مجزرة تدمر الذكرى الحاضرة التي لن تغيب

زهير سالم*

بعد عام فقط من الجريمة.. نال قاتل "جورج فلويد " جزاءه..

ولكن قاتل مليون سوري يعاد تأهيله وتجميله!!

والقضية هي هي. القضية نفسها ذاتها عينها. والعنصرية ضد اللون، مثل العنصرية ضد الجنس، مثل العنصرية ضد الفكر، مثل العنصرية ضد الثقافة، ضد الحضارة ، ضد الدين ..

وهل كانت الأديان منذ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسول الله، إلا أسفارا على طريق تطور وعي الإنسان وتحضره، وتحققه من إنسانيته، والنأي به لئلا يرتد لأسفل سافلين!!

والمجزرة منذ قابيل ونار النمرود، وأخدود ذي نواس، والخُشب التي رفع عليها حواريو سيدنا عيسى، والشِّعب الذي حوصر فيه أصحاب محمد، ثم منذ محاكم التفتيش تنقب عن قلوب وضمائر الناس، والهولكست النازي، وما جرى في رواندا وعلى أهلها، ومذابح المسلمين في البوسنة والهرسك، وما ارتكبه حافظ الأسد على مدى سنوات في لبنان وضد الفلسطينيين منهم خاصة، ثم ما ارتكبه في سورية وخلفه عليه ابنه؛ كل أولئك هو نوع من أنواع العنصرية المقيتة التي هي تعبير عن تردي الإنسان إلى أسفل سافلين الذي حذرت منه الأديان ...

 

وهكذا كانت مجزرة تدمر 28 حزيران / 1980 حلقة في سياق، كانت وما تزال أصوات ضحاياها تجأر إلى السماء تطلب العدل من رب رحيم..

وسبق المجزرة من قبل ثلاثة أعوام من المجازر، ارتكبت ضد الشقيق الفلسطيني، فلّت غرب المقاومة الفلسطينية في لبنان، وكسرت حدها، وأخرجتها من دولة رباط على حدود وطن سليب، وشردت رجالها خلف الآفاق ..

وكل أولئك أهّل حافظ الأسد من بعد ، لارتكاب المزيد والمزيد من المجازر، وبعد الشعب الفلسطيني جاء الدور على الشعب السوري، الذي كانت ملحمته هي الأطول على مدى أربعة عقود حيث محترفو القتل ظلوا مع كل صباح يقتلون ويقتلون ويقتلون ..

يا ويحهم نصبوا منارا من دم ...يوحي إلى جيل الغد البغضاء

ما ضر لو جعلوا العلاقة في غد ...بين الشعوب مودة وإخاء

وبالأمس حكم على الشرطي الأمريكي، قاتل الإنسان الأمريكي "جورج فلويد " بالسجن اثنين وعشرين عاما وستة أشهر، ولكن الذين قتلوا من الشعبين الفلسطيني والسوري رجالا ونساء وأطفالا ودمروا عمرانا؛ ما زالوا يُعترف بهم ، وما زالوا يُؤهلون ويمجدون، ويُوسدون، بل وما زالوا يسلّطون على شعب مستضعف أعزل، ليقتلوا كل صباح المزيد والمزيد، ما زالوا يمكنون ويؤهلون ويبغون في الأرض بغير الحق، ويقتلون الناس!! ولو استطاع مجلس الأمن أن يتخذ قرارا : لا يتنفس على الأرض السورية متنفس إلا من منخر الأسد وعلى مقاس فتحة أنفه.. وقُبّح اللكع ومن يرجوه !!

ومهما قالوا أو قلنا في "جريمة " مجزرة تدمر، فإن القول لن يوفي التوصيف الجرمي الإنساني والقانوني حقه، من حيث أنها ارتكبت ضد "معتقلين سياسيين" أو " مواطنين عزل " أو إذا شئت " محاربين أسرى " أو إذا شئت فزدت " محاربين أعداء " وهو الوصف الذي اختاره جورج بوش الابن لمحاربيه احتجزهم في غوانتنامو ولكنه لم يذبحهم كما فعل وكلاؤه في تدمر وحمص وحماة والغوطة وحوران وحلب ودير الزور وعلى كل الأرض السورية!!

ولم يبق لموقفنا في إدانة المجرم ، ولا في إدانة الجريمة المتسلسلة، مجزرة بعد مجزرة بعد مجزرة، أي معنى، مع إدراكنا أن هذا النوع من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وضد القانون الإنساني، لا تسقط بالتقادم، لا بتقادم العهد ولا بتواصل البعد. ولا يُبلي حديثَها كرُّ الليالي ولا تباعدُ الأيام ..بل ستظل حديث الوسائد، في حكايات قبل النوم يحكيها الجد، وتحكيها الجدة، تحكيها الأم وتحكيها العمة والخالة :

كان يا ما كان ، كان في سورية عميل خائن قاتل وجبان، باع الجولان، وقتل الإنسان، ودمر العمران، وكان جدك يا ولدي له بالمرصاد، فتصدى له بالثقة ؛ ولكن أهل الغدر في هذه الأرض وقفوا بجانب القاتل ، وسنوا له السكاكين ،ووثقوا له القيود وحموه من خلف وأمام الحدود ...سيحكي الزمان الحكاية، وستروي العمة والخالة الرواية ، وستحمر على مدى الزمان الأنوف ...

حديث الإدانة قد مضى زمانه ، وإنما كل الذي نريد في ذكرى المجزرة التي لا تزال وستبقى حية في العقول والقلوب حتى يأخذ العدل مجراه، أن نعيد تصنيف الجريمة في سياقيها الإنساني والقانوني ..لنقول لقد كانت "المجزرة " كما كل المجازر التي ارتكبها حافظ وبشار الأسد، جريمة عنصرية ببعد ديني وثقافي، وكان كل الذين صمتوا عنها على مستوى العالم من المتواطئين مع مرتكبها وضد ضحاياه ..!!

وكل المجازر التي تبعت مجزرة تدمر / 1980 هي في العنصرية مثلها ومشتقة منها، وحين نقرنها اليوم بانتصار العدل في محطة قاتل جورج فلويد نؤكد أن الحقيقة الإنسانية التي انتصرت مرة بعد مرة على طبقات كثيفة من التمييز العنصري، ستنتصر بإذن الله، ضد كل أشكال التمييز الديني والطائفي والمذهبي في سورية وفي العراق وفي فلسطين وفي اليمن ، وسيعلم هؤلاء الأوباش الذين يسلطهم علينا أعداء ملتنا وأعداء أمتنا أي منقلب ينقلبون ...

الله أكبر... أسمع الصوت يجلجل من وراء أسوار تدمر ، ويا لروعة الشهادة ولجمال الشهداء...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية