ما بعد المواجهة الفلسطينية الشاملة مع المحتل الإسرائيلي

صبحي غندور

عناصر الأنتصار الكامل في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ما زالت غير متوفرة حتّى الآن.

جيّدٌ طبعاً هذا الصمود العظيم الذي أبدته المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، وهذه الأنتفاضة الشعبية الفلسطينية الشاملة لكل الأراضي الفلسطينية والتي وضعت حدّاً لما حصل في العقود الثلاثة الماضية من تحريف لمسار النضال الفلسطيني، ومن تقسيم وشرزمة للشعب الفلسطيني، ومن تقزيم لقضية كانت رمزاً لصراع عربي/صهيوني على مدار قرنٍ من الزمن، فجرى مسخها لتكون مسألة خاضعة للتفاوض فقط بين سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وبين الدولة الإسرائيلية التي رفضت الاعتراف حتّى بأنّها دولة محتلّة، كما رفضت وترفض إعلان حدودها النهائية!.

ولقد أظهرت المواجهة الشعبية والعسكرية الفلسطينية مدى فشل إسرائيل في تركيع الشعب الفلسطيني أو في القضاء على روح وحال المقاومة لديه، كما أثبتت هذه المواجهة ضحالة التفكير الإسرائيلي المدعوم من إدارات أميركية سابقة بأنّ لا حاجة لحلٍ عادلٍ للقضية الفلسطينية من اجل إقامة "شرق أوسطي جديد" يقوم على تطبيع العلاقات بين إسرائيل والحكومات العربية!.

صحيح ذلك كلّه، لكن من المهم اعتباره بأنّه نصف انتصار للقضية الفلسطينية ولا يجب السماح بالعودة بعده إلى ما كان سائداً قبله من حالات سلبية على المستويين الفلسطيني والعربي. فهل ذلك هو الواقع الذي يُبنى عليه الآن؟!.

 

في تقديري فإنّ الجهود الدولية، وفي مقدمتها إدارة بيدن، ستركز الآن على تعويم دور السلطة الفلسطينية من خلال مسألة إعمار غزّة، ثمّ إعادة احياء المراهنة على مفاوضات "السلطة" مع إسرائيل بإشراف "اللجنة الرباعية" التي تضم إضافة للولايات المتحدة كل من روسيا والإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وبحيث تكون الغاية في هذه المرحلة تهدئة الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية والتأكيد من جديد عن "نهج أوسلو" الذي يعتبر المفاوضات هي السبيل الوحيد للتعامل مع القضية الفلسطينية، ودون أن تؤدي التطورات الأخيرة إلى إسقاط ما تحقق برعاية أميركية من معاهدات وإتفاقيات بين إسرائيل وعدة اطراف عربية على مدى عقود طويلة.

وكما كان من خطايا "إتفاق أوسلو" تصغير حجم القضية الفلسطينية في مجال العمل السياسي وحصرها بمفاوضات بين إسرائيل و"سلطة فلسطينية" لا حول ولا قوة لها، سيكون كذلك من الخطأ الاستمرار في تحجيم عمل المقاومة الفلسطينية ضدّ الاحتلال بحصره على جبهة غزّة فقط. فلو تتحقّق فعلاً وحدة القيادة الفلسطينية ووحدة برنامج العمل على مستوى كل المنظمات الفلسطينية الفاعلة داخل الأراضي المحتلة وخارجها، لتكامل عندئذٍ أسلوب العمل السياسي ومسار التفاوض، مع أسلوب المقاومة الشعبية الشاملة في كل المناطق الفلسطينية، ومع أسلوب المقاومة المسلّحة حينما يضطرّ الأمر إلى ذلك.

فالمشكلة الأساسية كانت تكمن في الانقسام الفلسطيني الذي ازداد حدّةً بعد توقيع اتفاقيات "أوسلو"، والتي ثبت فشلها وعجزها، بعد حوالي 28 عاماً، في تأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. لذلك هي الآمال كبيرة الآن بأن تكون الوقفة البطولية العظيمة للشعب الفلسطيني في غزّة والضفة والقدس وأراضي العام 48، مدخلاً إلى توافق وطني فلسطيني يحقّق التكامل بين العمل السياسي والعمل المقاوم، بين الضفّة وغزّة وكل الأراضي الفلسطينية، وبين عموم الشعب الفلسطيني أينما كان.

طبعاً، كان من ضمن الأهداف الإسرائيلية للقصف الإجرامي على غزّة، إضافةً لإضعاف المقاومة المسلحة واغتيال قادة لها، إعادة الشرذمة للجسم الفلسطيني من خلال ما يمكن أن يترتّب على العدوان من إحراجات لقيادة السلطة التي لا تستطيع تبنّي العمل المقاوم المسلح (بسبب التزامات أوسلو) ولا يمكن أيضاً أن تقف متفرّجة على ما يحدث في غزّة.

وتستفيد إسرائيل دائماً من المواقف الأميركية التي تعتبر كلّ عدوانٍ إسرائيلي بأنّه "دفاع عن النفس"!!. فإدارة الرئيس بيدن الحالية مصابة بداء الإدارات الأميركية السابقة، التي تقف دائماً مع المعتدي الإسرائيلي ضدّ الضحيّة الفلسطيني، وتبرّر الأعمال العدوانية الإسرائيلية بحجّة الدفاع عن النفس!، حتّى دون إشارة بسيطة من الرئيس بيدن لمعاناة الحصار على غزّة منذ سنوات، أو لجذور المشكلة الفلسطينية التي هي الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود. وكانت التصريحات الأميركية عن "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها"، وبأن "لا دولة يمكن أن تقبل بتعرّضها للصواريخ دون الرد"، فيها إجحافٌ كبير بحقّ الشعب الفلسطيني. فأيضاً، لا شعب يمكن أن يقبل بالاحتلال لعقود، وبالحصار لسنوات دون أن يقاوم ذلك. ألم تكن ولادة "الولايات المتحدة الأميركية" هي حصيلة مقاومة الهيمنة البريطانية ورفع شعار "عش حراً أو مت"؟!.

فتصريحات "البيت الأبيض" والخارجية الأميركية وبعض أعضاء في الكونغرس، كلّها تكرّر ما يقوم به أحياناً معظم الإعلام الأميركي من تشويه لحقائق الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل، ومن تصوير للمشكلة الآن في غزّة وكأنّها أزمة بين دولتين اعتدت إحداهما على الأخرى! أو كأنّ ما تفعله إسرائيل في غزّة هو مشابه لما تقوم به أميركا وحلف الناتو في أفغانستان وفي أماكن أخرى من ملاحقة وقتل لجماعات "إرهابية"!. فموضوع "الاحتلال الإسرائيلي" مغيَّب عن المواقف الرسمية الأميركية ومهمَّش كثيراً في الإعلام الأميركي، كما هو الظلم يحدث أيضاً في مساواة مسألة "الإرهاب" بالمقاومة ضدّ الاحتلال.

لكن المشكلة ليست في الموقف الأميركي فقط أو في بعض المواقف الدولية الأخرى، فالأوضاع العربية الحالية مسؤولة أيضاً عن حجم المأساة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني. إذ هل كانت حكومة نتنياهو تمارس الإجرام والدمار والقتل للمدنيين الفلسطينيين، كما فعلت ذلك أكثر من مرّة، لو اقدمت الحكومات العربية كلّها على وقف العلاقات مع إسرائيل؟!، ثمّ إنّ غزّة، قبل حرب العام 1967، كانت قطاعاً فلسطينياً تحت الإشراف المصري الكامل، وتخلّى أنور السادات إثر معاهدته مع إسرائيل عن مسؤولية القطاع، فهل كان ليحصل هذا العدوان الجديد على غزّة لو ربطت مصر بين المعاهدة مع إسرائيل، واستمرارها حتى الان، وبين إقامة دولة فلسطينية تضمّ الضفة وغزّة والقدس، إضافةً طبعاً إلى ضرورة فتح المعابر بين غزّة ومصر؟! ثمّ لماذا لا تحصل غزّة والشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال على دعم مشابه لما دعمت به حكومات عربية جماعات معارضة مسلّحة قاتلت ضد أنظمتها الحاكمة في بعض الدول العربية؟!. أليس هذا مخالفٌ لما يُفترَض حدوثه عربياً من مقاومة مسلّحة ضدّ الاحتلال، ومن مقاومات سلمية ضدّ حكومات؟!.

إنّ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة استفادت من الظروف الدولية والعربية والفلسطينية على مدار عقود من الزمن إلى أقصى الحدود الممكنة، فلِمَ انقلبت الأمور عربياً بعد حرب العام 1973 التي يُفترض أنّها كانت نصراً للعرب، عمّا كانت عليه بعد حرب 1967 التي يُفترض أنها كانت هزيمة للعرب؟!.

فمِن شعاراتٍ حافظ عليها العرب بقيادة مصر عبد الناصر بعد حرب 67 : لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل قبل انسحابها من الأراضي المحتلة عام 1967، إلى التسابق على الاعتراف والتفاوض والصلح مع إسرائيل، كما حدث بعد اتفاقيات كامب دافيد ثمّ بعد مؤتمر مدريد واتفاقيات "أوسلو"؟!.

أيضاً، بعد حرب 1967، كان العرب يتحرّكون وفق إستراتيجية شاملة وواضحة للتحرير، فيها الجمع بين العمل الدبلوماسي والاستعداد العسكري، بين قبول قرارات دولية وبين حرب استنزافٍ مفتوحة على الجهة المصرية وعمليات متعدّدة للمقاومة الفلسطينية .. أمّا في "الزمن الصهيوني" الراهن، فإنّ العجز الرسمي العربي وصل إلى أقصاه حيث لا بدائل عربية لمشاريع ومبادرات السلام، ولا إستراتيجية شاملة واحدة حتّى في الإطار الفلسطيني نفسه.

فلِمَ لا يقف العجز الرسمي العربي عند سقفٍ معيّن من التراجعات؟ لماذا لا تكون المبادرة العربية التي جرى التوافق عليها في قمّة بيروت عام 2002 بمثابة الحدّ الأقصى للتراجعات العربية؟، ولماذا لا تطالب السلطة الفلسطينية والدول العربية المعترفة بإسرائيل بإعلان حدودها الدولية قبل استمرار التعامل معها في مجالات مختلفة؟، ولِمَ لا تحسم السلطة الفلسطينية أمرها بإعلان أنّها أمام خيارين: التحوّل إلى إدارة مدنية تخدم إسرائيل وأمنها واحتلالها، أو الانتقال الفعلي إلى صيغة "جبهة تحرّر وطني" تجمع وسطها كل التيارات والقوى التي تنسجم مع إستراتيجيةٍ واحدة تطالب بالحدّ الأدنى من حيث الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس الشرقية، وبناء دولة فلسطينية مستقلة على هذه الأراضي دون التخلّي عن حقوق العودة المشروعة التي نصّت عليها القرارات الدولية. وحينما تتحوّل السلطة الفلسطينية إلى "جبهة تحرّر وطني"، فسيكون من واجبها - كما هو من حقّها-  تحديد أساليب المقاومة وأمكنتها والجهات التي تقوم بها لكي لا يحدث أي خلل سياسي وأمني في الساحة الفلسطينية.

إنّ عناصر الأنتصار الكامل في المواجهة العربية والفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي ما زالت غائبة حتّى الآن. فوحدة القيادة الفلسطينية هي العنصر الأهم المفقود حالياً، وكذلك الحدّ الأدنى من الألتزام الرسمي العربي بالمسؤولية العربية المشتركة في المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي. ذلك هو الواقع الآن، إضافةً إلى استمرار حروبٍ أهلية عربية بأشكال مختلفة، وتزايد عوامل التفكّك لا التوحّد في بعض المجتمعات العربية. فكيف لا تستفيد حكومة نتنياهو من هذا الواقع العربي المزري، وكيف يأمل البعض بتغيير المواقف الأميركية والدولية لصالح الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؟!.

لكن ربّما من "فوائد" ما يحدث الآن إعادة الحيوية، عربياً ودولياً، لقضية فلسطين، التي جرى تهميشها عمداً في السنوات الماضية، وبالتالي الأمل بتصحيح "البوصلة" العربية، بعدما تسبّبت "المعارك البينية العربية" بفقدان معيار معرفة الصديق من العدوّ!.