( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )

محمد شركي

من المعلوم أن الله عز وجل قد خص المرسلين إلى خلقه بعناية كبرى حيث اصطفاهم من خير خلقه ، وأنشأهم نشأة خاصة تؤهلهم إلى حمل رسالاته  وتبليغها لخلقه وفق مشيئته لئلا يكون للناس عليه سبحانه  وتعالى حجة بعدهم إذا حشروا وسئلوا وحوسبوا بين يديه يوم الدين كما أخبر بذلك جل شأنه إذ قال : (( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) .

وأول عناية إلهية بالمرسلين هي الاصطفاء  أوالاجتباء مصداقا لقوله تعالى : ((  إن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس )) ، وهو اصطفاء يستوي فيه الملائكة الكرام بالرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين  لحمل وتبليغ رسالاته سبحانه وتعالى حيث ينقلها الملائكة الكرام عنه إلى رسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين، وهم يبلغونها للناس .

وإذا كان الله تعالى قد خص الملائكته  الكرام عموما والرسل  منهم خصوصا  بإعداد خاص حيث خلقهم من نور ، فإنه خص المرسلين من البشر بإعداد خاص بهم منذ نفح الروح فيهم وهم أجنة في بطون أمهاتهم ، وساعة مولدهم، وخلال نشأتهم إلى أن يبلغوا سن حمل الرسالات وتبليغها، لهذا تعتبر حياة الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من الأهمية بمكان ، وتستوجب أن يقف عندها الناس لعظمة مكانتهم المرتبطة بعظمة رسالاتهم .

 ولقد قص علينا القرآن الكريم ، وهو الرسالة الخاتمة للعالمين أخبار هؤلاء المرسلين تناول بعضها مواضيع  مولد وصبا وشباب بعضهم لبيان كيفية إعدادهم لحمل الرسالات، وفي ذلك عبرة للناس ، ونذكر من هؤلاء  المرسلين  يوسف، وموسى، وعيسى، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . وفي ذكر الله تعالى  أحوال نشأة هؤلاء المرسلين تنبيه إلى ضرورة التأمل والتدبر في ذلك لمعرفة عنايته بهم تعظيما لشأنهم وتقديرا لقدرهم ومقدارهم العظيم ، وذلك لأنه بعثهم ليكونوا إسوة  وقدوة .

ولقد ذكر الله تعالى أيضا في محكم التنزيل أنه فضل بعض المرسلين على بعض مصداقا لقوله تعالى في معرض الحديث عنهم : (( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس ))  ،ففي هذا النص القرآني بيان تفضيل الرسل بعضهم على بعض، ورفع درجات بعضهم مع الإشارة إلى كليم الله موسى وروحه عيسى عليهما السلام ، علما بأنه سبحانه وتعالى  قد خص كل مرسل  بما يميّزه عن غيره بمعجزات  يفضل بها غيره ، وبرفعة درجة  تكون خاصة به .

ولمّا اقتضت إرادة الله عز وجل أن تختم رسالاته بالرسالة الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،كان ذلك تفضيلا منه جل شأنه له ،ورفعا لدرجته ،فحاز بذلك  درجة سيادة المرسلين ، ومرتبة صاحب الخلق العظيم لأنه كلّف بحمل وتبليغ الرسالة الخاتمة للعالمين إلى وقت حلول يوم الدين ، وقد ذكر ذلك الله عز وجل في قوله : ((  وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) ، وفي هذه الآية دليل على فضل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على كل المرسلين، و على رفع درجته بينهم ،لأن رسالته حملت شريعة للعالمين خلاف ما كانت  عليه الشرائع السابقة التي كانت تخص أمما بعينها ، لهذا امتازت شريعته عليه السلام بمزية تناسب من جهة عمومها، ومن جهة أخرى دوامها إلى قيام الساعة .

ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحمة المرسلة إلى الناس أجمعين، هو وصف في نفس الوقت لرسالته ،علما بأن  الله عز وجل قد جعل رحمته في كل الرسل ورسالاته إلا أن أفضل رحمته خصّ بها الرسول الخاتم والرسالة الخاتمة باعتبار عدد من أرسل إليهم عليه الصلاة والسلام .

 ومعلوم أن لفظة " رحمة " التي وصف بها الله تعالى رسول صلى الله عليه وسلم ، وهي مشتقة من اسم وصفة الله تعالى الرحمان الرحيم تدل على مطلق الخير ومطلق النعمة في الدنيا والآخرة ، لهذا فالخير كله والنعمة كلها فيه صلى الله عليه وسلم ،وفي الذي جاء به من عند ربه سبحانه وتعالى، وكان كمالا لدين الله عز وجل وتماما لنعمته مصداقا لقوله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) .

ووصف الرحمة التي خص به الله عز وجل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يترجمه قوله تعالى : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ، فهذا الذي يكون على هذا القدر من عظمة الخلق، يكون بالضرورة مصدر رحمة للعالمين إذا ما اتخذوه إسوة  وقدوة، لأنه دليلهم إلى التنزيل العملي أو الإجرائي لما ضمّنه  الله تعالى الرسالة الخاتمة من توجيه به  بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم درجة عظمة الخلق ، وهو ما عبرت عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " كان خلقه القرآن " وهو جواب يدل على استيعاب جيد لكلام الله عز وجل ألهماها إياه ليكون هديا للعالمين .

ومعلوم أنه لا يدرك معنى صفة الرحمة التي وصف بها الله عز وجل رسوله الكريم إلا من اقتدى وتأسى واهتدى بهديه  صلى الله عليه وسلم في كل أحوله وهو يخوض غمار الحياة التي هي عبارة عن ابتلاء ثنائيته الخير والشر  اللذان يتناوبان على الإنسان في مسيرة حياته ، وهو ما يقتضي منه أن يواجه هذه الثنائية كما واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم راضيا بالاقتداء به غير متبرم من شر يصيبه ، ولا مفتون بخير يناله  بل يواجه كل واحد منهما كما واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحينئذ سيدرك معنى ومغزى صفة الرحمة التي وصفه بها ربه جل وعلا .

 وكل من تنكّب سبيل التأسي والاقتداء والاهتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، فإنه  سيفتقر حتما إلى استشعار هذه الرحمة إذا ما التمسها في غير هديه عليه الصلاة والسلام ، ولنضرب  لذلك مثالا واحدا على سبيل الذكر لا الحصر، وهو أن الإنسان إذا لم يقتد ويتأس  برسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء نزول البلاء أو حلول المصائب  به ، فإنه يكون عرضة للمعاناة والأسف والحسرة ، وكل ذلك عذاب يذوقه  ، فلو أنه اقتدى وتأسى واهتدى بسنته صلى الله عليه وسلم لوجد طمأنينة النفس ، وتذوق بذلك معنى : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )). وهل توجد رحمة أكبر وأفضل من ترجمة  سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام  عمليا أو إجرائيا  أمر رب العالمين حين كان ينزل البلاء وتحل المصيبة كما جاء في قوله تعالى   : (( وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون )) ، وبناء على هذا، فكل من أصابته مصيبة فترجّع   ولكنه لم يستشعر صلوات ربه عليه  ولا هو أحس  برحمته  به من خلال طمأنينة يجدها في قلبه فعليه أن يراجع نفسه ،ويتهمها بأنها قد تنكّبت سبيل الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم  عند حلول المصائب والبلاء .

هذا مثال تقاس عليه كل الأمثلة المتعلقة بالأحوال التي يمر بها كل إنسان في حياته ، وقد دلّه على طريق المرور بها  أو اجتيازها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم بشهادة خالقه سبحانه وتعالى ، وبالاقتداء به في سلوك هذا الطريق تتحقق لهذا الإنسان الرحمة التي وصف بها رب العزة جل جلاله رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهي رحمة حقيقية  تتحقق في الواقع المعيش ، وليست مجرد رحمة مجازية كما قد يظن البعض جهلا  منهم أو قصورا في إدراك حقيقتها .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو حلول غرة شهر ربيع الأول في هذا اليوم المعظم عند الله عز وجل وهو شهر كان فيه مولد سيد ولد آدم عليه السلام ، وهو المبعوث رحمة للعالمين بالمعنى الذي مر بنا ، لهذا يحسن بنا كمسلمين أن نستحضر بهذه المناسبة  دلالة مولده صلى الله عليه وسلم ، وهو استحضار لا يقف عند حد أشكال من الاحتفال التي قد يكون بعضها مخالفا لسنته بل هو استحضار لدلالة صفة الرحمة التي وصفه بها ربه سبحانه وتعالى ، وهو استحضار يعكس الثبات على دين الإسلام الذي هو دين الرحمة في هذا الزمان العصيب الذي تدبر له فيه  المؤامرات الخبيثة والماكرة من خصومه الذين لم يعرف نور هديه سبيلا إلى قلوبهم القاسية ، وقد أفسدوا  بفسادهم على المسلمين تدينهم وثباتهم على دينهم، وذلك من خلال إغرائهم ببدائل من وضعهم  وافترائهم عن هدي الله تعالى وهدي رسوله ، وهو ما جعلهم يحيون حياة مضطربة غير سوية كحياة غير المسلمين الذين يتخذونهم قدوة وإسوة، و يحذون حذوهم حتى لو دخلوا جحر ضب منتن دخلوه وراءهم كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وحري بالمسلمين أن يعرضوا أنفسهم على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مغتنمين فرصة حلول مناسبة مولده الشريف طيلة هذا الشهر الأبرك لاستعراض سيرته العطرة ، وشمائله السنية  بغرض الاقتداء والتأسي به ليكون ذلك بمثابة تلقيح لهم ضد فيروس الضلال والانحراف عن صراط الله المستقيم .

اللهم إن نسألك أن تفيض علينا فضلا منك ورحمة من فيض الرحمة التي أودعتها في خير خلقك عليه الصلاة والسلام ، واجعله اللهم قدوتنا وإسوتنا في كل أحوالنا ، ولا تخالف بنا عن هديه وسنته حتى نلقاك وأنت راض عنا  .

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات .