كانوا همجــاً (5)

عبد الودود يوسف

روايات إسلامية

كانوا همجاً (5)

قصة طويلة

عبد الودود يوسف

الهمج أنانيون..

رأى الناس إنكليزيا متخما يقول لملك جالس على عرشه: مولاي الملك.. لقد احتكرنا جميع بضائع الهند وأفريقيا.. إننا ننقلها إلى العالم كله لنبيعها بعشرات أضعاف ثمنها.. لينعم التاج البريطاني بالرفاه.. ضحك الملك وقال: وماذا يقول الهنود عنا والأفريقيون؟! همس المتخم: إنهم يكرهوننا.. إنهم لا يجدون الطعام يا مولاي.. فهم ضعفاء.. لن يقووا على مقاومتنا.. قهقه الملك وصرخ: عظيم.. عظيم.. الرفاه لشعوب بريطانيا العظمى.. وللشعوب الأخرى الموت.. إنها لا تستحق الحياة..

ظهرت على التلفاز صور القرى الهندية: الناس يزرعون طوال العام.. وعندما يصبح المحصول جاهزا نرى الجنود البريطانيين يحملون كل شيء.. ولا يتركون للهنود شيئا.. وأجسام الهنود هزيلة، وبيوتهم فقيرة.. وثيابهم أسمال.

وكذلك نرى صور القرى الأفريقية.. والأندونيسية.. نرى العمال يموتون من الجوع، بينما يرصف الإنكليز والهولنديون والفرنسيون شوارعهم بالمطاط، ويفرشون قاعاتهم بسبائك الفضة..

نرى بعد ذلك قاعة ضخمة فيها روسي وأمريكي وإنكليزي وفرنسي وألماني.. يتناقشون، وقف الألماني وقال: أريد مناطق أستغلها.. أريد مستعمرات.. وإلا أعلنت عليكم الحرب.. فأجابه الروسي: إن إنكلترا وفرنسا لديها مستعمرات واسعة، أما مستعمراتنا فمحدودة.. خذ منهم ما تريد.. صرخ الإنكليزي والفرنسي: لا.. لا.. إننا بحاجة إلى كل قرش يأتينا من مستعمراتنا لن نعطي ألمانيا منها شيئا..

ثم ظهرت الانفجارات الرهيبة، وسقط ملايين القتلى، ودمرت ألوف القرى والمدن.. وسقطت ألمانيا صريعة..

ثم برزت أمريكا وبيدها صاروخ ذري، وروسيا وبيدها صاروخ ذري آخر.. وكل منهما تقول: العالم لي..

لكن العالم أعلن الثورة في كل مكان على الاستعمار... فاتجهت الدولتان وخاضتا معارك ضارية ضد الشعوب.. وضد بعضهما البعض.. وأخيرا قالتا معا: لماذا لا نتفق!!. إن اختلافنا يؤدي إلى يقظة الشعوب.. وتفلتها من بين أيدينا... تعالوا نتفق..

ثم نرى زعيم روسيا مع زعيم أمريكا في غرفة مغلقة.. وأمامهما خريطة العالم يتقاسمان النفوذ فيه.. ويسحقون الشعوب في كل مكان..

ظهر المذيع وصاح: يا ويلهم إنهم كانوا يعملون ضد الإنسان.. ضد الفقراء.. وضد شعوبهم نفسها.. لقد كرهت الشعوب بعضها بعضا وتفرقت، وقامت بينها المجازر.. حتى أنقذ الله الأرض... فقامت فيها الخلافة الراشدة.. فحولت الدول إلى دولة واحدة.. وألغت الأحقاد وزرعت الأخوّة... وأنهت الحروب وحولت الدنيا إلى سلام فعم العدل.. وزال الظلم.. ونعم الإنسان بالحرية في كل مكان.. فهل في دنيا المبادئ خير من الإسلام؟!!!

*   *   *

دين الزوايا المعزولة

رن الهاتف ثم ظهر على الشاشة مواطن يقول: ماذا جرى في لجان الباحثين التي أمر بها أمير المؤمنين لتدرس أحوال غير المسلمين ولتتعرف على عاداتهم وأخلاقهم؟!...

أجاب المذيع: لقد سبقني الأخ.. لقد انتهت الدراسات، وسوف نعرض عليكم النتائج بالتدريج...

ظهر رئيس مؤتمرات الباحثين، وقال: إن أول دين درسناه على ظهر الأرض هو دين "الزوايا المعزولة" الذي ينتشر أنصاره في الهند، لن أتعرض لتفاصيل ما في هذا الدين، بل سأترك لزعمائه أن يصفوه، حتى لا أمارس عليهم أي ضغط ولو كان دون قصد مني..

ظهر رجل ضخم الجثة، كبير البطن، يضع على رأسه عمامة هائلة، لحيته طويلة مشعثة، وشكله ذابل كله.. وعيناه زائغتان، ورأسه محني، وفي وجهه شحوب وغربة، وثيابه فيها تمزقات وأوساخ...

همس: أنا من دين الزوايا المعزولة الهندية، إن ديني الذي أعتز به يدعو إلى ما يلي:

الحياة كلها شر، والمؤمن يجب أن يبتعد عن الشر، فلذلك يجب أن يبتعد عن الحياة، لذلك كان ديننا الهندي كله محصورا في الزوايا....

وكل الأحياء في ديننا مقدسون.. ولا يجوز أن نؤذيهم.. لأن إيذاءهم شر.. ونحن لا نريد الشر.. لذلك لا يجوز في ديننا قتل أية دابة أو حيوان.. ولو كان عقربا، أو حية، أو حشرة، أو فأرة... ففيهم كما في غيرهم قد تجسدت الحياة... والحياة مقدسة.. لذلك لا نؤذيهم ولا نطاردهم...

والماء عدو الجسد.. حبيب الأرض... لذلك فنحن نسفحه، ولا نستعمله.. فمنه ينبع الخير من الأرض... وهو الذي ينمي الشر في الجسد.. وأخيرا قال: أنا أشكر حكومتنا الرشيدة التي أتاحت لي أن أشرح لكم ما يقوم عليه ديني... دين "الزوايا المعزولة" الهندية..

سأله المذيع: ومن أين تأكلون إن كنتم لا تعملون؟!...

أجابه: الطعام يقوي الشر في أجسامنا... لذلك فنحن لا نأخذ إلا القليل القليل... وهذا القليل نجمعه من الناس بالتسول، فالسؤال في ديننا فرض عظيم.. لأننا حين ننقص ما في أيدي الناس من أموال، فإننا ننقص من بين أيديهم الشر. لذلك فإننا جميعا نعمل في الشحاذة والتسول...

وماذا تعملون في الزوايا؟!.. أجابه: نقترب إلى إلهنا.. فسأله: وماذا تقولون؟!.. أجابه: نقول: بصل... بصل... بصل... لأن من قال بصل... بصل... بصل فقد وصل...

قال المذيع: حسنا... هل تتكرمون أن نزور حيا من أحيائكم... أجابه: بكل سرور.. تفضل..

تعرض أمام الناس مدينة ملتوية الشوارع.. مملوءة بالأوساخ... تسرح فيها الكلاب والجرذان.. وتنتشر فيها جيف الحمير والبغال... ندخل أحد الشوارع فنرى الجدران وسخة، غير منتظمة، والذباب يملأ الجو والروائح الكريهة منتشرة.. نرى رجلا يأكل مع أحد الكلاب من مزبلة.. الجميع وسخون، ثم ندخل زاوية فنجد عشرات الرجال نائمين... وبعضهم يصرخ بصل... بصل... الزواية مظلمة... والروائح والقذارة منتشرة في كل الأرجاء...

فجأة ظهر مواطن على الشاشة وسأل: أرجوكم لماذا لا تتخذ الدولة إجراءات مناسبة لحماية هؤلاء من الوساخة والأمراض... وتنظيم مدنهم.. وتنوير زواياهم؟!! أجاب رئيس الطائفة بنزق: لا.. لا.. إننا لا نريد ذلك.. إننا نرفض أن تتدخل الدولة في شؤوننا... إننا نؤمن بديننا إيمانا عظيما...

سأله المذيع: هل تتكرمون بإخبارنا.. هل ينقص عدد أبناء دينكم أم يزيدون؟!.. أجابه: إنهم يزيدون... يزيدون...

سأل المذيع: هل عندكم إحصاء حول عددهم..؟!.. أجابه: لا... لا... ظهر مدير الإحصاء وقال: إن أبناء هذه الطائفة الهندية ينقصون بسبب كثرة الوفيات بين صفوفهم نتيجة الأمراض والقذارة... وقلة التغذية... وقلة استعمال الماء...

همس المذيع: قل لنا لو تكرمت هل يلتزم أبناء الطائفة بدينهم...

أجابه بنزق: إن مجموعة كبيرة من أبنائنا تستعمل الماء.. وتأكل الطعام بشره.. وهذا من فسقهم وضلالهم.. ثم إنهم لا يحضرون إلى الزوايا إلا نادرا.. ولا يعملون متسولين... إنهم يعملون في الزراعة والتجارة.. يا ويلهم من غضب إلهنا المنتقم..؟!..

ظهر أمير المؤمنين وقال: إن عدد طائفة أبناء الزوايا المعزولة الهندية خمسة ملايين.. إننا في حيرة من أمرهم.. كلهم عالة على الأمة، لا يعملون... وأوطانهم بؤرة تنتشر منها الأمراض والحشرات إلى كل الأرض.. رغم كل ما نتخذه من احتياطات... ويكلفنا ذلك الجهود المضنية، والأموال الطائلة...

ظهر مواطن وقال: إن السكوت عن هؤلاء، يفسد علينا حياتنا...

وقال آخر: أرى أن نفرض عليهم النظافة. وتنظيم المدن، ومكافحة الحشرات والدواب المؤذية... وليبقوا على دينهم...

ظهر مواطن ثالث وقال: أرى أن توسع ثقافتهم، ويؤخذون إلى أرجاء الدنيا لينظروا ما فيها من خير وسعادة... عساهم يرجعون عن معتقداتهم السخيفة...

قال أمير المؤمنين: لا.. لا.. لن نتدخل في شؤونهم... لكننا سنجري استفتاءات بينهم... ونأخذ برأي المجموع...

ظهر مدير الاستفتاء وقال: أجهزتنا حاضرة يا أمير المؤمنين.. ونرى أن يكون أول سؤال يطرح عليهم.. هو هل تريدون أن تزوروا العالم وتشاهدوا ما فيه؟

وبعد استفتاء دام ساعة وافق نصف أبناء طائفة »الزوايا المعزولة« على أن يزوروا العالم على نفقة دولة الخلافة الراشدة...

قال لهم أمير المؤمنين: حسنا نحن نرحب بكم.. لكنكم تعلمون أن الناس تؤذيهم القذارة، فهل أنتم على استعداد لتجديد ثيابكم وحلق شعوركم، وتنظيف أجسامكم وفي كل أسبوع مرتين على الأقل...

رفض ربع الذين وافقوا سابقا... ووافق الباقون... فأسرعت إليهم سيارات ضخمة مريحة، واصطحبتهم إلى الحمامات.. وأهدتهم ثيابا جديدة.. وعينت لكل ثلاثة منهم مرشدا... وراحت تنقلهم من مكان إلى مكان...

رأوا الناس يبنون المعامل، ويعملون في المزارع، كما رأوا المعامل تدور وتنتج كل شيء.. ثم أدخلهم المرشدون إلى مشافي العجزة... سمعوا العجزة يقولون: يا ليتنا نكون شبابا لنبني وطننا ولا نكون عالة على أمتنا... فخفض أبناء ديانة "الزوايا المعزولة" الهندية رؤوسهم حياء من تعاليم ديانتهم.. وبعد مضي شهر كامل... أعادهم المرشدون فورا إلى زواياهم ومدنهم التي كانوا فيها... فتقززت نفوسهم من وساختها وسوء تنظيمها وروائحها الكريهة.. فطالبوا جميعا أن يغادروها ليعملوا في مدن العالم الأخرى... لكن المرشدين قالوا لهم: لا... لا... يجب أن تطيعوا دينكم... ويجب أن تحافظوا على وساختكم وزواياكم المنتنة، وكسلكم الذي يأمركم به دينكم... فقالوا جميعا: ديننا كذب كله... نريد أن نتركه... ودخلوا كلهم في الإسلام... فردمت الدولة قراهم وأحرقتها وعقمت أرضها... وبنت لهم مدنا جديدة... كمدن المسلمين في أنحاء الأرض...

أما الباقون فقد تركت أبنائهم وإخوانهم الذين دخلوا منهم في الإسلام لينصحوهم كي يتركوا ما هم فيه من عذاب ووساخة وكسل...

ظهر المذيع وقال: نسأل الله أن يهدي هؤلاء مثل إخوانهم...

*   *   *

دين الخصيان العزبان

قال المذيع:

أما الآن... فلنستعرض دينا آخر اسمه "دين الخصيان العزبان"...

ظهر زعيمه مقطب الجبين أحمر الوجنات ليس في وجهه شعره واحدة، قال: إن أهم ما في ديني أنه يعتبر المرأة شيطاناً، ويعتبر الحياة الدنيا شراً كلها... ويعتبر الإنسان مؤلفاً من جسم وروح، أما الجسم فشرير، وأما الروح فخيِّرة... لذلك يجب قتل الجسد حتى تخلص الروح.. لذلك نحن لا نتزوج.. ونشرب الخمرة بكثرة.. لأنها بنت الروح.. أما الحشيش والأفيون فهما طعامنا اليومي.. إنهما خبز الحياة الخالدة...

سأله المذيع: كيف تتعاملون مع المرأة.. فأجابه: إنها لعنة الأرض، نمقتها.. ونبتعد عنها.. ولا يخلصها من لعنتها إلا لجؤوها إلى المعابد... تختلي فيها للرب... وتهجر الدنيا الجسدية...

سأله: هل للنساء معابد خاصة بهن؟!...

أجابه بسرعة: لا... لا... كيف؟! إنهن يعملن تحت إشراف الرجال... إنهن لا يحسن العمل بمفردهن...

سأله: وهكذا فالرجال والنساء في معبد واحد... أليس كذلك؟...

أجابه: طبعا... طبعا... وعلى الدوام...

سأله: هل ينقص شعبكم أم يزيد؟!

أجابه: عفوا... أنا لا أهتم بهذه الأمور الدنيوية المنحطة...

ظهر مدير الإحصاءات وقال: إن شعب "الخصيان العزبان" يزيد...

سأل المذيع: وكيف يزيد والديانة تأمر بعدم الزواج...؟!...

أجابه: إن نسبة الزواج كاملة في هذا الشعب... فليس هناك رجل لا يتزوج... ولا امرأة لا تتزوج... حتى في معابدهم... فإنهم يتزوجون بشكل يناسبهم...

سأل المذيع: أتوقع أن تكون بعض الأمراض النفسية العجيبة، منتشرة في هذا الشعب..

أجاب رئيس الطائفة: في الحق أن أتباعنا لا يطبقون دينهم... فهم يحبون المرأة، ويقدسونها... والمرأة مخلوق لطيف.. والناس يحبون الأولاد... وهم لا ينفذون تعذيب الجسد لتخليص الروح.. كما كان يفعل أسلافنا.. كانوا يتركون المدن... ويعيشون في الخلوات... ويخصون أنفسهم، يعيش أحدهم شهرا على كسرة خبز...

ظهر رئيس أطباء العلاج النفسي وقال: إن مرض "نكد الحياة" النفسي منتشر فقط في هذه الطائفة، ترى ضمائرهم معذبة لأنهم يخالفون دينهم.. وهم لا يستطيعون إلا أن يخالفوه.. لأنه مخالف للفطرة والحياة... وعندنا الآن مريض منهم.. إن شئتم أن تروه فتفضلوا..

ظهر رجل مستلق على سرير.. تجلس إلى جانبه زوجه وأولاده... ينظر إليهم بقلق ويصرخ: اذهبوا عني... لا أريد أن أراكم... أنتم رجس... وعندما ذهبوا راح يبكي ويقول: أين أنتم يا أحبابي يا أولادي... أين أنت يا زوجي الحبيب...

اقترب منه الطبيب وقال له: هل تحب زوجك وأولادك؟!... فأجابه: أحبهم جدا... لكنني أشعر بالعذاب لأنني أحبهم... ديننا يحرم الزواج وإنجاب الأطفال...

سأله الطبيب: لكن ديننا الإسلامي يأمر بالزواج... ومحبة الأولاد...

بكى المريض وقال: يا ليتني كنت على دينكم؟!...

فسأله: وماذا يمنعك... إن شفاءك لا يتم إلا إذا استرحت من عذاب ضميرك...

أجابه: هذا هو الحل... أشهدك أني قد أسلمت... فرح الطبيب وأخذ المريض إلى الحمام.. فلما خرج... قال له: إن الإسلام يأمرك أن تكون زوجا... إن نفذت ذلك جعل الله لك حسنات وحسنات...

تهلل وجه المريض وقال: الحمد لله... الحمد لله.. أين زوجي... أين أولادي؟ فأحضروهم له، فرحب بهم... والفرح يملؤه...

أفرد له المشفى جناحا خاصا مع زوجه وأولاده ليعيشوا حياة مشتركة طبيعية حتى يتم شفاؤه...

سأل المذيع رئيس الطائفة: إن عدم الزواج يعني انقراض الناس... فهل يأمر دينكم أن تزول الحياة؟!..

لم يجب رئيس الطائفة وإنما أطرق رأسه...

قال المذيع: الحياة ليست شرا... والجسد واسطة الخير لمن شاء... ألا ترى الرجل يبذل دمه فداء دينه.. والخلود في الجنة يكون بتسخير الجسد للعمل الصالح... وليس بتعذيب الجسد...

ظهر أمير المؤمنين وقال: إننا نطالب شعب "الخصيان العزبان" أن يتمسكوا بدينهم.. وسوف ننفذ فيهم العقوبات المنصوص عليها في دينهم لمن خالف أوامره...

رنت التليفونات، وظهر عدد كبير من شعب الخصيان العزبان...

قالوا: نحن لا نستطيع تطبيق ديننا.. إنه لا يطبق... لا يصلح للتطبيق...

أجاب أمير المؤمنين بحزم: لكن دينكم ينص على قتل كل من يتزوج... ونحن حرصا منا على دينكم سننفذ كل قوانينه عليكم...

صاح مواطن: أنا أعلن أنني قد تركت ديني ودخلتُ في الإسلام...

أجاب أمير المؤمنين: حسنا أصبحت تستطيع الاحتفاظ بأسرتك وأولادك...

وراح أبناء طائفة الخصيان العزبان يدخلون في الإسلام....

وبقى بعضهم متمسكا بدينه... فبنت لهم الدولة المعابد... وهيأت لهم كل ظروف العبادة... ومنحتهم كل شروط الحياة الكريمة... وأشرفت الطبيبات على نسائهم في المعابد ليتأكدن أنهن سيبقين طاهرات.. حتى تطبق الدولة الحدود على من تخالف منهن دينها وتتزوج سراً...

*   *   *

المرأة... ما أتعسها؟!

ظهر المذيع وقال: قبل أن ننتقل إلى دين المشاعيين ودين الفرديين، ودين البشريين، أحب أن أعرض عليكم فيلما عن المرأة في الهمجيات السابقة... تعالوا لنرى...

نرى ثلاثة من الرجال يسكرون... يقول أحدهم: إن زوجة جاري جميلة.. أحببتها لكنها تقية.. لا تكلمني... أكاد أجن حبا بها... فماذا أفعل؟!...

أجاب أحد صديقيه: اقتل زوجها..

قال الثالث: ألا نستطيع أن نبتكر طريقة نصل فيها إلى كل النساء... دون أن نذهب إلى السجون بعد أن يقتل بعضنا بعضا...

أجاب الثاني: والله إن هذه فكرة رائعة... لكن كيف ننفذها؟!..

قال الأول: كم أتمنى أن أرى نساء الأمة كلهن يخطرن أمامي دون ثياب... لأختار أجمل امرأة فيهن وأسهر معها متى أشاء.. وتكون هي مسرورة بذلك فيكف نصل إلى ذلك؟!..

قال الثالث: كم أتمنى أن يخالطنا النساء في العمل... والشارع، وليس في الحفلات فقط.. لنتلذذ بهن... ما رأيكم... هل تتحقق أحلامنا..!.

أجاب الأول: عندي فكرة... أنا صحفي... أنادي في صحيفتي بنظرية فلسفية جديدة.. أقول فيها: النساء يجب أن يتمتعن بالحرية.. يجب أن لا يكن ملكا للزوج الظالم... لينطلقن إلى الدنيا كما يهوين...

وقال الثاني: وتقول لهن أيضا... لماذا لا تعمل المرأة... لماذا لا تحمل عبء الاقتصاد مع الرجل...

وقال الثالث: فإذا سمع النساء صيحاتنا العلمية... قلنا لهن: ما هذه الهمجية... في لباسكن... تعطرن...وتزين.. وتعالين إلينا.. ما هذه الهمجية..؟!...

وقال الأول: وأقوم أنا بنشر صور النساء العاريات على أنهن فقط المحترمات المؤدبات.

وقال الثالث: إنها خطة ماكرة...

وقال الأول: وننتقل بعد ذلك إلى حرية المرأة في اختيار خطيبها.. وتجربة الحياة معه.. حتى تكون حياتهما المستقبلية حياة سعيدة... كل شيء يحتاج إلى تجربة...

قال الثاني: رائع.. رائع... وبالتالي فإن أي شاب تعجبه أي امرأة.. يدعي أنه يريد أن يتزوجها... وتبدأ التجربة... فيأخذ منها ما يريد؟... ثم... قاطعه الثالث: ثم... يقول إن التجربة لم تنجح... لم ينسجم معها...

قهقه الثلاثة معا.... وعبوا من كؤوس الخمر.. وقالوا: تحيا النظرية الجديدة...

قال الأول: ماذا نسميها في رأيكم؟!..

قال الثاني: أقول لكم سمها: النظرية الفلسفية العلمية عن المرأة المتحررة الكاملة...

صفق الثلاثة.. وعبوا من كؤوس الخمر مرة أخرى...

قال الثالث: عندها ستصبح نساء الأمة كلها لنا... سنختار من نريد ونجرب من نريد... سأبقى خاطبا مجربا طوال حياتي...

قال الأول: إياك أن تقترب ممن أجربهن... سأذبحك...

قال الثالث: النساء كثير... فلا تختصموا...

عانق الثلاثة بعضهم بعضا وتفرقوا وهم يقولون: هيا إلى العمل.. هيا.. هيا...

نرى الصحف تصدر بعناوين بارزة.. يا نساء الأرض... تحررن من قيودكن.. والنساء يقرأن.. يتساءلن: وما قيودنا؟!. يقرأن في صحيفة أخرى.. قيودكن الحياء والثياب المحتشمة... وسيطرة رجل واحد هو الزوج..

يقلن: الرجال يطعموننا... فمن أين نأتي بالطعام إن أردنا التحرر من الأزواج؟!..

يجيب فيلسوف الحركة النسائية: انزلن للعمل... هيا إلى المعامل.. هيا إلى المكاتب.. فورا نجد ألوف النساء يحرقن ملابسهن المحتشمة.. ويخرجن من البيوت متزينات... وأزواجهن وآباؤهن يصرخن: يا ويلكن... إنها خدعة.... خدعة....

نرى ثلاثة من النساء يسرن؛ واحدة صبية جميلة، وثانية صبية قبيحة، وثالثة عجوز!.... يدخلن معملا.. يقفن عند بوابة الاستعلامات.. يقول لهن الموظف: أهلا بكن.. ماذا تردن؟! ويحوم حول الصبية الجميلة يتأملها بشغف... يقلن: نريد عملا... يقول لهن: حسنا.. أهلا بكن... سأدخلكن إلى غرفة المدير فورا... يدخل الصبية الجميلة إلى غرفة المدير... يستقبلها المدير بالترحاب... ويقول لها: هل ترضين أن تكوني سكرتيرتي... تجيبه: أنا؟!.. هذا يشرفني يا سيدي.. يقول لها: لكن بشرط أن تكوني متحررة.؟!. فتقول له: أرجوك لو لم أكن متحررة لما أتيت إلى هنا.. ينظر إلى الموظف ويقول له: اذهب إلى عملك.. ثم يجلس معها ويقول: إنني أشكو العزوبية... وأنا أبحث عن زوجة تعينني فلم أجد حتى الآن تلك الزوجة العظيمة... جربت الكثير من النساء... لكن أيا منهن لم تملأ نفسي وقلبي وعقلي...

تقاطعه: لكنك لم تجربني... لم تجربني... جربني وسأكون عند حسن ظنك.. يقف في وضع المفكر المتأمل ويقول: حسنا... حسنا... سنفعل... أرجو أن تصبحي... بعد التجربة الطويلة.. زوجي الحبيبة... ولك كل معاملي... وأموالي...

وتمر خمس سنين... ونعود لنرى الصبية قد امتصت... والمدير يعاملها بقسوة.. وهي تتأوه من الألم ومن قسوته.. وبعد فترة.. نجد المدير يطردها وهو يصرخ... هيا اذهبي إلى جهنم... لا عمل لك عندي..

تخرج من المعمل وهي تبكي... لكنها تتزين من جديد... وتذهب إلى معمل آخر... تجد المرأة المسنة التي سبق أن كانت معها خارجة من المعمل صباحا... تقول لها: هل طردوك؟ تجيبها: لا... لا... لكنني أعمل طوال الليل في تنظيف المعمل ومسحه، وقد انتهت الآن فترة عملي... سأذهب كي أستريح...

تدخل إلى المعمل فترى الفتاة الصبية القبيحة تقف خلف آلة لصناعة التريكو... قد هزل جسمها.. وشحب لونها... تقول لها: هل أنت مريضة؟!. فتجيبها: لا... لا... لكن العمل صعب... أعمل عشر ساعات؟! وأحصل على أجر قليل؟! ما أشقى هذه الحياة!!...

يقترب منها رجل طويل أشيب الشعر... فتعود الصبية القبيحة إلى عملها... يتفرس الرجل في الصبية الجميلة... ثم يقول لها... أهلا... أهلا... ماذا تريدين؟!

تجيبه: أريد عملا...

يسألها: عندنا أعمال كثيرة... تفضلي معي... تفضلي... تسير معه وعيون العمال كلهم تنظر إليها بنهم... تدخل مكتبه.. فيقول لها: لماذا لا تعملين سكرتيرة لي؟! فتجيبه... موافقة... بشرط أن لا أذهب معك إلى بيتك... فيظهر دهشته ويقول: عجيب... هل أنت مجربة..؟!... إنني أبحث عن زوجة.... أريد أن أجرب... فتجيبه: لكنني لا أحب أن أجرب.. أحب أن أعمل لأحصل على ما يكفي لنفقاتي... يجيبها: أنت غير متحررة... أنت عقلك جامد... رغم أن مظهرك متحرر.. على كل حال... أنت حرة... هيا... عندي عمل يناسبك... تبتسم وتسأله: وما هو؟!... يقول: طاهية لطعام العمال... ما رأيك؟!... تجيبه: حسنا قبلت...

تعمل في طبخ الطعام... وتختلط مع العمال... فهذا يغازلها... وذاك يدعوها إلى بيته... وذاك يقذفها بالكلام البذيء... وذاك يأتيها وهو سكران... ليغتصب منها ما يريد...

كانت المسكينة تبكي... وتقول: ما هذا الشقاء... لا زوج... ولا طفل... ولا راحة... ما هذه الحياة: أصبحت مرحاضا لشهوات الرجال... وتسلية لهم...

أصبح عمرها خمسين عاما... نرى صاحب المعمل يطردها... فتذهب إلى معامل أخرى فتطردها كلها...

وأخيرا تذهب إلى البلدية.. فتعينها كناسة في شوارع العاصمة... تبدأ العمل عند الساعة العاشرة مساء... وتنتهي عند السادسة صباحا... نراها تسير مع عربتها تكنس الشوارع.. والثلج يتساقط عليها... والتعب يهدها هدا...

وأخيراً يصبح عمرها ستين سنة... إنها لا تستطيع العمل... فتجلس في زاوية من زوايا المدينة... تمد يدها إلى الناس تسألهم الصدقة... تنهمر عليها الأمطار والثلوج...

فتموت في مكانها... وتأخذها سيارة إسعاف إلى أحد المشافي... ثم تنتقل إلى كلية الطب ليتعلم الطلبة بجثتها علم التشريح...

يقول المذيع: يا ويلهم من مجرمين... لقد ذبحوها وهي حية... وسلبوها كرامتها وعرضها... ثم حين ماتت انغرست فيها مباضعهم... إنهم الهمج الظالمون...

قال المذيع: أنتم تعلمون كلكم وضع المرأة في مجتمع الخلافة الراشدة... على كل حال... تعالوا لنرى... تعالوا إلى أعظم حياة... وأنبل حياة تعيشها المرأة..

*   *   *

المرأة المكرمة

نرى طفلة تمشطها أمها... تقول لها: هل حفظت دروسك جيداً يا خولة؟! تجيبها... نعم... نعم... أنا الأولى في صفي... حسنا جهزي نفسك سيأتي والدك الآن... يجب أن يراك نظيفة... ماذا ستقولين له عندما سترينه؟... تقول الطفلة: سأقبل يده... وأقول له: أهلا وسهلا يا بابا... يرن الجرس... فتسرع الطفلة لتفتح الباب... تستقبل والدها الذي يحمل في يده سلة مليئة بالطعام والألعاب.. تتناول منه ما يحمله... وتستقبله زوجه بأدب وحب... ويحمل هو طفلته... يقول لها: هل تحبين أمك أكثر أم تحبينني أنا أكثر؟؟... تجيبه: أحبكما معا يا أبي... لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أستوصي بأمي أكثر منك... يضحك ويقول: وهكذا يجب أن تفعلي يا حبيبتي... تأخذ زوجه عنه ثيابه... وتعطيه ثياب البيت... مكوية نظيفة.. معطرة... ويجلسون للطعام جميعا...

تقول الأم: ابنتنا خولة تحتاج إلى ثياب للعيد، وحذاء.. وقسط المدرسة لم ندفعه بعد.. يجيبها: حسنا.. خذي ما تريدين.. تستمر الأم: يجب أن تستقبل أخاها بعد رجوعه من مصر ناجحا بإذن الله بهيئة حسنة.. ما رأيك؟!.. يجيبها.. أسرعي إذا فقد يأتي همام بعد أيام؟!..

نرى الأب نائما... والطفلة تخيط لعروستها ثوباً.. والأم تخيط لابنتها ثياباً جديدة...

يرن جرس البيت.. تنظر الأم من شاشة الجرس أمامها فترى ابنها هماما، تمتلئ بالفرح.. وتقول: الحمد لله على سلامتك يا بني.. يا خولة.. قومي واستقبلي أخاك هماما.. قد أتى.. لكن إياك أن توقظي والدك.. تفتح الأم الباب لابنها.. فيهجم على يديها يقبلها.. بينما تتعلق به أخته تقبل رأسه.. تقول له أمه: احذر يا بني.. والدك نائم إنه متعب.. فلا تزعجه.. يقول لها: أمرك يا ماما.. لكنني مشتاق إليه.. تجيبه: ستراه.. سترته.. بعد أن يستيقظ..

يدخل حقائبه ويفتح واحدة منها ليخرج منها علبة رائعة الألوان.. يقول: أتدرين لمن هذه؟!.. تقول خولة: إنها لأمي يا همّام.. أليس كذلك؟.. يقترب الابن بحنان إلى أمه قائلاً لها: تفضلي يا ماما.. تقول له: وأين هدية والدك.. فيجيبها: وهل تتصورين أن أنسى أبي؟!.. تقول له: حسناً.. أخرج كل الهدايا.. وضعها على مكتب أبيك.. ولن نفتحها إلا بعد أن يستيقظ.. يلتفت همّام فيرى أخته الصغيرة خولة تبحث عن هديتها.. فيضحك مع والدته.. ويناولها صندوقاً كبيراً ويقول لها: هذه هديتك يا خولة.

يشعر الجميع بمن يقترب منهم.. فيلتفتون.. بينما يسرع همّام ويلقي بنفسه على يد والده ويقول له: أهلاً يا أبي.. كم أنا مشتاق إليك.. يضمه أبوه إلى صدره ويقول له: ها.. لقد أصبحت شاباً والحمد لله..

وتمضي الأيام.. وتصبح خولة صبية.. وهمّام شاباً قوياً.. والأم والأب قد دخلا سن الشيخوخة..

تقول له أمه: أريد أن أزوجك يا بني.. فيجيبها: لا.. حتى تتزوج أختي.. فتقول له خولة: وما دخلك بي أنا.. وهل تخاف عليّ؟؟ يضحك الجميع..

يطرق الباب.. تدخل امرأة تقول: أنا فلانة.. هل تسمحون أن أزوركم.. تستقبلها خولة، تحدّق المرأة بها.. ثم تقول: هل هذه خولة.. ما ألطفك يا ابنتي.. ثم تختلي بأمها وتقول: هل تقبلون ابني زوجاً لابنتك خولة.. إنه صالح.. ومثقف كبير.. وابن رضي.. ونقي.. تجيبها: أهلاً بكم لكن الرأي لخولة سأسألها.. تجيبها المرأة: طبعاً.. طبعاً الرأي لها..

في جلسة لخولة مع أبيها وأمها تجيب: لابد أن أراه.. قبل أن أعطي رأيي..

يقول الأب: هذا حقك يا خولة..

في جلسة ثانية تقول خولة: لا أريده.. ظهر أمامي خائفاً.. وأنا أريد رجلاً..

تقول لها أمها: أحسنت يا خولة..

فجأة يموت الأب.. فتبقى الأم حادّة عليه.. لا تخرج من بيتها مائة وثلاثين يوماً..

لم يكن لهمّام شغل إلا إكرام أمه.. ورعاية أخته.. يتقدم خطيب لخولة..

تقول في جلسة عائلية مع أمها وأخيها: الخطيب ممتاز.. لكنني لا أريد الزواج.. لا أزال حزينة على أبي..

تجيبها أمها: رحم الله أباك يا ابنتي.. لم يطلب منك ربنا أن تمتنعي عن الزواج حزناً على أبيك.. تزوجي وأنا متأكدة أن روح أبيك ستفرح بك.. ويقول أخوها: الأمر لك يا أختي.. فأنا أعتز بك..

تجيب: لن أتزوج حتى أزوجك..

يجيبها: أنا سأتزوج.. لكن عليَّ قبلها أن أجمع مهري.. وما يلزم لبيتي.. وبعدها سأتزوج..

بعدها نجد هماماً مع زوجه يقبلان يد أمه المسنة جداً ويطلبان رضاها.. وخولة وزوجها وأولادهما يقبلون يدها ويطلبون دعاءها.. ويلحون عليها أن تسألهما ما تريد من خدمات أو أشياء.. وتموت الأم.. فيبكي عليها همام وأخته وزوجه وزوجها والأولاد كلهم.. إنها الأم.. جنات الله تحت أقدامها..

يظهر المذيع ويقول: فهل هناك حياة أكرم من هذه الحياة؟!..

.. كم كانوا قبلنا همجاً؟!..

أنا آسف.. لا أريد النقاش!!

يقول المذيع: والآن.. لكنه قبل أن يتم كلمته ظهر على الشاشة رجل وقال: إن كنت تريد أن تدعوني لعرض نظامي.. فأنا آسف..

همس المذيع: إنه رئيس طائفة المشاعيين.. ثم قال: لكن لماذا يا محترم؟!..

أجاب رئيس طائفة المشاعيين: إنكم تمارسون علينا ضغطاً..

همس المذيع بدهشة: أعوذ بالله.. إن الله يقول لا إكراه في الدين. فكيف نمارس عليكم ضغطاً؟!.

على كل حال.. سأترك لرئيس قسم الأديان كي يناقشك..

ظهر رئيس قسم الأديان، عالماً مهيباً.. سمح الوجه.. قال: أسال رئيس طائفة المشاعيين، كيف نمارس عليكم الضغط..؟!..

أجاب رئيس طائفة المشاعيين: إنكم حين تتركوننا نتحدث عن أدياننا.. فإنكم لا تتركونا وشأننا.. بل تناقشون أبناء الطائفة.. ما يؤدي إلى اقتناعهم بترك مبادئهم..

سأله رئيس قسم الأديان: وهل تريد أن تمنع الناس من أن يفكروا بحرية..؟!.. هذا ليس من حقك.. الحرية حق كل إنسان..!!

أجابه: إن من صلب ديني أن أمنع الناس من أن يفكروا بحرية.. لأن الحرية ضد المشاعيين.. إنها لا تناسبنا.. إن نظامنا مبني على أساس إكراه الناس حتى يعملوا بتعاليم نظامنا.. وإذا تركوه ذبحناهم.. لأننا نطبق عليهم الحق.. ويجب أن نجبرهم على تبنيه..

سأله رئيس قسم الأديان: أريد أن أسألك.. كيف انتشر الإسلام ووصل إلى حكم العالم..؟!..

أجابه: انتشر باقتناع الناس دون شك.. لأن الناس إن تركوا أحراراً تبنوا الإسلام.. أما نظام المشاعيين فلا تناسبه الحرية.. إن الذي يناسبه الديكتاتورية.. ديكتاتورية الجماعة..

ظهر فجأة على الشاشة رئيس طائفة الفرديين وقال: وعلى العكس هو ديننا.. إن دين الفرديين قائم على حرية دون حدود.. يفعل الإنسان ما يشاء دون أية ضوابط..

همس رئيس قسم الأديان: حسناً.. تفضلا وتناقشا..

دخل الاثنان غرفة التلفاز وجلسا معاً متقابلين..

صاح رئيس طائفة المشاعيين: أنا وقيادة المشاعيين فقط الذين نتخذ للناس القرارات المناسبة..

وصاح به رئيس طائفة الفرديين: ومن أعطاكم حق اتخاذ القرارات للناس.. دعوا كل إنسان يفكر كما يشاء...

اقترب رئيس قسم الأديان وقال: أرجو أن تتناقشا بهدوء.. أريد أن أسألكما سؤالاً: من الذي يضع القوانين للناس في نظام كل منكما.. صرخ المشاعي: أنا والقيادة نضع القوانين والنظم لطائفتنا.. بينما صرخ الفردي: إننا نترك لكل إنسان أن يفعل ما يشاء..

ابتسم رئيس قسم الأديان: حسناً.. حسناً.. سواء كانت قيادة المشاعيين هي التي تضع النظام.. أم كل فرد لنفسه، أم من يوكلهم هذا الفرد.. أو ينتخبهم فإن الذين يضعون القوانين هم البشر.. أليس كذلك..؟!..

أجاب الاثنان: طبعاً.. نحن من البشر..

سأل رئيس قسم الأديان: هل تعتقدون أن البشر يخطئون.. أم أن كل ما يضعونه من نظم هو صواب لا خطأ فيه؟!.

أجاب الاثنان: وهل هناك إنسان لا يخطئ؟!..

قال رئيس قسم الأديان: حسناً.. إذن قوانينكم فيها خطأ.. أليس كذلك..؟!

أجاب الاثنان: لكننا نصلح قوانيننا على الدوام.. نصدر التعديلات المستمرة.. لتصحيح القوانين الماضية..

