الفيديوهات الجارحة لـ «الشيخ جراح»… والمسلسلات السورية في خريفها

راشد عيسى

من بين الصور والفيديوهات الرائعة الكثيرة التي وصلتنا من القدس في انتفاضتها الأخيرة هنالك فيديو لا يمكن أن يمرّ من دون إحساس عارم بالغضب والقهر والمرارة، عندما يركل جندي إسرائيلي مدجج شاباً أثناء صلاته في وسط الشارع. التاريخ مليء بالاعتداءات الوحشية على متظاهرين سلميين، أما أن يكون ذلك أثناء صلاة عزلاء، فقد تنفرد به إسرائيل (ولا تغيب عن الذاكرة جريمة الحرم الإبراهيمي، عندما قتل باروخ غولدشتاين 29 مصلياً وجرح 150 آخرين العام 1994) إلى جانب عدد قليل من الإرهابيين حول العالم. من بينها مجزرة ارتكبت في مسجدين في نيوزيلاند العام 2019.

القتل والاعتداء على محتجين سلميين جريمة كبرى، لكنها أثناء الصلاة تصبح جريمة خسيسة، خصوصاً إن جاءت ممن يمثّل «دولة» فإذا كان باروخ غولدشتاين مستوطناً قد تتنصل الحكومة من أفعاله فإننا هنا أمام جندي صريح شاهدته كل شاشات العالم. ولا شك أن هذا الفيديو سيشكل إحراجاً كبيراً لدولة تزعم أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. إنها جريمة رسمية خسيسة.

لكن، هل أدلّكم على عصابة تتبنى قتلاً من الطراز نفسه (من دون أن يعني ذلك تخفيفاً للجريمة الإسرائيلية الرسمية) وبالخسّة ذاتها على مصلّين، بلا أدنى مراعاة لحرمةٍ أو قداسةٍ لمكان، عصابة استهدفت الجوامع ومصلّيها العزّل، الجنازات، بل إن المقابر نفسها لم تنج من الاعتداءات والنبش، وكل ذلك مسجّل في فيديوهات عديدة شاهدها العالم!

الاعتداء على صلاة لا يمكن أن يمرّ هكذا على أي ضمير حيّ، هذا ما تقتضيه الشرائع منذ أول صلاة في الأرض.

لقد سجّل شكسبير فظاعة الاعتداء على مصلٍّ في مسرحيته «هاملت» حيث كان بإمكان الأخير قتل الملك، مغتصب السلطة من أبيه، ولم يمنعه عن ذلك إلا صلاته، هناك من يفسّر أن هاملت لم يُرِد أن يرسل عمّه القاتل إلى الجنة، ولكن الأرجح أن لديه ما يكفي من النبل ورفعة الروح ما يردعه عن اقتحام صلاة. لكن جنوداً إسرائيليين لم يترددوا.

خريف المسلسلات

ينشغل مسلسل «خريف العشاق» بالتوثيق، توثيق سوريا منذ بداية السبعينيات وحتى أوائل التسعينيات. يبذل جهداً واضحاً لناحية الديكورات الداخلية، الملابس، تسريحات الشعر، الحيطان، وما تحويه من آثار وإعلانات، إلى حدّ فائض عن الحاجة أحياناً؛ يجد الموثِّقُ أن لديه مزيداً من الدلائل على المرحلة فيزجّها جميعاً في المشهد. لكنه مع ذلك يهمل ما يستحيل نسيانه، إذ كيف لكل تلك الفترة أن تمرّ من دون صورة لحافظ الأسد، تلك التي لم يخلُ منها شارع أو ساحة أو مؤخرة سيارة ودائرة حكومية، أو عسكرية وأمنية! يستبدلها المسلسل بخريطة سوريا، الأمر الذي تكرّر في أكثر من عمل درامي، كأن هنالك توجيهاً رقابياً معمماً على الجميع. على أي حال تظلّ الكاميرا تعمل على الضيق في قلب المدينة لئلا تحرج نفسها أكثر.

لكن الأهم من إغفال صورة إظهارُ هيئةٍ غير واقعية على الإطلاق للسجون التي يقبع فيها معتقلو «الإخوان المسلمين» إذ مهما بدت من السوء في المسلسل فهي لا يمكن أن تقارب الواقع الذي بتنا نعرفه بدقة بعد عدد من الشهادات والروايات، ولا شك أن كاتبة العمل (ديانا جبور) قد قرأت على الأقل «القوقعة» إحدى أهم الروايات التي أرّخت للمرحلة، إذ يبدو من الترف أن يحظى معتقلٌ بسرير بحاله، وبفرصة للتنفس في ساحة السجن، على غرار ما نشاهد في أعمال عالمية. خصوصاً أن المسلسل يلمّح إلى سجن تدمر الشهير حين تصفه شخصيةٌ، عند الحديث عن محاولة هروب من السجن، بـ «دنيا قفرا نفرا» و»بنمشي عشر ساعات بنلاقي جماعة بتساعدنا». بل إن عملية الهروب نفسها من ذلك السجن الرهيب أقرب إلى المستحيل.

التوثيق قبل الديكور والأزياء يجب أن يبدأ من النص، فالحوارات والأفكار المطروحة تدفع المشاهد لتبني وجهة نظر واحدة، يمثلها غالباً الضابط في الجيش، والبطل في «حرب تشرين» أبو عبيدة، وعلينا أن نفهم أن الفاسدين والمتنفذين والشبيحة ما هم إلا خارجين عمّا تريده كلمة الجيش والدولة. لا بأس إذاً بتقديم شخصيات سلبية لبعض رجال الأمن فما هم في النهاية إلا أفراد أشرار لا بدّ للدولة أن تقتصّ منهم، أو تلقي باللائمة عليهم على الأقل، كما نتوقع أن يحدث في الحلقات الأخيرة. أو أن القدر سيعاقبهم من تلقاء نفسه، كما حدث لفادي، أحد مفاتيح الفساد، عندما أصابه المسلسل بمرض السيدا.

انحياز التوثيق يفضح نفسه في عدد كبير من المرات، انظروا مثلاً كيف يجري تصوير اليسار، ففي بيت الشاعر الفلسطيني المعارض، المنتمي إلى إحدى الجبهات الفلسطينية، والمطرود تقريباً من دمشق إلى بيروت، سنشهد سهرة ينشد فيها المجتمعون من حَمَلَة المسدسات والكوفيات الفلسطينية وكؤوس العرق أغنية «أناديكم» بشكل يدفع المُشاهِد دفعاً للسخرية والاحتقار، بل إن المسلسل لا ينتظر رأي المشاهد، إذ إن زوجة الشاعر نفسها، عازفة البيانو «الكلاس» ستنتفض على هذا الطقس الثوري. لسنا ضد السخرية إن كان الأمر يستحق، إنما ضد هذه القصدية في التشويه، كان أولى أن نشهد مثلاً مسخرة «البعث» التي لم توفر تفصيلاً لم تمدّ يدها إليه. إنها سخرية من اليسار المقاوم لا من «اشتراكية النظام».

لكن المسلسل لا يحتقر اليسار والمقاومة فحسب، بل سيظهر أن خلاصهما سيكون على يد الجيش السوري، فهذا هو من سيعثر على الشاعر المقاتل ورفاقه محاصرين في متاريسهم إثر اجتياح بيروت، ليخرجهم إلى الحياة قبل إجلائهم التاريخي عن المدينة. دلّونا فقط أين حدث ذلك بالضبط!