غزة.. حقيقة بروح أسطورية

إحسان الفقيه

سلام على أرض أناخت العزةُ على أبوابها المطايا، سلام على أرض مهودها وقبورها تهزأ بالرزايا.

غزة، ذلك الفردوس الأرضي الذي وسع المعاني والمباني وكل المفردات الغائبة التي غدت في غير تلك الأرض أوهامًا.

على أرض غزة ألِفتْ الشفاهُ مرارة الصبر حتى صارت عسلًا مُصفّى، هنالك في كل بيتٍ امرأةُ عمران، تنذر ما في بطنها محررًا لأكناف الأقصى، ثم ترضعه عزة وشموخًا، وتهمس في أذنيه بحكاية الشهيد.

في غزة لا مكان للصبيان والنساء والشيوخ، فالطفل يولد رجلًا، والمرأة بألف رجل، والشيخ الذي احدودب ظهره استقام عزمه وناطحت همته الشباب والسحاب.

غزة، ذلك العضو الذي عزلوه قسرًا عن الجسد الفلسطيني، لم تفلح تدابير الظلام في مسخ هويته، ولم يكْفِ اجتماع قوى الشر لإرهابه وتركيعه.

يواجهون الغلاء بالاستغناء، تزورهم الكهرباء غِبًّا فيخرجُ النبغاء على أضواء الشموع، يمنعهم الحصار القوت فيُرزقون كالطير، تهدم الطائرات كل شيء من حولهم إلا قلوبهم، يشيعون شهداءهم بعهد مواصلة الكفاح حتى اللقاء.

إنها غزة يا سادة، الأثر الذي بقي من المجد التليد، باب الأمل المفتوح، والنموذج الماثل أمامنا للقوة الجبارة الكامنة في الأمة.

من يصدق أن غزة تلك البقعة التي لا تتجاوز مساحتها 365كم وتعاني من الحصار ومؤامرات صهاينة العرب والعجم، تُرعب أقوى كيان عسكري في المنطقة وتُذلّ ناصِيَتَه؟

المقاومة التي تتمركز في قطاع غزة هي القوة الوحيدة على وجه الأرض التي تواجه الصهاينة بعد انسحاب حزب حسن زميرة من مسرحية المقاومة الهزلية بأوامر الملالي على وقع ألحان المصالح مع العدو الصهيوني والأمريكي.

التصعيد العسكري القوي مع الصهاينة والذي توقف بالهدنة، قد ألقم المُشككين في المقاومة الفلسطينية ألف حجر، وأخرس ألسنة القاعدين الذين اتهموا المقاومة وخاصة حماس بالمتاجرة بالقضية الفلسطينية والتنسيق مع العدو الصهيوني.

لقد جاء رد غزة على الصهاينة قاسيًا ومفاجِئًا لأقصى درجة، بل تفاجأنا جميعًا بأداء المقاومة في ذلك التصعيد، فبعد أربع سنوات مضت على عملية الجرف الصامد التي قام بها العدو ضد قطاع غزة، والرد المقابل المتمثل في عملية العصف المأكول التي قامت بها كتائب القسام وعملية البنيان المرصوص للجهاد الإسلامي، أثبتت المقاومة أن هذه الفترة لم تكن استراحة محارب لالتقاط الأنفاس، وإنما كانت عامرة بالإعداد والتطوير في القدرات القتالية للمقاومة وتسليحها.

أكثر من 500 صاروخ ينطلق من غزة في غضون 24 ساعة، له  دلالته الواضحة على امتلاك المقاومة لعدد هائل  من الصواريخ يمكنه تغيير المعادلة.

صواريخ جديدة تدخل الخدمة العسكرية للمقاومة، تنويع أماكن إطلاق الصواريخ، جهد إعلامي غير مسبوق مصاحب للتصعيد، وغرفة عمليات مشتركة لفصائل المقاومة، كلها أمور تنبئ بأن المقاومة تطورت بصورة تخيف الصهاينة أكثر من أي وقت مضى، وتجعله يعيد حساباته في التفكير بعمليات عسكرية ضد القطاع مرة أخرى.

الهدنة التي جاءت بوساطة مصرية وتستفيد منها المقاومة وقطاع غزة وسكانه، ينظر إليها الإسرائيليون على أنها هزيمة لجيش الاحتلال وهي كذلك.

وفي الوقت الذي كان أهل غزة يجوبون الشوارع احتفالًا بالنصر الكبير،  كان المستوطنون الصهاينة يتظاهرون ويقطعون الطرق ويحرقون إطارات السيارات احتجاجا على وقف إطلاق النار الذي رأوا فيه استسلاما للمقاومة الفلسطينية.

بل الأهم من ذلك أن القوى المعارضة في حكومة الاحتلال أيضًا قد رأت في وقف إطلاق النار استسلاما وهزيمة أمام المقاومة، لدرجة أن وزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان قدم استقالته بصورة رسمية اعتراضا على الهدنة، بل يرى مقربون من رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه في حالة استقالة ليبرمان فإن الكنيست سيُحَلّ قريبا وتُجرى انتخابات في غضون الأشهر القادمة.

أي زلزلة في جسد الكيان المحتل قد أحدثتِ يا غزة؟ الله أكبر والعزة لله والنصر لجند الله.

إن أعظم ما يتجلى في هذا النصر، أن غزة الصامدة الرادعة قد خاضت هذه الجولة التصعيدية في ظل طوفان التطبيع الذي اجتاح الدول العربية، حتى غدا الإعلام في تلك الدول يعبر بوضوح عن اتجاه التطبيع، فإعلاميٌ يغازل الصهاينة ويرى ضرورة تعاونهم مع وطنه لمواجهة الأتراك ويدعو ولي أمره للخطابة في الكنيست وافتتاح سفارة إسرائيلية في دولته، وآخر يدعو للصهاينة بالنصر على الإرهابيين في غزة.

قلتها ولا أزال أرددها، التعويل على الفلسطينيين أنفسهم لا الحكام الذين آثروا الانبطاح وقيدوا الشعوب عن نصرة القضية، التعويل على هذه الطائفة المنصورة التي لا تزال تجالد الأعداء وأهلها ظاهرون على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.