في ذكرى مولد الحبيب الهادي

زهير سالم*

لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا"

وليس من توقير رسول الله الكذب عليه ولا الكذب له ..

في سياق سورة الفتح التي استهلت بتبشير الرسول الكريم بالفتح المبين، وبالمغفرة السابغة لما تقدم من ذنب وما تأخر ؛ تأتي الآيات الكريمة : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا "

وهذه الآية أصل في وجوب تأييد ونصرة وتعظيم واحترام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، وبعد وفاته . وأن يُعطى صلى الله عليه وسلم في نفسه وآله وصحبه وكل ما يتعلق ويحيط به بعضَ حقه من التبجيل والتعظيم والتوقير والاحترام ، فلن يستطيع أحد من البشر مهما فعل أن يوفي هذا الرسول الكريم ذا الخلق العظيم بعض حقه صلى الله عليه وسلم .

وقوله تعالى : لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ..

فالتعزير في سياق الآية الكريمة : هو التأييد والإجلال والنصرة ، بكل معاني النصرة ، العملية والفعلية والقولية . والتوقير هو التعظيم والاحترام ، والإحلال في المكانة القدسية النفسية والشعورية ، فلا يذكر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا محاطاً بالتسييد والصلاة والسلام عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .

لف ونشر مرتب ولف ونشر مشوش

وفي الآية الكريمة: " لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا "على ما يقول علماء التفسير وعلماء البلاغة ما يسمى في علم البلاغة لف ونشر غير مرتب ( مشوش ) .

ولا تظننّ أنّ في قولنا غير مرتب ، أو مشوش ؛ إيحاء سلبيا لوصف العبارة ، فهذه الأسلوب هو قيمة جمالية ، وإن أخطأ واضعو المصطلحات تسميته كما سموا يوما الجد لأم في علم المواريث " الجد الفاسد " ّ

و" اللف والنشر" في لغة العرب أن يذكر المتحدث أو الكاتب أمرا مجملا في سياق وهذا هو اللف ، ثم يكر عليه بالتفريع ، والتبويب ، والتفصيل ، وهذا هو النشر . فإن كان نشره بنفس سياق إيراده الأول ( لفه ) ، سمي النشر مرتبا . وإن كان خلاف ذلك سمي النشر مشوشا . وليس في ذلك كما قلنا ونكرر انتقاصا من قيمته البلاغية ؛ بل فيه إحداث صدمة في عقل السامع والقارئ ليعيد ترتيب الأمور في ذهنه ، ويلحق كل فرع بأصله .

وقد ورد اللف والنشر في حالتيه في كثير من آيات الكتاب العزيز ، ومن الأحاديث النبوية الشريفة ومن كلام الشعراء والفصحاء والبلغاء . فمن اللف والنشر المرتب في القرآن الكريم قوله تعالى : " وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " .. أي لتسكنوا في الليل ، ولتبتغوا من فضل الله في النهار ، فلف ونشر نشرا مرتبا في سياقه .

ومنه قوله تعالى " فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ... وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ " فلف في قوله شقي وسعيد ؛ ونشر على الترتيب في قوله فأما ...وأما ..

ومن اللف والنشر غير المرتب " المشوش " قوله تعالى: " يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ".

فلف مقدما ذكر الوجوه المبيضة والمسودة ، ونشر على غير ترتيب بذكر الوجوه المسودة وما يلحق بها ، أعاذني الله وإياكم من سواد الوجه في دنيا أو في أخرى .

 ولا يدخلنّك أن في ذكر البياض والسواد في الآية إيحاءً عنصريا بتفضيل الإنسان الأبيض على أخيه . وإنما هو مجرد تعبير رمزي عما استقر في أذهان المخاطَبين من التفاعل مع الألوان ، والاستراحة إلى الزاهي منها . مع علمنا في هذا الزمان أن اللون في ذاته لا حقيقة له ، وانه مظهر من مظاهر انعكاسات الأشعة الضوئية ..

نعود إلى اللف والنشر غير المرتب لنقول إن في الآية التي نقف في رحابها في هذا السياق ، والتي تطالبنا بتعزير رسول الله وتوقيره " لفا ونشرا مشوشا " أو غير مرتب . وهو كما قلنا نوع من الحفز لأذهاننا لكي لا تستقبل كلمات الله واهنة مسترسلة وإليكم إعادة النسق "لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا "

لتؤمنوا بالله.. وتسبحوه بكرة وأصيلا ..

ولتؤمنوا برسول الله وتعزروه وتوقروه ...

هذا هو السياق العقلي الواهن المسترسل . ولكن الإعجاز القرآني رغب عن هذا ، ولجم المركبة التي تسير بسرعة كبيرة جدا محدثا هزة في العقول والقلوب ، فشوش عليهم السياق ليعيدوا تفهمه وترتيبه في أسلوب من البلاغة القرآنية عجيب : لتؤمنوا بالله ورسوله فلف الإيمان بالرسول الشاهد المبلغ الكريم مع الإيمان بالله الواحد الأحد المنزه عن كل التخيلات الكليلة ، ثم كرّ على عقولنا وفهومنا بهذه المطالبة ، التي سماها أهل البلاغة مشوشة وما هي بمشوشة ، ولكنه لما ابتدأ في ذكر قضية الإيمان بذكر الله تعالى الذي هو أصل الأمر وثنى بذكر الرسول الكريم الهادي والشاهد ، استرسل في ذكر حق الرسول وهو الأقرب في السياق ( َتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) ثم ختم بذكر الله الأول وما يجب له من تنزيه وتسبيح بكرة وأصيلا ..

  تعزير رسول الله وتوقيره لا يكون بالكذب عليه ولا بالكذب له

وفي موجة الوضع والكذب التي انتشرت على ألسنة الزنادقة وألسنة من لا خلاق له في قرون الإسلام الأولى طُحن العقل والعلم بين رحيين من الكذب كذب قوم من الزنادقة كانوا يهدفون بزعمهم إلى هدم الإسلام وتشويه المسلمين وإضعافهم ، وقوم ممن لا خلاق له زعم أنه يكذب لرسول وليس يكذب عليه !! في بلاهة أو خبث لا يقل أحدهما عن الآخر .

فبعض الناس جعل من همه أن ينسج قصصا خيالية عن شرائع وعبادات ومناسبات وفضائل أعمال وفضائل سور القرآن ، ومن قرأ هذا ، ومن فعل هذا في حملة تشويه وتشهير بهذا الدين لا حدود لها ..

ولولا أن الله تعالى بوعده لحفظ كتابه ودينه قد قيض لهذا الدين علماء أثباتا غربلوا ونخلوا وميزوا وردوا وقبلوا ؛ لكنا في حال قريب من حال الأمم التي سبقتنا والذين ما زال بعضنا يتبعهم إلى جحور ضبابهم .

ومن الأبواب التي أكثر الوضاعون الكذابون الخراصون فيها أبواب من الحديث عن المبشرات بولادة سيدنا رسول الله ، وبما رأت أمه ، وأبوه ، وما صاحب مولده من مثل مايقولون انطفاء نار المجوس وتصدع إيوان كسرى وغيض بحيرة ساوة ومنها حكايات وأحاديث عن طفولة وعن رضاع وعن .. وعن . ..

لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم حياة واقعية ، وكان أعظم ملمح في عظمته التي صنعت على عين الله ، أنه بالجهد البشري الواقعي المرتبط بعون الله وتأييده حقق أعظم إنجاز إنساني في تاريخ البشر ...فكم هم أفاكون مجرمون أولئك الذين يحاولون أو يضيعوا جهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عجاجة من ضباب المعجزات المكذوبة المدعاة .

أيها المسلمون ..

ونحن في رحاب ذكرى المولد المبارك الكريم يجب أن نذكر ..

أن الكذب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على أي إنسان . وأن على الكاذب على رسول الله أن يستعد لمقعده من نار جهنم .

وأن نذكر أن الكذب على رسول الله والكذب له فيما يزعم الزاعمون في العقوبة سواء . وأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل جلالة ، وأعظم قدرا ، من أن يحتاج إلى كذب الكذابين لتعزيره توقيره والتعبير عن حبه والولاء المطلق له .

وأن نذكر أن الاسترسال في ترداد الروايات المكذوبة – التي رفضها أهل العلم الثقات – من الأخبار عن قوله وفعله وما أحاط بسيرته ؛ يجعل المردد والمنشد والسامع أحد الكذابين ..ما لم يبين .

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية