رسالة إلى أصدقائي في المغرب

الياس خوري

وسط هذا الخراب الرهيب الذي ضرب مناطق عزيزة في المغرب ليلة السبت 9 / 9/ 2023 لا أملك الكلمات، لا لأنها تنقصني بل لأنني أنا الذي ينقصها. أنا العربي الذي يعيش في المشرق وسط خراب مادي وروحي هائل، من مخيم عين الحلوة، إلى بيروت المدمرة، إلى دمشق المحطّمة، أنا الذي يعيش وسط حطام صنعه فشلنا، وأكده الاستبداد الذي سحقَنا.

لكن الحب له قوانينه الخاصة، وخصوصاً إذا أتى من الجنوب، من ناحية فلسطين التي تصنع كل يوم جنيناً، ومن أجنّتها تولد إرادة الحياة والمقاومة وسط توحّش إسرائيلي متفلت من عقاله بلا ضوابط.

العرب تخلوا عن فلسطين، والعالم لا يريد فلسطين، ونحن الذين نعيش في ظل الاحتلال نعرف أن قدرنا ومصيرنا مرتبطان بالمقاومة وبصناعة الحياة.

من هنا يأتي الحب محمولاً على أصواتنا التي لم تنكسر فيها الإرادة. يأتي إلى المغرب محمولاً على قصيدة بدر شاكر السياب “في المغرب العربي”. هل تذكرون هذه القصيدة القديمة التي كتبها شاعر العراق الأكبر؟ أنا لا أذكر الكثير منها، لكنني أذكر العلاقة بين الأرض والنبض، ففي القصيدة يقول الشاعر: “قرأت اسمي على صخرة / وبين اسمَين في الصحراء / تنفّس عالم الأحياء / كما يجري دم الأعراق بين النبض والنبض / ومن آجُرّة حمراء ماثلة على حفرة / أضاء ملامح الأرض / بلا ومض / دمٌ فيها فسمّاها / لتأخذ منه معناها / لِأعرفَ أنها أرضي / لِأعرفَ أنها بعضي / لِأعرفَ أنها ماضيَّ لا أحياه لولاها”. هذه العلاقة بين الأرض والنبض، بين الأرض وبين إيقاعات الحياة في أجسادنا، هي التي صنعت هذا الحب وأدخلت المغرب العربي من جديد في تاريخ مشرقنا من دون قرع أي باب.

 

صحيحٌ، المغرب كان هنا دائماً. إنه الأندلس، والأندلس ليست ذكرى فقط، الأندلس ليست حنيناً فقط، الأندلس هي نافذة على الثقافة والانفتاح والحرية، نافذة فتحناها في أوروبا منذ زمن طويل كي لا يختنق العالم كما يختنق اليوم برياح التصحر والعنصرية والفاشية ورفض الآخر.

أشعر وأنا أنظر إلى المشاهد في المغرب، بأن قلبي ينخلع، لأن قلبي هناك مثلما هو هنا، ولأن روحي هناك مثلما هي هنا. قلبي في القدس كما هو في فاس، في الأزقة التي صنعها أهل الأندلس الهاربون من جحيم القشتاليين ليعيدوا بناء أندلسهم في مدينة فاس، ويحتفظوا بمفاتيح البيوت لا ليعودوا إليها، بل لتكون هذه المفاتيح مفاتيح للقلوب، مفاتيح للثقافة وللرؤيا وللتعدد وللإخاء الإنساني.

تذهب إلى المغرب لتتعلم دروس الأساتذة الكبار في زمننا: عبد الكبير الخطيبي الذي أخذنا إلى الخط العربي؛ محمد برّادة الذي نقل المشرق إلى المغرب مثلما نقل المغرب إلى المشرق؛ محمد بنّيس الذي رسم الشعر المشرقي مغربياً؛ عبد الله العروي مفكّر النهضة الجديدة؛ عبد اللطيف اللعبي الشاعر الذي حوّل الفرانكوفونية إلى أحد أشكال اللغة العربية؛ فاطمة المرنيسي التي هي إحدى رائدات الدراسات النسائية؛ وطبعاً من دون أن ننسى جان جينيه وصديقته ليلى شهيد. وفي المغرب تعلّمنا أخيراً من عبد الفتّاح كيليطو كيف نقرأ التراث ونعيد قراءة ماضينا بحاضرنا، وحاضرنا انطلاقاً من ماضينا.

هذا المغرب الشاسع الجميل الذي تفوح منه روائح مطبخ زرياب التي حدّثنا عنها للمرة الأولى الكاتب السوري فاروق مردم بك، والتي هي روائح الحضارة والنكهة والعادات الجميلة، كلها تأتي من هناك، من أرض هي لنا أرضٌ نعود إليها لأننا لم نخرج منها يوماً، لأنها كانت ولا تزال بلاد الجمع بين العرب والبربر، بين التواريخ المتعددة لثقافتنا العربية ولحياتنا العربية.

قلت في البداية إن مشكلتي مع الكلمات هي أن وصف ما يجري اليوم في المغرب ليس صعباً لأنه جرت زلازل في أماكن أُخرى من العالم، وآخرها كان الزلزال التركي السوري الرهيب، لكن لا أدري لماذا حين رأيت صورة المرأة المغربية التي تغطي وجهها بالدموع وهي تنظر إلى خراب جزء من بلادها، لا أدري لماذا شعرت بأن كل تاريخ العرب اجتمع دفعة واحدة أمام عيوننا ليوقظنا من هذا السبات الذي لا نهاية له.

لم يكتب بدر شاكر السياب عن المغرب فقط، بل كتب أيضاً عن الجزائر، وكتب أيضاً عن فلسطين، وكتب أيضاً وأيضاً عن المطر، وعن انبعاث الأرض بالمطر، وهو ينبعث مطراً، كلامه كالمطر، وصورته كغيمة مليئة بالماء. تذكرت السياب لأن السياب عندما أخذني إلى المغرب في ديوانه “أنشودة المطر”، وكتب تلك القصيدة الرائعة “في المغرب العربي”، جعلني أشعر بأنني أنتمي إلى بلاد تمتد إلى ما لا نهاية. من هنا، من شاطئ المشرق، إلى هناك إلى شاطئ الأطلسي، نعرف أن قارتَين، أفريقيا وآسيا، وبحرين، البحر الأبيض والمحيط الأطلسي ومضيق جبل طارق، هي بلاد لا تنتهي فيها الخيرات ولا الجماليات ولا الحنان ولا الحب. عن هذا المغرب أتكلم؛ المغرب الذي احتضن فلسطين دوماً، وقدم أجمل الشهداء من أجل فلسطين، ومن أجل قضايا العرب؛ المغرب الذي استقبلنا جميعاً بعينَين مفتوحتين، وجعلنا نشعر بأن لوطننا لكنة أُخرى ولهجة أُخرى هي اللهجة المغربية، وأن لهجة المغرب هي جزء من لغتنا، وأننا شعب إحدى ميزاته تعدد لهجاته التي تستوعبنا جميعاً.

لهذا المغرب أنحني اليوم للموتى، وللأحياء، للذين ينتشلون المصابين من تحت الأنقاض، للأنقاض التي يجب أن نعيد بناءها، وأقول أنتم في قلوبنا.