ميج وميراج 5

د. خالد الأحمد

ميج وميراج 5

د. خالد الأحمد

ما زال (عبد الناصر) بطلَ الثورة المصرية، وأُريدَ له أن يُصبِحَ بطلاً عربياً، رائداً للقومية العربية التي اتُّخِذَتْ يومَها سِلاحاً فَعَّالاً لإماتة الشعور الإسلامي والرابطة الإسلامية بين المسلمين عامة والعرب خاصة، ومن أجل هذا كان العدوان الثلاثي على مصر، فَجَلْجَلَ صوتُ (جمال عبد الناصر) عالياً في إذاعات العالم العربي كله، يقول وهو يخطب في بورسعيد عند تـأَمَّمَ قناةَ السويس، ولاحَ في الأُفق شبحُ الحرب، يقول:

(لئن استطاع العَدُوُّ أنْ يَفرضَ علينا القتالَ، فلن يستطيع أن يفرض علينا الاستسلام، سَنُقاتل، سَنُقاتل، سَنُقاتل، حتى آخر قطرة من دمائنا).

* * *

احتلَّت القواتُ الإسرائيلية (سَيناء) ونزلت القوات الفرنسية والإنكليزية في بورسعيد واحتلَّتْها، وكادت أن تَصِلَ القاهرة، لولا الإنذارَين الرُّوسي والأمريكي، اللذين أخافا فرنسا وإنكلترا، فلم تُتَابِعا الغَزْو، أما إسرائيل فَقَد احتلَّت (سَيناء) كلَّها، ونزل الجنودُ اليهود حُفاةً يُقَبِّلُون أرض سيناء، وكان (الدجوي) حاكماً لقطاع غزة المحتل عام 1956م وكان غرض اليهود آنذاك هو تهجير الفلسطينيين والمصريين من القطاع، وساعدهم الفريق (الدجوي) في ذلك، وصار يَحُثُّ المصريين والفلسطينيين على مُغَادَرَة القطاع، ثم خَطَب أكثر من مرَّة من الإذاعة الإسرائيلية وَبَيَّن عورات الحكم في مصر، والذي تَصَدَّى له آنـذاك هو قاضي غزة الشيخ محمد مأمون الهضيبي ( مرشد الإخوان المسلمين فيما بعد )، حيث استطاع مع بعض المخلِصين أن يُفْسِدُوا خطةَ اليهود و(الدجوي) في تهجير الفلسطينيين والمصريين من القطاع.

* * *

قلق (آرام) منذ اليوم الأول للحرب عام 1956م، واتصل بالفريق لطفي حبيب كي يجمعه بوزير الدفاع على عجل.

- سيدي الوزير، اليهود خُبَثاء، وسلاحهم الجوي قوي، أما سلاحنا فما زال ناشئاً، لذلك أقترح أن ترحل الطائرات كُلُّها إلى السودان، أو أسوان على الأقل.

- هل يُغامِرُ اليهودُ بمُهاجَمَةِ مطارات الداخل ؟!

- نعم .. طائرة الميراج سريعة، ولا يوجد لدينا ما يُقاوِمُها.

- أرى أن اقتراحه معقولٌ يا سيدي الوزير . قال (لطفي ).

- إذن لِيَكُنْ ذلك على الفور.

وصدرت الأوامر للطيارين أن يُقْلِعُوا بطائراتهم إلى السودان، هَرَباً من طائرات إسرائيل، وبعد أن تأكَّد (آرام) من خُلُوِّ المطارات أعطى إشارتَهُ لإسرائيل، فجاءتِ الطائراتُ الإسرائيلية تنقضّ على المطارات الفارغة، فَدَوَّتْ صفَّاراتُ الإنذار في كل مكان، وَهُرِعَ الناسُ إلى المَلاجئ التي دُرِّبُوا عليها خلال الأسابيع الماضية، ثم راح الطيارون اليهود ينقضّون على الهياكل الكرتونية التي صُفَّتْ في المطارات المصرية للتمويه والخداع، وكانت الطائرات الإسرائيلية تبحث عن هذه الأهداف الكاذبة وتضربها بصواريخها وقذائفها، وكان المتفرِّجون المصريون يضحكون على غباء الطيارين اليهود، الذين لم يتركوا مطاراً في مصر إلاَّ وقذفوه لِيُحَطِّمُوا مَدَارِجَه وَيُدَمِّرُوا طائراته الورقية الكاذبة، ولم يَكْتَفُوا بِغارةٍ واحدة، بل شَنُّوا عدةَ غارات من أجل هذه الأهداف الورقية.

وبعد أن عادت الطائرات الإسرائيلية إلى قواعدها في الأرض المحتلَّة، كانت المكالمات الهاتفية مع (آرام) و(لطفي حبيب) تحمل عبارات المدح والثناء والتندُّر بغباء الطيار اليهودي الذي لا يُمَيِّزُ بين الطائرة الحقيقية والكرتونية.

وهكذا صار (آرام) هو الأبُ الفعلي لسلاح الجو المصري، فلولا اقتراحه الاستراتيجي لَدُمِّرَ سِلاحُ الجَوِّ المصريُّ كُلُّه، ولكنه كما قال المسئولون في مصر: ساقته العناية الربانية لمصر وفي تلك الآونة الحَرِجة لإنقاذها، ولإنقاذ السلاح الجوي خاصة.

أما في الجانب الآخر، فكان الطيارون اليهود يَتَذاكَرُون بينهم أَعظَمَ (بروفة) قاموا بها في حياتهم، تَعَرَّفُوا خلالَها على كلِّ المطارات المصرية، ويضحك أحدُهم وهو يُخاطِبُ الآخرين:

- لقد دَمَّرتُم كُلَّ الطائرات الورقية للمصريين، وقد كُنتُ أرميها بالصاروخ وأنا أعرفُها تماماً، لقد كانت الغاية هي التدريب الفعلي على قواعد العدوّ والتعرّف عليها جيداً.

أما قائد سلاح الجوّ فيقول لنفسه:

- نَفَّذْنا تعليمات الموساد الصارمة التي أَلَحَّتْ علينا أن نقذف الطائرات الورقية كلها، وكأننا لا نعرف أنها ورقية، لماذا يا تُرَى ؟ هم يعرفون، ونحن لا شأن لنا بذلك.

* * *

دخل (لطفي) دار (آرام) وهو يقفز من الفرح .

- مبروك يا (آرام)، يا رفيق الكفاح والنضال، يا سعادة المفتِّش العام لسلاح الجوّ المصري.

- لم أفهم شيئاً، ماذا جرى لك ؟!

- مبروك .

وأخرج (لطفي ) صورة من القرار الموقّع بتوقيع (عبد الناصر) الذي يرقّي العميد (لطفي حبيب) إلى رتبة لواء، ويعيّنه قائداً لسلاح الجوّ المصري، كما يكلّف السيد (آرام نوير) بمهمة مفتش عام لسلاح الجو المصري، كانت عيونه تزيغ بين السطور وهو يقرأ نصراً ما كان يحلم به، وراح يُرَدِّد في سريرته: عاشت إسرائيل من الفرات إلى النيل، سنحرق الأقصى ونبني هيكل سليمان، العالم كلُّه حتى العرب يخدمون قضيتنا ويكافحون من أجل قيام دولتنا ومن أجل نجمة داود، عاش (عبد الناصر) وعاش (لطفي حبيب) وعاشت إسرائيل.

- ارقصْ معي يا سعادة المفتّش العام.

- وهل أنت (سوزي) لأرقص معك.

- من هي (سوزي) ؟

- إحدى صديقاتي الباريسيات.

- ولماذا تخفيها عني حتى الآن ؟

- لمناسبةٍ مثل هذه يا سعادة الجنرال.

- هل تدعوها الآن ؟

- نعم، هي في الطريق إلينا.

- بل إليّ.

- كما تريد.

وأُخرجَتْ زجاجاتُ الخمر ليشربا كؤوس المجد والسؤدد.