رسالة إلى زكريا الزبيدي ورفاقه

إلياس خوري

لا أدري إذا كانت كلمة «شكراً» تعبر عن مشاعري، ففي اللحظة التي خرجتم فيها من النفق رسمتم بأيديكم المغمسة بالتراب أفقاً جديداً. هذا الأفق هو الموضوع. صحيح أن نفسي صارت حزينة حتى الموت عندما تيقنت من أن أربعة من صناع هذا الأفق، ألقي القبض عليهم. رأيتكم مكبلي الأيدي والأرجل بعيون حُجب عنها الضوء، وأستطيع أن أرى بعيني قلبي العذابات والمعاناة التي تنتظركم بين أيدي الجلادين. غير أن النور الذي انبثق من باطن الأرض، بهر عيونكم وعيوننا. لقد حفر محمود العارضة ورفاقه باطن الأرض، وأعلنوا أن الشمس مدفونة هناك في الأعماق، تحت ركام القرى والبيوت المدمرة.

لقد رسمتم باباً للشمس بأيديكم، صبرتم حتى تعب الصبر منكم، وحين عانقتم الضوء، دخلتم فيه، ولن يستطيع الجلاد أن ينتزعه منكم، مهما تفنن في أساليب القمع والتعذيب.

لكم، فرداً فرداً، انحنى الجرمق وجبال نابلس والخليل، ومعكم استعاد مخيم جنين روحه التي صنعت إحدى أكبر الملاحم في التاريخ الفلسطيني المعاصر.

 

ستة رجال، أحدهم هو القائد الأخير لكتائب شهداء الأقصى، والخمسة الباقون ينتمون إلى حركة الجهاد الإسلامي، أنسونا انتماءاتهم الحزبية والعقائدية، وأسسوا لوحدة نضالية سبق أن اختُبرت بفاعلية في مخيم جنين تحت قيادة أبو جندل. ستة رجال خرجوا من أسطورة بطولات الأسرى إلى شمس الحرية، معلنين أن الحرية تكون حيث يكون الأحرار، وأن الأسير الفلسطيني أكثر حرية من سجانه الإسرائيلي المحبوس داخل شرنقة العنصرية والكراهية.

لا أدري يا أخي زكريا متى ستقرأ رسالتي أو إذا كانت ستصلك أصلاً، فأنا أرسلها لنفسي من خلالك، كي أقول لك ولرفاقك إن اعتقالكم من جديد لا يعني أن المغامرة التي صنعتموها اندثرت معانيها. فمن ينجح في حفر نفق للحرية في سجن جلبوع، لا يقاس نجاحه أو فشله بكمية الأيام التي سوف يقضيها مطارداً. فتى الانتفاضتين الأولى والثانية، زكريا الزبيدي، عاش سنوات طويلة مطارداً، وكان في صدد إنجاز رسالة ماجستير في الجامعة عن تجربة «الصياد والتنين». لم يكن زكريا في حاجة إلى سنوات جديدة من المطاردة كي يضيف إلى أطروحته فصلاً. ما قام به زكريا ومجموعة نفق الضوء، كان أكثر أهمية من هذه الحكاية، فهم كسروا القيد الإسرائيلي من أجل أن يحدثوا صدمة في الوعي الفلسطيني، تضاف إلى بطولات انتفاضة القدس وسيفها. هدف العملية لم يكن وصول ستة فدائيين إلى حريتهم الفردية، فهم أحرار سواء أكانوا داخل السجن أو خارجه، بل كان هدفه خلخلة أساسات السجن الفلسطيني الكبير الذي يعيش فيه أكثر من سبعة ملايين مواطن في أسر الاحتلال.

جلبوع وهاداريم والدامون وعتليت ونفحة ورمون ومجدو وكتسيعوت، وغيرها من السجون التي يقبع فيها أسرى الحرية، ليست سوى أسماء مستعارة لسجن واحد كبير اسمه فلسطين. رسالة نفق الحرية كانت بسيطة وواضحة، وهي أن لا حرية لفلسطين بوجود أسرى في السجون الإسرائيلية، ولا حرية للأسرى طالما بقي الشعب الفلسطيني مكبلاً داخل سجنه الكبير، الذي صارت زنازينه متعددة المستويات، تبدأ بجنود الجيش الإسرائيلي الذين يحتلون الطرق ويحولون الحياة اليومية إلى جحيم، وتتعرج مع المستوطنين الذين ينتشرون كالسرطان في الجسم الفلسطيني، ولا تنتهي بالتنسيق الأمني المخجل الذي حوّل المستعمَر إلى أداة في يد المستعمِر.

زكريا يعرف معنى أن يصير إنسان ما أسطورة، بما تحمله هذه الصفة من هالات، لكن فتى الانتفاضتين ورفيق علاء الصبّاغ تمرد على الأسطورة، وعاد إلى طفولته في مسرح الحرية الذي أسسته آرنا وتابعه ابنها المخرج الشهيد جوليانو مير خميس. في مسرح الحرية ولد الفدائيون، في مزيج الثقافة والفن والمقاومة كتبت الأحرف الأولى في حكاية مخيم جنين.

وعندما تعب زكريا من لعبة الحرية المستعارة داخل السجن الكبير، عاد فدائياً يقاوم في مستعمرة بيت إيل، ودخل من جديد في دورة الحياة الفلسطينية الطبيعية التي تقع بين حدي المقاومة والسجن. المقاومة بأشكالها المختلفة، من رمي الحجارة إلى المواجهة المباشرة، تقود إلى السجن، والسجن يدرب المناضلين على أشكال جديدة من المقاومة…

سوف يروي زكريا ورفاقه كيف درّبهم السجن على شكل جديد من المقاومة، وقادهم إلى باطن الأرض، حيث وجدوا قنديل غسان كنفاني الذي أضاعه الجميع. فالنفق لم يكن سوى مؤشر على ضرورة الحفر من أجل الوصول إلى الأعماق، فشمس فلسطين لم تغب، لكنها تسللت إلى أعماق الأرض، كي تقول إن الأرض هي لأصحابها، وإن ما صنعه المستعمر على سطحها ليس سوى زبد يزول أمام فدائي لا يحمل سوى ملعقة، ولا يستعين سوى بإرادته.

لو تكلم زكريا من خلف العصبة البيضاء التي غطوا بها عينيه، لقيّم التجربة وكشف الثغرات التي قادت إلى فشلها، لكنه لن يعتذر أبداً عما فعل.

زكريا لا ولن يعتذر، بل سينتظر فرصة جديدة ليخرج فيها من باطن الأرض، معلناً أن شهداء الأقصى لم يموتوا، وأن الحكاية التي نسجها مع رفاقه من فدائيي حركة الجهاد، هي الطريق.

الفدائيون لا يستخدمون كلمات ابتذلها هذا الزمن المنقلب، لذا لن يرفعوا شعار الوحدة الوطنية الذي فقد كل معانيه، بل سيعودون إلى اللغة البسيطة والواضحة التي تقول إن الوحدة يصنعها الكفاح على أرض الاشتباك. أما الذين أجّروا أرواحهم وبنادقهم للشيطان، ويبرطعون في الفساد والإفساد والنهب، فلا مكان لهم بعد اليوم.

أرى زكريا محاطاً بجلال الأسرى، يواجه آلة القمع الإسرائيلية بعينين لا تريان سوى الضوء الذي يشع في نفق الحرية، وأقول له شكراً.