تابع رئيس المشاعيين: حتى أن القوانين القديمة تلغي كلها نتيجة ما يحدث عليها من تعديلات..

سأل رئيس قسم الأديان: حسناً.. حسناً.. ولماذا تعدلون..؟!..

أجاب الاثنان: لأننا نكتشف أن القانون فيه خطأ.. فنصلحه..

ابتسم رئيس قسم الأديان وهمس: حسناً.. ولماذا لا تتركون الخطأ دون إصلاح..

أجاب الاثنان: لأن الخطأ في القانون يؤدي إلى وقوع الظلم على الناس..

أجاب المشاعي وحده: تعالَ أضرب لك مثلاً.. عندما طبقنا مشاعية الأسرة أول ما قام نظامنا صرنا نبعد الرجل عن زوجه وأولاده.. فنوظف الرجل في المشرق. وامرأته في المغرب.. وأولاده في الشمال.. فنتج أن الزوج حزن.. والزوجة حزنت.. فكرهنا نظامنا.. فهبط الإنتاج.. وقاما هما بتخريب البلاد عن عمد.. لذلك ألغينا مشاعية الأسرة..

سأل رئيس قسم الأديان: إذن فالنتيجة أن الخطأ في القانون يولد الظلم..

أليس كذلك..؟!..

أجابا معاً: طبعاً.. طبعاً.. لذلك فإننا نغير القوانين..

سأل رئيس قسم الأديان: فالمظالم في الدنيا كلها إذن نابعة من أخطاء القوانين أليس كذلك..؟!

أجاب الاثنان: هذا صحيح..؟!..

سأل رئيس قسم الأديان: والبشر لا يمكن إلا أن يخطئوا أليس كذلك ..؟!..

أجابا معاً: طبعاً.. طبعاً..

تابع رئيس قسم الأديان: فالمظالم إذن نابعة من القوانين البشرية.. صمت الاثنان..

فجأة ظهر رجل وقال: نرجوكم تدخلوا لحمايتنا من دين المشاعيين.. أنا مشاعي بالولادة.. أرجوكم خلصوني..

دخل أمير المؤمنين وقال: لقد كرم الله بني آدم.. وأول ما يؤدي إلى كرامتهم أن يكونوا أحراراً يستعملون عقولهم بحرية.. ويتبعون ما يقتنعون به دون إكراه.. لذلك ترفع كل ديكتاتورية عن أتباع دين المشاعيين. ليختاروا الدين الذي يريدون..

وفوجئت الأمة كلها أن جميع أتباع دين المشاعيين دخلوا في الإسلام دفعة واحدة..

ابتسم الخليفة وهمس: ما أفظع ذلك الدين الذي يتركه أتباعه كلهم في ليلة واحدة حين يُعطَون حريتهم.

أما الفرديون فأقول لهم: لا تتبعوا الأنظمة الخاطئة.. لأنكم تصابون في ظلها بالظلم ولكنكم أحرار في ظل دولة الإسلام.. إلا إذا آذت حريتكم جيرانكم.. عندها تتوقف حريتكم..

الذَهَب وَالتكريم..

عجب الناس كلهم حين اضطربت غرفة التلفاز كلها.. سمع الجميع نداءً: مولاي.. مولاي.. هناك خبر مدهش..

امتلأ وجه أمير المؤمنين بالحزم والقلق.. همس: ماذا يا رئيس دائرة كشف الكون..؟!.. قل.. هل نحن معرضون لكارثة كونية..؟!

أجاب: لا.. لا.. يا أمير المؤمنين..

سأل أمير المؤمنين: حسناً.. قل ما تريد.. أسرع..

أجاب رئيس دائرة كشف الكون: عثرنا على نجم في المجرة الملاصقة لمجرتنا أمره عجيب..

سأله: وما أمره يا أخي؟!

أجابه: إن انعكاسات الأشعة الخاصة بكشف نوع المعادن التي نسلطها على هذا النجم تنبئ أنّه نجم من معدن ثمين..

سأل أمير المؤمنين: كم حجم النجم؟!

أجاب رئيس قسم دائرة كشف الكون: أكبر من أرضنا بألف مليون مرة..

همس أمير المؤمنين: سبحان الله.. أيها الناس.. أيها المؤمنون.. هذا كله لكم.. إن شاء أي فرد منكم أن يمتلك ألوف الأطنان من الذهب فسوف يحصل عليها.. لكني أقول لكم إن ما أعطانا الله من كرامة في ظل الإٍسلام هو أغلى من ذهب الكون كله.. إن المكرمين هم السعداء.. وإن ذهب الكون لا يُسعد إنساناً تعيساً أو مظلوماً.. فالكريم السعيد يحصل على كل شيء.. أما التعيس المسحوق فهمه أن يتخلص من تعاسته..

(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً* الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً)(7).

لقد عاش الناس قبلنا في ظل أنظمة ظالمة همجية..

ما أتعسهم.. وما أشقاهم.. لقد كانوا همجاً..

اسعدوا أنتم في ظل رحمة الله وعدله.. وإياكم أن تعودوا عن دينكم فتتعسوا مرة ثانية كما كان الناس في ظل الجاهليات الهمجية يتعسون..

*   *   *

الهوامش:

(1) وردت لهذا الحديث صيغ كثيرة، لكنها تجتمع كلها على المعاني الواردة في النص الذي نقلناه هنا.

(2) نقلنا بين القوسين من رواية أخرى ذكرت في مجمع الزوائد (ج5-ص189) باب كيف بدأت الإمامة وما تصير إليه الخلافة والملك.

(3) الماعون: 1-3.

(4) 9 – الحجرات.

(5) 9 – الحشر.

(6) 9 – الحجرات.

(7) 75، 76 النساء.

النهاية