رحلة إلى نورنبيرغ

د. عبد الحكيم الأنيس

توبنغن:

السبت 4/ 4/ 2015م

قمتُ في الخامسة، ثم أيقظتُ اﻷولاد، وصلينا صلاة الصبح، ووصلت السيارةُ التي طلبناها قبل النوم، ونزلتُ أنا وابني "محمد"، فحملتنا إلى المحطة، والمطرُ يهطل، وهناك استقلينا حافلة من شركة Flixbus حسب الحجز المُسْبق، وانطلقتْ في موعدها بكل دقة: 6.25، وتوقفتْ مرتين: في رويتلنكن، وشتوتكارت، فحملتْ مسافرين آخرين، وانطلقتْ إلى وجهتها: (نورنبيرغ) وهي مدينة في منطقة فرنكونيا بوﻻية بافاريا، وتقعُ على ضفتي نهر بيغنيتز، وتبلغ مساحتها 186.38 كم مربع، ويزيد عددُ سكانها على نصف مليون.

ويرجعُ تاريخُها إلى ألف سنة تقريبًا.

وبعد وصول هتلر إلى السلطة أصبحتْ احتفالاتُها السنوية جزءًا لا يتجزأ من سياسة البروباجاندا النازية.

وفي الحرب العالمية الثانية كانت مقر الدائرة العسكرية الثامنة، ودُمِّرَ معظمُ أجزائها، وقُتِلَ من أهلها عدة آلاف، وخرج منها عشرات اﻷلوف...

الطريقُ جميل، فيه الخضرة الدائمة، وفيه قرى تبدو ساكنة قارة بأهلها...ولم يتوقف المطر، فأضفى على الرحلة جوًا خاصًا...

وسبب زيارة (نورنبيرغ) تلبية دعوة كريمة من اﻷخ الكريم الداعية الفاضل الشيخ عبد الرحمن الحوت إمام مسجد الجمعية اﻹسلامية وخطيبه ومدرسه...وهو مسجد أُسس قبل أربعين سنة، في مبنى يرتفع أربعة طوابق، وفي أسفله طابق جُعِلَ مطبخًا ومطعمًا...

وللمسجد تاريخٌ حافلٌ، ولكنه غير مكتوب...

ومِنْ عادة اﻷخ المذكور -وفقَّه الله - إقامة ندوة أول سبت من كل شهر، وقد أحبَّ أنْ أكونَ ضيفَ الندوة في هذا الشهر، وأعلن عن ذلك، ورتَّب ما يَلزم مِنْ حجزِ النقل، والمبيت.

وقدَّر اللهُ أن يدخل ولدي (أحمد) في العناية المُركزة، وصرتُ في حرج؟ ولكنّي عزمتُ على السفر، ناويًا بذلك العمل الاستشفاع به إلى الله ﻹنزال الشفاء على أحمد...

• • •

وصلنا إلى نورنبيرغ في 10.30، وكان في استقبالنا مُوفَدٌ من قِبل الشيخ عبد الرحمن، فحملنا إلى المسجد، فصلينا الضحى، وحضر الشيخ وصعد بنا إلى شقته هناك، وحضر أيضًا الشيخ إبراهيم الحسن - وهو من الصومال، ويدْرسُ في اﻷزهر، ويقيم في فرانكفورت، ويتكلم اﻷلمانية بطلاقة -.

ولم يلبث مضيفُنا الكريم أنْ جاء بفطورٍ شهيٍ يفتح النفس، فيه أشكالٌ وألوانٌ مِنْ فتة، إلى فول، إلى مامونية حلبية، وما إلى ذلك من خبزٍ متنوعٍ: عراقي ولبناني وألماني، وأجبان، وبقول، وشاي لذيذ...

وﻷول مرة ذاق ولدي محمد (المامونية) مع أنه حلبي، ولكن أمَّه بغدادية، ووُلِدَ هو في دبي، ولم يأت حلبًا إلا زائرًا...

وقد شاركنا الفطورَ الحاجُّ صالح إبراهيم عضو إدارة الجمعية - وهو من إرتيريا - وهو صالحٌ كاسمهِ، وله أربعة أبناء قام هو بتربيتهم وتعليمهم القرآن، وتحفيظهم أجزاء منه...

ثم حضر عضوان آخران: السيد حامد من تونس، والسيد شَرْقي من المغرب...

وحان وقتُ الظهر فنزلنا وصلينا...

ثم جلستُ مع المترجم محمد الحياري - من حماة في سورية - ليطَّلع على النصوص القرآنية والنبوية في المحاضرة استعدادًا لترجمتها...

ثم كانت جلسة تذكيرية وحوارية مع أبناء المسلمين هنا من الأطفال والشباب، وهم (25) طفلًا وشابًا، وحضرتُ بعض اﻷمهات...

تكلمتُ (15) دقيقة، وكذلك اﻷخُ إبراهيم الحسن، ثم فُتِحَ باب اﻷسئلة والحوار...

ودار أغلبُ الحوار عن إدمان استعمال الحاسب والهاتف المحمول...

وبعد صلاة العصر كان موعد الندوة في المسجد...

أَعلن عن البدء اﻷخُ شرقي، وأدار الندوةَ الشيخ عبد الرحمن...

قَدَّم أولًا الطفلَ عمر بن صالح إبراهيم فقرأ آيات من القرآن...

ثم قدَّمني، وألهمه اللهُ تعالى أنْ يَذكرَ (أحمدَ) ويطلبَ من الحاضرين الدعاء له، ولم أكن أخبرتُه بنيتي التي ذكرتُها، وارتفعت اﻷصواتُ بالدعاء له، والحاضرون عددٌ كبيرٌ شبّهه الشيخُ عبد الرحمن بصلاة الجمعة... وهُم مِنْ جنسياتٍ متعددة.

عنوانُ الندوة: (كيفية تربية اﻷبناء في اﻹسلام، وما هي الحلول لمواجهة اﻷخطاء التربوية).

كان حديثي في (40) دقيقة، وبعد أن فرغتُ تحدَّث اﻷخُ إبراهيم الحسن باللغة اﻷلمانية، وكانت هناك ترجمة فورية إلى اﻷلمانية والعربية...

ثم كانت مساحة للأسئلة من الرجال والنساء...ودار أغلبُها عن المُعاناة في تربية اﻷبناء بسبب تأثير المجتمع هنا...

وقد حضرَ بعضُ اﻷلمان...

بعد ذلك كان العَشاء المُكوَّن من اﻷرز المُعصفر، ولحم الغنم والدجاج، واللبن، والحلوى، والتفاح...وكان الطبخ عراقيًا إنفاقًا وصنعًا...

ثم صعدنا لصلاة المغرب...

ثم أوصلنا الحاجُّ صالح إلى الفندق للاستراحة...

كان هذا اليوم حافلًا بالنشاط، ورؤيةِ المسلمين، وأبنائِهم هنا، والتعارفِ، والاطلاع على أحوال المُقيمين: عاملين ولاجئين، وتبادل الآراء والأفكار في شؤون الدعوة والدعاة والمدعويين...

ومنحنا الفندقُ (15) دقيقة مجانية لاستعمال الانترنيت، فكشفنا عن اتجاه القِبلة، وقرأنا البريد، ثم أوينا إلى النوم حامدين الله وشاكريه على فضلهِ ومنتهِ وتيسيرهِ...

نورنبيرغ:

اﻷحد 5/ 4/ 2015م

قمتُ في الخامسة سحرًا، ثم أيقظتُ "محمدًا" فصلّينا صلاة الصبح...

وكان على السرير (جلاتين) وهو ضيافةٌ مِنْ إدارة الفندق للنزلاء، وأردتُ أن أرميه، ثم خشيتُ أنْ يُظن أننا أكلناه - وفيه مِنْ شحم الخنزير - فتركتُه.

وفي العاشرة ضحًى جاء الشيخُ عبد الرحمن والحاج صالح، وخرجنا فزرنا حديقة الاحتفالات المذكورة، واتصل بي أحدُ إخواني من دبي وهو الشيخ حمد محمد صالح يسأل عني وعن (أحمد)... جزاه اللهُ خيرًا... ومررنا بالمتحف الوطني الألماني.. ولم ندخلْ لضيقِ الوقت، ثم تناولنا الفطورَ في مطعمٍ تركيٍ مُشرفٍ على سُور المدينة القديمة...

ثم تجوّلنا في داخل المدينة، ودخلنا إلى صالة متحف حقوق اﻹنسان، ووجدنا أنه يحتاج ثلاث ساعات فخرجنا، ورأينا عدةَ كنائس، منها كنيسة القديس لورينتس، وفي واجهتها تماثيل كثيرة، منها تماثيل نساء مكشوفة اﻷجسام...

وفي المدينة مِن المعالم قلعةُ القيصر، ومستشفى الروح القدس، والسوق الرئيسة...

وعدنا إلى المسجد وصلينا الظهر، وألقيتُ في المُصلِّين كلمةً موجزةً عن قيمة العمر وضرورةِ اغتنامه...بطلبٍ من الشيخ...

ثم جلسنا في المكتبة، وجلس معنا شيخٌ من النيجر هو الحاج بشير، وحدَّثنا عن النيجر، ونيجيريا، وعن عملهِ واعظًا في السجن هنا، وقال: أكثر مَنْ في السجن مِنَ المسلمين، وعددٌ منهم سُجنوا ﻷنهم ضربوا بناتهم ليتحجبن فأبينَ، وبلَّغن الشرطة!

واقترب موعدُ انطلاق الحافلة، فودّعنا اﻷخَ الشيخ عبد الرحمن، وشكرتُ له هذه الدعوة والحفاوة واللطف، ودعوتُ الله عز وجل له أنْ يُبارك في جهوده، وأنْ يَجمع به، وعليه... وأنْ ييسرَ له إنجازَ رسالته للدكتوراه في جامعة إيرلانكن...

وحملنا الحاجُّ صالح إلى المحطة، وانطلقت الحافلةُ في موعدها 3.50.

ووصلنا إلى توبنغن في 7.15، ووصلنا إلى البيت في 8.05، وكان "زيد" و"شهد" يُعدّان الطعام... وكان "بشر" عند أمّهِ، وأخيهِ (أحمد)...

أعدنا صلاة العصر التي صليناها في الحافلة، واستقبلنا صديقًا تركيًا يُقيم في فرانكفورت جاء لزيارتنا.

واتصلتُ بأمِّ أحمد فقالتْ: توقّف اليومَ الأوكسجين ففزعتُ، وركض الأطباء، واكتشفوا خللًا في وضع الأنبوب فأصلحوه، وعاد التنفُّسُ كما كان، وفي تلك الأثناء كانوا يَضخون له الهواءَ بمضخة، وهو الآن بخيرٍ ووضعُهُ مستقرٌّ، والحمد لله...