سقوط المثقفين والبغاء السّياسيّ

جميل السلحوت

للمثقف دور هامّ في تقديم النّصيحة للسّياسيّ من خلال اطلاعه على هموم شعبه وأمّته، كما أنّه يعبّر عن ضمير شعبه وأمّته، وهذا معروف في الدّول الدّيمقراطيّة فعلا وقولا، والتي تضمن حرّيّة الرّأي بغضّ النّظر عن اتّفاقها أو اختلافها مع النّظام الحاكم. لكن في الأنظمة القمعيّة فإنّ "حرّيّة الرّأي" مضمونة لهتّيفة النّظام فقط، وهذا ما يجري في غالبيّة دولنا العربيّة.

والمحزن في بلداننا العربيّة أنّ من يسوّقون سياسة القهر والقمع والفساد والإفساد هم مثقّفون ورجال دين باعوا ضمائرهم وأخلاقهم للشّيطان. بحيث أنّهم يزيّنون أيّ سياسة تخدم سياسة الحاكم المطلق الذي يعتبره "علماء السّلاطين" خليفة الله في أرضه، حتّى ولو خالف أحكام الشّريعة، تماما مثلما يفعل مثقفو السلطان حتّى لو خان الوطن وفتك بالشّعب وأهدر خيراته. وهؤلاء يتحكّمون بوسائل الإعلام المرئيّة والمكتوبة والمسموعة والمقروءة. ومن خلالها يسوّقون سياسة الهزائم والخذلان ويحوّلونها إلى انتصارات وهميّة، ويضلّلون الرّعاع من عامّة الشّعوب. وقد تصل الرّعونة بهم حدودا لا يتصوّرها عاقل، فعلى سبيل المثال ظهرت سيّدة على شاشة تلفزة عربيّة اللسان أمريكيّة الهوى، تقول عن الرّجل الثّاني في دولتها:" من يريد التّلفّظ باسمه عليه أن يكون على وضوء، كي يطهّر فمه"! وهذه دعوة لم يبلغها نبيّ مرسل، فكلّنا نذكر أسماء الأنبياء والرّسل دون وضوء ودون طهارة، ولا إثم في ذلك.

وتبلغ الهرطقة مداها عندما تصدر الأوامر بتسويق سياسة خيانية مارقة ينوي "الحاكم بأمر الله" التّمهيد لها من خلال تجميلها، فيتسابق "الهتّيفة" لتسويقها وشيطنة معارضيها بطريقة مبالغ فيها، وقد تصل إلى أمور مضحكة. ومن ذلك مثلا عندما أرادت مصر شيطنة حماس قال الإعلامي المهرّج أحمد موسى أكثر من مرّة وهو يهاجم حركة حماس، واصفا إيّاها بالمجرمة ومن جرائمها أنّها قتلت الشّهيد عزالدين القسّام، ويبدو أنّ ذلك المهرجّ لا يعلم أنّ الشّيخ عزالدين القسام استشهد على أيدي قوّات الانتداب البريطاني قبل أن تولد حماس بستّين عاما! وبالتّأكيد فإنّ العامّة لا يعرفون هذه المعلومة، وبالتّالي ستنطلي عليهم هذه الأكاذيب.

وعندما استجابت غالبيّة دول الخليج النّفطيّة لضغوطات الإدارة الأمريكيّة لتطبيع العلاقات مع اسرائيل على رؤوس الأشهاد بعد أن كانت سرّيّة، بدأ "الهتيفة" بداية مضحكة، فمنهم من يهاجم الشّعب الفلسطيني ويتنكّر لحقوقه المشروعة في وطنه التّاريخيّ، ومنها حقّه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة بعاصمتها القدس الشّريف. وينحازون إلى الطّرف الآخر المعادي وكأنّه بطل السّلام، رغم كلّ عدوانيّته واستمراره في احتلال الأراضي العربيّة. حتّى وصلت حماقة "الهتّيفة" إلى المقدّسات وفي مقدّمتها المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثاني الحرمين وأحد المساجد الثلاث التي تشدّ إليها الرّحال، ومعراج خاتم الأنبياء والرّسل صلى الله عليه وسلّم، ومن هؤلاء المدعو الاعلامي السّعودي فهد الشّمري الذي اعتبر الصّلاة في مسجد في أوغندا أفضل من الصّلاة في فلسطين وأقصاها! فهل يعلم هذا السّفيه أنّ الأقصى جزء من العقيدة، وأنّ نفي القداسة عنه سينفيها عن الكعبة المشرّفة والمسجد النّبويّ الشّريف؛ لأنّه مقترن بهما؟ وبالتّالي فإنّه ينسف الدّيانة الإسلاميّة، ومن حقنّا أن نسأل أولياء نعمته عن ردّة فعلهم على هذه الحماقات، خصوصا وأنّهم سجنوا الشّاعر أشرف فيّاض لسنوات لكتابته قصيدة؟ أم أنّ السّكوت يأتي ضمن التّمهيد لهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم مكانه.

وهناك حماقات كثيرة أخرى يطول الحديث عنها، لكنّ هؤلاء "الهتّيفة" بحماقاتهم وسقوطهم السّياسيّ والأخلاقيّ يذكّرونني، بما يروى عن سعد زغلول زعيم حزب الوفد المصري في انتخابات عام 1924 التي أوصلته إلى رئاسة الحكومة، حيث جمع حزبه أنصاره ومؤيّديه ليلقي الزّعيم خطابا انتخابيّا، ووضعوا في مقدّمة الجمهور مجموعة من الهتّيفة البسطاء، وأوصوهم بأن يهتفوا عند نهاية كل جملة يقولها الزّعيم، وعندما ابتدأ الزّعيم خطابه بقوله: أيّها الأخوة المواطنون هتفوا" يعيش الأخوة المواطنون، وعندما قال ستعمل حكومتنا على توسيع الأراضي الزّراعيّة، هتفوا: تعيش الأراضي الزّراعيّة، وتوالى الخطاب والهتاف إلى أن قال الزّعيم: وستعمل حكومتنا على إلغاء البغاء العلنيّ، فارتفع الهتاف: يعيش البغاء العلني!

فهل ستفيق الأمّة من سباتها وتهتف بسقوط البغاء السّياسي العلنيّ، أم أنّها استمرأت حياة الذّلّ والهوان؟