الوثائق السرية: الجانب المظلم للسياسة والمخابرات!

رأي القدس

أثارت قضية تسريبات الوثائق السرّية الأمريكية جدلا كبيرا داخل الولايات المتحدة، كما بين حلفائها الأقربين والأبعدين، وكذلك ضمن دائرة الدول والجهات التي تعرّضت لها تلك الوثائق، بما فيها دول عربية.

وقع الضغط الأكبر على ساسة أمريكا ومسؤولي الأجهزة الأمنية، الذين أكد بعضهم أن الخرق يشكل خطرا جسيما على الأمن القومي للولايات المتحدة، واندفع بعض دبلوماسييها، لاتصالات وجولات لتخفيف الإحراج الذي تسببت به التسريبات مع بعض الدول الحليفة، كما هو حال أوكرانيا، بعد أن أوردت الوثائق تقارير عسكرية أمريكية تقلّل من قدرتها على النجاح في خطط هجوم قريب، وكذلك حال كوريا الجنوبية، التي قالت الوثائق إن أمريكا ستعير بعضا من أسلحتها، إلى كييف، من دون إعلام سيؤول بذلك، وحال إسرائيل، التي أوردت الوثائق أن واشنطن تجسست عليها، وكشفت أن جهاز الموساد شجع الاحتجاجات ضد رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو.

أظهرت بعض التقارير معلومات حساسة حول الأسلحة والذخائر التي تملكها أوكرانيا، وتقييمات محبطة لقدراتها العسكرية، ولعل أكثر التسريبات خطورة، ضمن سياق الحرب بين روسيا وحلف الأطلسي، جاء في وثيقة حديثة تقول إن بريطانيا أرسلت مجموعة من قواتها الخاصة، وإن دولا في حلف الناتو، هي لاتفيا وفرنسا وأمريكا وهولندا، شاركت أيضا في إرسال بعض من تلك القوات الخاصة، وهو ما يمكن أن يعزّز ادعاءات موسكو أنها تخوض حربا مع الحلف وليس مع أوكرانيا فقط، مع ما يمكن أن يؤدي ذلك من احتمالات اتجاهها إلى تصعيد نووي، أو جرّ بيلاروسيا إلى الحرب معها.

 

الدولتان العربيتان اللتان طالتهما التسريبات، حتى الآن، كانتا مصر والإمارات، وتزعم تلك الوثائق السرية، أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اتفق مع نظيره الروسي على إنتاج 40 ألف صاروخ لدعم موسكو حربيا، وهو ما نفته القاهرة وموسكو معا، فيما زعمت وثيقة أخرى أن عملاء المخابرات الروسية تفاخروا باتفاق مع نظرائهم الإماراتيين على التعاون ضد المخابرات الأمريكية والبريطانية، وهو أيضا أمر نفته أبو ظبي، لكنها اختارت خطا وسطا للتعليق على الخبر بالقول إنها «تتمتع بعلاقات عميقة ومتميزة مع جميع الدول».

تظهر قضية التسريبات الأخيرة هزة كبيرة في توازنات «اللعبة الكبرى» القائمة بين كبريات الأجهزة الاستخباراتية في العالم، ولابد أن الكثيرين من «قادة الجواسيس» الأمريكيين خصوصا، واقعون حاليا تحت صدمة هائلة، وأن التحقيقات الداخلية الآن على أشدها (على حد تعبير وزير الدفاع الأمريكي: «سنقلب كل صخرة حتى نجد المصدر ومن خلفه»!) وأن تبادل الاتهامات بين الأجهزة في أوجه.

بعد أن اتجهت الأنظار إلى أن التسريب جاء من وزارة الدفاع الأمريكية، خرجت تصريحات لمسؤولين، تقول إن البنتاغون لم تتم إحاطته ببعض المعلومات الاستخباراتية عالية السرية، وهو ما يوجه الشكوك إلى أن المسرّب (أو المسرّبين) قد يكونون من وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إي) أو وكالة الأمن القومي.

لأسباب عديدة، بينها تخفيف الأضرار، حاولت الأطراف المتورطة، التقليل من مصداقية بعض المعلومات المنشورة، حيث قام مسؤولون بريطانيون، بالحديث عن «مستوى خطير من عدم الدقة» محذرين الناس من «التعامل مع ادعاءات من المحتمل أن تنشر معلومات مضللة» كما قامت وزارة الدفاع الفرنسية بنفي وجود قوات لها في أوكرانيا، وأشارت، بدورها، إلى عدم صدقية وثائق «ليست صادرة عنها».

كان لافتا للنظر أن الطرفين المتحاربين، روسيا وأوكرانيا، أدليا بتصريحات متقاربة، حيث تحدثت كييف عن أن التسريبات هي مزيج من المعلومات الصحيحة والكاذبة عن جيشها، فيما اعتبرت موسكو أن تلك الوثائق السرية المسربة قد تكون في الواقع «تزويرا» يغذي حملة تضليل لخداعها.

أحد الجوانب التي قد تضيء (أو تزيد التعتيم) على موضوع الوثائق هو أن بعض المعلومات التي تحدثت عن خسائر روسيا وأوكرانيا قد تم التلاعب بها، بحيث تم تقليل الخسائر الروسية، وهو ما يمكن أن يفسّر بوجود خيط رفيع لإمكانية وصول تلك المعلومات لروسيا قبل تسريبها، أو إلى أن المسرّب متعاطف مع الكرملين، أو أنه مناهض لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن.

وسواء تبيّن الخيط الأبيض من الأسود فيما يخص هذه العملية، أو ظلّت الأمور على غموضها، فإن ما جرى يضيء على جانب مظلم من العلاقة بين السياسة والمخابرات في العالم، حيث تتم القرارات، بناء على معلومات لا يعرف أغلب البشر مدى صحتها أو خطئها.