يـوم مـع الشـيطـان

الشيخ: علي الطنطاوي

– صور وخواطر –

كنت قبل أيام أستعد لخطبة الجمعة  (التي ألقيتها في مسجد الجامعة السورية، وأذيعت منه)  فنمت مبكراً، على أن أقوم من الليل لصلاة العشاء، لعلي أدخل في ركب المتهجدين،  كما يدخل الفضولي الحقير في الوليمة الكبيرة التي لم يدع إليها إلاَّ السادة العظماء، فأكون مرة واحدة في عمري مع الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، والذين يَصفّون الأقدام، والناس نيام، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، وما أنا منهم، ولا أدرك غبارهم، ولكن تشبهاً بهم، (إن التشبه بالكرام فلاح) .

وبيَّتُّ العزم على ذلك،  فصحوت في الساعة التي قدرتها،  كأنما أيقظني موقظ،  وذهبت أقوم،  ومددت يدي،  وكان النوم أخذاً بمعاقد أجفاني،  فأحسست برودة الجو، ودفء الفراش،  فاسترخى جسدي، وحُبِّب إليّ النوم، واجتمعت فيه رغباتي كلها،  وسمعت كأن هاتفاً يهمس في أذني، يقول: الوقت فسيح، والليل طويل، والفراش دافئ والجو بارد فنم ساعة فاستجبت له، فجاء آخر يقول لي: قم، نفِّذ ما عزمت عليه وتوكل على الله واذكر ثواب الصبر على الطاعة. وعذاب الإِقدام على المعصية، ولو أن رجلاً أدنى منك جمرة، أو جاءك بمئة ليرة، لوثبت من الفراش، فكيف لا تبالي بجهنم كلها وأنت تخاف الجمرة، ولا تحفل الجنة بنعيمها وأنت ترجو مئة ليرة؟

فعاد الأول يقول: تريث لحظة، انقلب على جنبك الآخر.

واشتدت عليّ هذه الرغبة حتى لقد أحسستها في أعضائي كلها، فانقلبت فإذا أنا أشعر لمعاودة المنام على ذلك الجانب بلذة لا تعدلها اللذاذات .

فرجع الثاني يقول: ويحك هذا هو الشيطان يصرفك عن الصلاة فاستعذ بالله منه.

وصرت بين، (نَمْ)  و (قُمْ) ، تترددان عليّ كدقات الساعة، نم، قم، نم، قم، نم، قم.

وكنت من (علم النفس) أن هذا التردد لا آخر له، وسيظل حتى أستغرق في النوم، أو يطلع الفجر، فإذا أنا لم أثب عند كلمة (قُم) ، لم أقم أبداً.

وقلت: أعوذ بك يا رب من الشيطان، وأسألك العون عليه، وتوجهت بقلبي الى الله.  فلما ذكرت الله، رأيت الشيطان قد خنس وانقطع عني وسواسه، ولم يبقى إلاَّ : قُمْ، قُمْ، قُمْ، فقمت، وتوضأت وقد سرَّني أني غلبت الشيطان، واستجبت إلى طاعة ربي، وأحببت أن أصلي صلاة خاشعة مخلصة لله، ووقفت للنية مصفّياً نفسي من الأكدار، نافياً عن فكري الشواغل أريد أن أدخل على الله، وأنا نظيف لم تعلق بذهني أوضار الدنيا، وذهبت أقول: الله أكـ . . . ، وإذا بالخواطر الدنيوية تنثال عليّ قبل أن أتم تكبيرة الإحرام، فعدت أجمع ذهني، وأركز فكري، فإذا حاولت الإحرام، فسدت عليّ نية التوجه وتفرق ما جمعت من ذهني. وتكرر ذلك، وعجبت من نفسي فما كان لي بمثله عهد من قبل. وذكرت الله واستغفرته، فعرفت السبب. إنه الشيطان لما طردته بالذكر أول مرة ، ووثبت من الفراش، دخل نفسي العُجب، وظننت أني صرت من الصالحين، فرأى الخبيث في هذا باباً جديداً، يلج عليّ منه، فجاءني متنكراً بهيئة الناصح ليفسد عليّ صلاتي بهذا التكلف الذي ما عرفه الصحابة ولا التابعون، ولا أوجبه الله في كتاب ولا سنة، واستعذت بالله منه وصليت، فلما انتهيت قال لي: ما هذه الصلاة؟  أين هذه من صلاة الخاشعين؟  إن الصلاة إذا لم تكن على وجهها كان وجودها كعدمها،  فأدركت أن هذه حيلة من حيله ، طالما أضاع على كثير من المسلمين صلاتهم بها، يقول لهم: ليست الصلاة ركوعاً وتلاوةً وذكراً، ولكن الصلاة الحقَّ هي التي تنهي عن الفحشاء والمنكر، فلا يأتي المرء معها معصية ولا ذنباً، والتي يقف فيها بين يدي مولاه لا يفكر  في شيء قط من أمر الدنيا، ولا يذهب إليه ذهنه، ولا يبصر بعينه ما حوله، لا يحسه ولا يدري به، فلما استقر ذلك  في نفوس طائفة من الناس ورأوا أنهم لا يقدرون عليه،  قالوا: إذا لم تكن صلاتنا صلاة ، ولم نكن نقدر على خير منها، فما لنا نُتعب أنفسنا بالركوع والسجود في عير ثواب؟ وتركوا الصلاة جملة، فكان لإبليس ما أراد.