الفهمَ ...الفهمَ ..فيما تلجلج عليك... وكم أضرّ بثورتنا الذين لا يفهمون!!

زهير سالم*

"الفهمَ .. الفهمَ" ذلك العنوان، من وصية سيدنا عمر بن الخطاب لقاضيه سيدنا أبي موسى الأشعري في قواعد القضاء ..رضي الله عنهما

وقوله: الفهمَ .. الفهمَ يعني الزم الفهمَ ، والتكرار للتأكيد . ومفاد الكلام أن الفهم أساس العدل وأساس الموقف. في موضع آخر من الوصية يقول سيدنا عمر رضي الله عنه لقاضيه: "افهم إذا أدلي إليك" أي افهم إذا سمعت أو استمعت، ماذا يقول الآخر سواء كان مشكوا أو شاكيا ..وأقول اليوم، وافهم إذا قرأت ولا تكن عيابة لنفسك حين تعيب المحكم أو الجميل من القول. ولا يدل على الجاهل والغبي مثل قوله، وعندما سأل ضيف حلقة أبي حنيفة الجسيم اللحيم رحم الله أبا حنيفة: وماذا لو طلعت الشمس قبل أن ينشق الفجر ؟؟ مدّ أبو حنيفة رحمه الله تعالى رجله..

في حديثه عن أركان بيعة الإخوان المسلمين يقول الإمام البنا رحمه الله تعالى "أركان بيعتنا عشر فاحفظوها" ويجعل أول هذه العشر "الفهم" ويقول وأريد بالفهم "أن تعلم أن دعوتنا إسلامية صميمة، وان تفهم الإسلام كما نفهمه" وأعتقد أن هذا الركن الأول من أركان البيعة، الأول في كل شيء من أمرها...

 

من الداء العضال الذي ابتلينا فيه، في عصر مشاعية "التعبير" أن تجد بعض الناس لا يحسن غير النزوان على النصوص والأفكار والمواقف والأحداث..!!

يريد أن يعلق أو أن يكتب ، وهذا حقه، ولكنه لم يحاول أولا أن يفهم ماذا قيل، وكيف قيل، ولماذا قيل!! ، وللقول مغزى وأبعاد وسياق، وللكاتب حين كتبهدف...

فيظل عديم الفهم يخبط خبط عشواء من تصب تمته، ويتعدى أمر سوء الفهم من موقف من "نص" إلى الموقف من "حدث" أو "واقعة" فتراه يفعل فعل "براقش" في الجناية على نفسها، وبما يتخبط فيه من سوء التفسير، واجتراح الشر على قومه، والدعوة إليه حتى ليذكرك بقول القائل وإنما مثل فلان مثل الذي يفرح بعزاء قومه !! ويتمنى بعضهم من سوء فهمه وسوء خبيئته وطويته أيضا، أن فاجعة تنزل بقومه ليتباهى بالإنكار على من فجعهم.

وأسوء ما يكون سوء الفهم أن يملك الفدم الذي لا يعي ، من أمر الناس قرارا، فيسومهم الخسف، ويركب بهم الصعب، ويتجاوز بهم الحد ، ويحملهم على التي لا تجمل.. وهو يظن أنه الألمعي الذي قد رأى أو قد سمعا...!!

ما أكثر الجناة الذين جنوا على أمتنا وعلى أجيالنا وهم في موضع الذي "يريد أن يعربه فيعجمه" يريد أن يحارب الظلم فيفاقمه!!

وإن شر ما ابتليت به ثورتنا السورية المباركة، تسلط أو تسوّد الذين لا يفهمون عليها أو على من في فضائها ...!! تسمعهم وتراهم وتتابعهم وربما تكثر حولهم الأشياع وهم في حال من يكتحل بما قالت العامة.

من قواعد الخطاب في بناء الجسور بين الناس، والدفاع عن الحقيقة، وإبراز محاسنها، أن الإنسان الذي يفهم، إذا سمع كلمة حسنة من مخالفه، أن يتمسك بها ، ويتعلق بها، وينير آفاقها، ويتوسع في ذكر ما يترتب عليها، وما تقتضيه مآلاتها يفعل كل ذلك على قاعدة (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ .. وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ) وينسى الفدم الغليظ المقابل أن أهمية الشهادة تكمن في صدورها عن رجل من أهلها، وليس من أهل يوسف فيتهمون بالتحيز له، أو الدفاع عنه...

إن الحجاج أو الحوار أو الجدال علم وفن، وأن بناء شبكات العلاقات المتعددة الأبعاد والأطراف فن آخر ، وأن الاشتباك مع الآخرين على صعيد الفكر والثفافة والسياسة والاجتماع مطلب ثالث مهم يغفل عنهم أصحاب العقول المدهامة المغلقة ذات البعد الواحد الذين يملؤون قلوب من حولهم قيحا وغيظا كما ملأ أصحاب سيدنا علي قلبه كذلك...

سوء الفهم ، وإن كان عفويا، قاتل، ولاسيما إذا حمل أحدهم رايته باسم الدين، العقيدة والشريعة ، واعتبر نفسه القيّم على سيدنا عثمان حتى يقتله، والخارج على سيدنا علي حتى يستتيبه!!

أمر ٌيشكل عليّ في تاريخ هذه الأمة، فالناس يلعنون قاتل سيدنا عمر، وقاتل سيدنا علي، فلماذا لا يلعنون قتلة سيدنا الصابر الثابت على السواء، هل هو سوء فهم أو سوء توظيف..أمرٌ فيه إنّ على ما يقولون...

في معركتنا المتمادية المتشعبة بكل أبعادها ما أحوجنا إلى علوم الذين يعلمون، وفهوم الذين يفهمون، وما أحوجنا أن يكف عنا الذين لا يعلمون..

(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)...

اللهم والذين صادروا على أبناء هذه الأمة فضاء عقولهم وفهومهم اكفنا اليوم شرورهم فقد أثخنوا فينا كما أثخن الظالمون..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية