتور أكرم الذي ما لبث أن جاء وعلّمني هكذا:

"من تقاليد المحاكمات أن تقول: يا سعادة القاضي.. هنا يجب أن تقول: يا نذالة القاضي، لأنك الآن لست في جبل الحقوق بل أنت الآن في وادي الهمجية، وعليك أن تستخدم مصطلحاتهم".

ثم رجع إلى مكانه وهو يحمل طفلين: في يده اليمنى عبد المجيد، الطفل أبو الأذان الغاضب، وفي يده اليسرى ذلك الطفل أبو الدراجة والخبز والعينين المذعورتين، ثم سمعت صوتاً ينادي:

"يا أستاذنا الخائب".

فالتفتُّ إلى الخلف فوجدت القاعة ملأى بالمتفرجين، هنا يجلس على الأرض أهل قرية المطعونة ومعهم سلال وصرر وأكياس.. وهنا يجلس على الأرض أهل تل عنبر ومعهم سلال عنب وتين وزيتون، ومعهم سجادة صلاة من الحرير الناعم عليها صورة إبراهيم هنانو..

سألتهم: من منكم دعاني الأستاذ الخائب؟

فأجابوني: "أنت الذي قلت هذا يا عبقري".

وتلاشت من بين أيديهم كل الهدايا والخيرات. صارت السلال عند اللجنة فوق قوس المحكمة، أما سجادة الصلاة فقد داسها "نذالة القاضي" بحذائه ثم قلبها ورسم على قفاها صورة عبد الذات. كان يغمس الفرشاة بشريان الذبيحة ويرسم، ثم عُلقت صورة الطاغية البشع فوق القوس، وظل دم الضحايا يقطر منها، فصرخ القاضي غاضباً:

- محكمة.

فصرخت في وجهه وبغضب أشد:

- انتظر يا نذالة القاضي.. من أنت حتى تحاكمني؟.. لماذا تكونون أنتم القضاة ونحن المتهمين؟ .. ماذا أنجزتم من حسنات حتى تكافأوا بالصعود إلى منصة القضاة؟ وماذا ارتكبنا من سيئات  حتى نعاقب بالتنزيل إلى الاتهام الأبدي؟.. هيا.. خبّروني.. ماذا فعلتم؟.. هل حررتم فلسطين؟

فضحك نذالة القاضي ومن معه ثم قال لمن معه:

- شوفوا الأبله.. وفوق هذا فهو أستاذ فلسفة وعبقري.

ثم قال لي:

- إذا كنت أنت لا تدرك أنكم أنتم الذين أركبتمونا على ظهوركم منذ أن انزويتم خلف "ربي أسألك نفسي "واختبأتم خلف" حوالينا ولا علينا". إذا كنت أنت لم تدرك ذلك فلا عتب على هذه الجماهير الشعبية غير المتعلمة.

ثم سألني وقد مدّ رأسه إلى الأمام حتى كاد يتجاوز قوس الحكمة:

- خبّرني يا حضرة العبقري الفهمان.. ألست أنت الذي تتباهى علناً بأنك منذ تلك الحبسة الأولى في بداية الثورة تركت كل شيء وانزويت وصمتّ؟ ألست أنت الذي كنت، كلما رأيت فاحشة، تقول لنفسك مغطياً انهزاميتك: دعوا أم رضوان تبكي على رضوان؟ ومن هو رضوان يا حضرة المواطن؟. رضوان هو الوطن وأم رضوان هي الشعب.. وأنت من أنت؟ هل أنت من اليابان؟ (ضحك من مقاعد المتفرجين) ثم تعال وصارحني بما توصلت إليه من استنتاجات فكرية عندما كنت تجلس لتراجع حساباتك القديمة على مهل في ساعات السجن الطويلة.. فماذا اكتشفت؟.. مالك تظل ساكتاً كالأخرس؟!

أنا أخبرك باكتشافاتك الفكرية يا حضرة العبقري الخائب:

لقد اكتشفت أنك أخطأت وفرّطت بكل شيء منذ أول مرة لم تصرخ فيها بأعلى صوتك: "لا".. عند "اللا" الأولى، التي خرس لسانك عنها، كان الشرخ في جسد السد ما يزال بسيطاً.. هل تتذكر نفسك صبيحة أول أيام الثورة؟.. لقد كنت واقفاً في شارع البرلمان، تتفرج على دباباتنا ونحن ندخل بها إلى حديقة البرلمان، فماذا فعلت؟ لقد صرخت: "ارجعوا إلى ثكناتكم أيها العسكر" ثم خرجت من السجن وأنت ترانا نقتحم المساجد بأحذيتنا العسكرية فلا تنطق بكلمة.

.. ويوماً بعد يوم، وصمتاً بعد صمت، والشرخ يكبر باستمرار، وأنت وأمثالك تدفنون رؤوسكم في الرمال وتعدّون الأدلة التي تثبت.. في الوقت المناسب.. أنكم لن تعارضوا أياً من تدابير الثورة، حتى اتسع الشرخ إلى أن هُدم جسد السد كله، وكان الطوفان.. فاغرق إذن بالطوفان يا عبقري.

صرخ الشيخ حسن: ارحموه يا ناس.. إنه يكاد يغرق بعرق الحمّى.

فقلت له: بل دعه يواصل كلامه يا صديقي العزيز.. فهو إنما ينطق بلساني وأنت لا تدري (كان خد الشيخ حسن وارماً تحت لحيته بسبب آلام ضرس العقل).

ثم قلت للقاضي: واصل كلامك يا نذالة القاضي، فأنت تعبر عن أفكاري تماماً.

لكن القاضي اهتز وتلاشى.. القاعة كلها تلاشت واختفت.. وأنا الآن أمشي في رمال صحراء محرقة، والعرق يغسلني وحلقي جاف والعطش قاتل، وكان ثمة يد عنيفة تهز كل شيء.. إلى أن فتحت عيني فوجدت أن أبا أيوب، هذا الابن الحنون، هو الذي كان يهزني ليوقظني:

"أنت يا عمي محموم.. منذ ساعة وأنت تتقلب وتهذي وعرقك ساح على البلاط.. يجب أن نأخذك للمعالجة. بعد ساعة يفتحون علينا الباب فأخبرهم بمرضك".

قلت له: اسقني دمعة ماء. ولا شيء غير ذلك .

وبعد أن سقاني رجوته أن لا يخبر الحرس بمرضي. لأني صرت أشك في مصير المرضى الذين يذهبون ولا يرجعون أبداً.

رائع جداً هذا الصلاح أبو أيوب.

لقد حسم الموضوع وهو ما يزال في بداية حياته:

"عندما يعاملك ظالمك بالقتل فعليك أن تحاول قتله أنت.. واجبك أن تقتله، لأنك على حق وهو معتدٍ آثم.. هذا حكم قاطع عندما يكون حاكمك عسكرياً وغداً متألّها. وإنك عندما تقتل هؤلاء الهمجيين الأنذال فإنك لا تحرر نفسك فحسب وإنما أنت ضمنت نعيم مجد الدنيا ونعيم جنة الآخرة. إنك تكسب رضوان الشعب.. ورضوان الشعب هو من رضوان الله.

هكذا كان يخبرني همساً - لكن بحماسة وثقة بالنفس - مع أنه لم يكن يستخدم كلمة »الشعب« وإنما يقول »عباد الله«. وكنت أستحثه على أن يحدثني - ويعيد- عن الأعمال البطولية التي قام بها، وكنت في كل مرة أحبه أكثر وألح عليه أن يخبرني بأدق التفاصيل عن كل عملية، حتى صرت كأنني واحد من إخوانه المجاهدين الذين استشهدوا في العملية الأخيرة التي سقط فيها هو أسيراً. كنت أصغي إليه وأنا أغبطه على سيرة حياته الموجزة، الواضحة، الحاسمة، الرائعة، وألوم نفسي في الوقت ذاته وأحلم.. أحلم بأن يطلع ابني عدنان مثله. وسرعان ما يعاقب الحلم بصدمةٍ كهربائية أليمة فيتراجع منكمشاً ويتيبس. فعدنان مات، ولا أمل لك في العودة إلى الدنيا لتحمل السلاح مثل هذا الصلاح الرائع. صلاح كان أذكى منك . لأنه رأى الوضع الواقعي مبكراً: نور وظلام.. حرية وعبودية.. إنسانية ووحشية.. وهو يلخص كل ذلك بكلمتين: إيمان وكفر والخط واضح جداً عند شرارة التماس: لا شيء غير القتل. إن لم تقتل فأنت مقتول.. فاليهود لا يقبلون المعايشة إلا على هذا النمط.

ثم كنت أسأل نفسي: ما الذي جاء بسيرة اليهود الآن؟

فيتحرك لساني هكذا: "لعنة الله عليك يا توفيق النادري". فعندما قال لي: "بصراحة المستقبل لأمريكا".

اعترضت مستنكراً: "ولكن أمريكا واليهود شيء واحد يا توفيق.. فكيف تقبل على نفسك أن...".

ثم مددت يدي لأصافحه مودّعاً "سأرجع إلى تل عنبر". إنه أمامي الآن وراء طاولته الأنيقة في غرفة مكتبه بالمجلة.

- ومتى تعود إلينا؟.. فأنت صرت نصف المجلة.

* لن أعود.. سنظل أصدقاء ولكنني لن أعمل معك في هذه المجلة.

- أنا لا أستغرب منك هذا، فأنا أعرف عقلك.. لكن ما الداعي لهذه السرعة في العودة؟.. لقد انتظرتني أسبوعاً فابق معي أسبوعاً على الأقل.. نتسلى ونسهر وآخذك إلى أمتع الملاهي عندي في البيت..

* لا أستطيع الانتظار.. فأنا قلق على ابني.. لأنني عندما سافرت تركته مريضاً.

- ابنك؟! وصار لك ابن يا محمود؟.. ما أطرف أن أسمع هذا أنا الذي كنت أراهن على أنك لن تتزوج أبداً، لأن ذهنك مستحيل أن ينصرف لغير "القضية".. وماذا سميت ولي العهد المبجل؟

* عدنان.. صار عمره أكثر من سنة.

- أرجو الله أن لا يطلع مثل أبيه.

- من هذه الناحية كن مطمئناً، فأنا لن أكرر فيه أخطائي.. الوداع يا توفيق.

ثم يمر شريط الفيلم على جهاز التدوير بسرعة هائلة، وها نحن نقطع عشر سنوات في لحظة واحدة وقد نسينا النادري ومجلته وناساً كثيرين، ولم يبق في الدنيا إلا فضيلة وعدنان، وها نحن الثلاثة جالسون في مقهى رصيف بشارع الشانزيليزيه في باريس. فضيلة التي لا يظهر منها إلا وجهها وكفاها جالسة متضايقة "يعني هل يعجبك كثيراً منظر هؤلاء الكفار وهم يمشون شبه عراة؟ الحمد لله على نعمة الإسلام".. وأنا أضحك، وعدنان مظلوم يطالب بأن نقوم لنذهب إلى "سيرك"، غير أن السيرك جاء إلينا، فقد توقفت سيارة مرسيدس أمامنا، حدّ الرصيف، ونزل السائق ذو الثياب الرسمية ففتح الباب الخلفي مع انحناءة وقار وتبجيل، فنزل مخلوق ظريف ما إن رأيته حتى صرخت بأعلى صوتي مبتهجاً: توفيق.

بما لا يزيد عن خمس دقائق (إذ إنه كان على موعد مع مدير البنك الذي في البناية المجاورة) عرض توفيق النادري كل شيء، بمعلومات برقية خاطفة، غني جداً جداً، "بيزنس" في نيويورك ولندن وزيوريخ وباريس وروما.. طائرة.. يخت.. بيوت كثيرة.. "وأنا الآن أحمل الجنسية الأمريكية.. لن يقولوا بعد اليوم توفيق النادري عميل أمريكي، فأنا أمريكي.. ثم رجانا أن نتظره ريثما ينهي اجتماعه مع مدير البنك بخصوص صفقة نفطية ضخمة ثم يعود إلينا ليضع نفسه تحت تصرفنا يوماً كاملاً.. وحين مشى نهضت زوجتي غاضبة:

"إن التقيت بهذا اليهودي ثانية فلا أنت ابن عمي ولا أنا أعرفك"..

فضحكت وقمت.. ومشينا..

"زوجتك امرأة صالحة يا أبا عدنان".

هكذا كان الشيخ حسن يعلّق على الحكاية كلما رويتها له. كان الوقت الطويل والبطيء والمضني كافياً لأن يحكي الإنسان تفاصيل حكاياته عدة مرات، يحكيها لنفسه صامتاً ليستخلص العبر ويهز رأسه أسفاً وغاضباً (ما الفائدة من كلب هذا؟) أو يحكيها لإخوانه هامساً ليسليهم أو لكي "يتروحنوا" حسب تعبير الشيخ حسن. (أي: يستردوا الروح). كان يمسّد شعر لحيته الجميلة ويقول لي مبتسماً:

"أفض علينا من حكايات رحلة الصيف يا أبا عدنان".

وكان كلما حدثته عن رحلة في بلد أوروبي، ومبلغ ما يتمتع به الإنسان هناك من حرية واحترام يحطّ في تعليقاته عند محطة واحدة لا تتغير: "الإسلام هنا والمسلمون هناك يا أبا عدنان".

* لكن هذه الكلمة من كلمات الشيخ محمد عبده.

- ومن أخبرك بأنني لم أقرأ الشيخ محمد عبده وغيره؟ لقد قرأت مئات الكتب وإلا فكيف وصلت إلى هنا؟

* غير أنك كهربائي سيارات.

- وما له كهربائي السيارات؟! أليس بشراً؟!.. الأسئلة الرهيبة التي تدور في ذهنك يا أستاذ الفلسفة تدور في ذهن التاجر والحداد والفلاح والجندي والقاتل والمقتول.. فهؤلاء توجد في رؤوسهم أدمغة أيضاً.. وكما قال صاحبك الفيلسوف ديكارت فإن العقل أحسن الأشياء توزيعاً بين الناس.. سأجيبك قبل أن تسألني: نعم قرأت ديكارت وهيغل وماركس وفلاسفة غربيين كثيرين، أما أخبرتك بأنني كنت أريد أن أعرف الجواب، كنت أقرأ بشغف وجوع ونهم، فبعد أن أنفضح عجز الجميع، صار الإنسان يشعر بأن عليه أن يعتمد على نفسه في البحث عن الجواب الصحيح، وإلا فكيف يحدث كل هذا؟

* أي جواب يا شيخ حسن؟

- جواب السر الرهيب الذي يقض مضاجع كل إنسان.. من أنا؟ وماذا أريد؟ وكيف يجب أن أعمل؟ ولماذا يوجد ظلم؟ وكيف نمحو الجور والفقر؟ وما هو طريق الخلاص؟

* ووجدت الجواب يا شيخ حسن؟

- تعذبت كثيراً حتى وجدته.. الباري عز وجل تفضل عليّ وأعانني فوجدت طريق الخلاص الصحيح..

* وما هو يا شيخ حسن؟

يضحك الشيخ حسن (مما يثير استغراب الجميع) ثم يهمس في أذني:

"بدأت أشك في أن تكون مدرّس فلسفة".

ثم ينصحني بأن أصلّي. كان شعر لحيته الناعم يدغدغ وجنتي وفمه على أذني، وأنا سعيد جداً بذلك، كان يهمس في أذني:

"والعلم بيد الله أن الباري عز وجل شاء أن يعطينا دليلاً آخر على أننا نسير على الطريق الصحيح، فعندما يحرّم علينا عبد الذات الوضوء والصلاة هذا التحريم القمعي الرهيب، إذن فاليهود عرفوا أين مكمن الخطر"..

ثم يعتزل صامتاً ليبدأ عملية "تهريب" الصلاة بلا أية حركة.

أين أنت يا شيخ حسن؟.. تورّم خده بعد أسبوع من معاناة آلام في ضرس العقل، فأخذوه.. "صلاح أبو أيوب راح أيضاً."

لكنهم أخذوه مع وجبة غداء عزرائيل الأسبوعية في يوم الثلاثاء، وهكذا لم يبق إلا أن أحاول إقناع نفسي بأن الحكاية قد انتهت، لكن حادثة مروعة، لا يمكن أن يصدقها العقل، حدثت بشكل مفاجئ ومذهل، جديرة بأن تدوّن هنا باعتبارها "النهاية" التي رسمتها الأقدار الغامضة لحسم الحكاية كلها حسماً قاطعاً.

فماذا حدث الليلة؟

كنت غارقاً في النوم، عندما شعرت بأن ثمة من يركلني بحذائه في خاصرتي.. فتحت عيني فإذا هو الوحش أبو نفخة يريد أن يوقظني. قال:

- قم يا بغل... تعال بسرعة واتبعني.

ما إن مشيت خلفه، وصرنا في الساحة المكشوفة، حتى لاحظت أننا في بداية الفجر.. ما الذي أبقاه يقظاناً حتى الفجر؟!.. وماذا يريد مني هذه المرة؟

وظل يمشي وأنا أمشي خلفه إلى أن وصلنا الباحة الخارجية، التي يسميها المساجين "البرّاني" كل ذلك دون أن يلتفت إليّ، وكانت رائحته النتنة التي لا يمكن إخلاؤها عن جسده أو ثيابه ولا بألف حمام، تتماوج مثل ذيل يجري خلفه، ومما زاد من تفسخها ونتانتها أن الرجل مخمور، وأنه "تعطر" بعطر ما، هو حتماً عطر باريسي ولكن تفاعله الكيماوي مع النتانة الأصلية قلبه إلى رائحة تبعث على التقزز والتقيؤ.

وكنا قد وصلنا إلى غرفة مكتبه، ففتح الباب وهو يقول لي:

- أريدك الليلة لمسألة هامة.

* غير التعذيب.

فتوقف ليرسم ابتسامة على وجهه جعلت منخريه أكثر بشاعة من حالتهما الطبيعية، وقال لي:

- لا تعذيب الليلة، بالعكس، حظك من السماء أن وقع اختياري عليك، فأنت ستعيش الآن ساعة لم يحلم بها الحشاشون الذين رأوا الجنة في قلعة صاحب الجبل..

ثم دخل الغرفة وهو يقول، من غير أن يلتفت إلي:

- حظك السعيد وحده هو الذي أعمى بصيرتي فجعلني أختارك أنت دون سواك.

كلكم قوادون حقيرون ولكن المهم أن يكون من أريده قوياً جنسياً، وأنت على ما توحي به ضخامة جثتك أقوى من الثور.. (هكذا أنعم عليّ بترفيعي من رتبة بغل إلى ثور.. كما أنني لاحظت أن غرفة مكتبه، التي أدخلها لأول مرة، كانت في حالة فوضى: جوارير طاولة المكتب مفتوحة، وثمة دفتر كبير فوق الطاولة).

ثم التفت إليّ منذراً متوعداً:

- ويا ويلك إن ثبت العكس.

لم يترك لي فسحة من الوقت لأفكر فأفهم قصده، ما الذي أوصلنا إلى سيرة الجنس؟.. أم أن هذا الوحش المخمور لا يعرف ماذا يقول؟.. ها إنه يترنح وهو يمشي أمامي، فيجتاز باباً في عمق غرفة المكتب مغطى ببساط معلق، حين اجتزته خلفه وجدت أننا أصبحنا في غرفة نومه... و.. و.. لقد جمد الدم في عروقي.. كانت "رفيف" هناك..

كانت جالسة على حافة السرير، متكورة على نفسها بذعر ماحق، تبكي بأنين يمزق القلب شفقة وغضباً ولعنة وقهراً، وكانت تستر جسدها العاري بغطاء الفراش. (مؤكد أنها كانت تتقزز من رائحة ذلك الغطاء، لكن هل هذا وقت التقزز؟).

وكان في الغرفة أيضاً مائدة عليها بقايا طعام، وزجاجة عرق فارغة، ورائحة كريهة، وصورة عبد الذات المعلقة على الجدار بصفته سيد العهد، كان عبد الذات في الصورة يبتسم راضياً.

وكان في الغرفة ذبالة شمعة.

إذن فهذا الحيوان البشع كان قد أعدّ الترتيبات لليلة حرام كاملة الأوصاف؟

رفعت نظري إليه وسألته:

* ما هو المطلوب مني؟

لم أسمع منه جواباً، كان يتنفس بشخير مثل شخير ثور هائج تفوح من أنفاسه الكريهة رائحة كحول رديء، وكانت عيناه الحمراوان تترنحان بين النعاس وبين الغضب، ولاحظت أن زاوية فمه اليسرى متهدلة، مع ارتجاف في الشفة السفلى. كان الحيوان يحاول أن يوقفه بأن يظل يفرك شفته بيده... فرأيت أن آخذه بالملاينة، فقلت له ملاطفاً:

* أرى أنك قد أعددت كل شيء على أحسن ترتيب.

فسمعته يقول بصوته الشخيري الذي يخرج من منخريه:

- لكن ما الفائدة؟!.. لقد فشلت معها.

قال ذلك وهو منهار تماماً، غير أنه فاجأني بأن انتقل فوراً إلى حالة من الهياج الغاضب وأمرني:

- انظر إليها.. هل يمكن للإنسان أن يقع على مثل هذا الجمال؟.. إنها السجينة الوحيدة التي استأثرت بها لنفسي، وحرّمت على أي كان أن يقترب منها.. وإنني مصيب بهذا الاختيار.. فعندما جردتها من كل ثيابها كدت أجن.. مستحيل أن يرى الإنسان مثل هذا الجسد الرائع..

ثم سكت..

سألته:

* وبعد ذلك؟

فقال وهو ينفض يديه، وشفته السفلى تزداد ارتجافاً وتهدلاً:

- بعد ذلك لا شيء.. كل هذا التعب ضاع سدى..

* يعني.. هي رفضتك؟

فقال محتداً:

- فشرت.. من هي حتى ترفضني؟.. لم تخلق بعد العاهرة التي تجرؤ على أن تقول لي: لا..

* إذن ماذا حدث؟

كانت الفتاة المسكينة ما تزال تنشج بالبكاء، وتئن أنيناً يذيب مشاعر جدران السجن ذاتها، إذ إن هذه الجدران فيها إحساس وعاطفة وشفقة أكثر من هذا الوحش..

* إنك لم تخبرني.. ماذا حدث؟

- أنا الذي.. أنا الذي عجزت.. كل هذا الجمال وأنا لم أتهيج..

ثم انهار وجلس على الأرض.

- أنا إنسان منخور.. أنا.. ثبت لي الليلة أنني عاجز.. منخور تماماً، تفو.. (أيكون هو الذي سمّى نفسه: أسعد منخورة؟!.. أم أن الأسماء تنزل من السماء؟).

وبصق على الأرض.. ومرت فترة صمت ثقيلة.. قلت ببرود:

* حسناً.. وأنا ما هي علاقتي بالموضوع؟.. ما هو المطلوب مني؟

قال بعينيه المحتقنتين:

- كل هذا ولم تفهم بعد يا حمار؟.. أريد أن تكون بديلي.. اشف غليلي.. أريد أن أسمع تأوهاتها وهي تتوجع تحت فحل..

أعوذ بالله.. فوراً رأيت الصورة التالية:

سأموت تمزيقاً تحت السياط لأنني رفضت، رحمة الله عليك يا محمد وضاح الجبين، فأنا أيضاً أبوها.. وهنيئاً لك يا محمد وضاح الجبين فقد أراحك الموت مما يعانيه كل الآباء بعدك في عهد عبد الذات..

وسمعنا أصوات طائرات هليكوبتر في السماء.. كانت تقترب.. تقترب.. فقلت:

* مؤكد أنها حطت فوق سطح السجن.

فقفز الوحش البشع مضطرباً وهو يتساءل: ما هذا؟.. ماذا حدث؟

وذهب إلى الجحيم لأنني لم أره بعد ذلك أبداً، بل إنني لم أر شيئاً مما حدث في السجن بعد ذلك، وإنما كنت أسمع أصواتاً فقط، كنت مشلولاً تماماً كنت مضروباً على البصلة السيسائية في مؤخرة رأسي.. كانت أصوات طلقات الرصاص، وأصوات الاستغاثات وصراخ المساجين المستنجدين الذين تحصدهم البنادق الرشاشة حصداً وهم لم يفيقوا من نومهم بعد، كان كل ذلك شيئاً مثل الكذب، شيئاً لا يحتمله عقل، ففي سرعة صاعقة تحول حوالي ألف وسبعمائة إنسان إلى أكوام من الجثث الغارقة في دمائها.. أحمد ومروان وعبد الرزاق وصالح وحسين وأسعد وعبد الرحمن وعبد العزيز وأديب ومحمد ومائة محمد وأخوك وأخي وأبوك وأبي كلهم، في لحظة غدر واحدة تحولوا من حياة نابضة ومشاعر وأفكار وآمال وأحلام وحب وعشق وصلاة وحنين، تحولوا إلى كتل لحمية هامدة كانت تقابل الرصاص بلا شيء إلا أصوات الاستغاثة التي شقت عنان السماء، لكنها رغم ذلك لم تصل إلى قلوب البشر.

وأنا، حين أفقت من ذعري الذي ربط لساني، التفتُّ إلى الفتاة المسكينة وقلت لها:

* ارتدي ثيابك يا ابنتي.. لا تخافي.. اطمئني إليَّ فأنا بمثابة أبيك.. سأنتظرك في غرفة مكتب ذلك الوحش..

كانت الغرفة فارغة، فالوحش الآن مشغول بمتابعة شؤون المذبحة الجماعية الرهيبة، بل إن الجميع مشغولون بذبح الجميع، والباب الكبير مفتوح وهو لا يبعد عنا أكثر من بضعة أمتار، والفوضى ضاربة أطنابها، وأنا أنادي الفتاة:

"عجلي يا ابنتي.. فأمامنا فرصة فريدة للهرب".

وأفتح الدفتر الكبير فأقرأ أسماء المساجين وكتابات "قُتل أثناء محاولة الهرب" وأقرأ اسم الشيخ حسن والدكتور أكرم وصلاح الذي كتبوا إلى جانب اسمه "حوكم وثبتت إدانته وأعدم"، وأفتح المجرور فأجد نقوداً فآخذها، وأرى ثياباً عسكرية معلقة على شماعة فأرتديها بسرعة عجيبة، وأطوي ثيابي في صرة تحت إبطي، ثم أمسك بيد رفيف ونمضي ونغادر السجن.. كان ثمة جرافات تحمّل جثث الشهداء بسيارات الأزبال..

تمت