قوة الخطاب تنبع من مصداقية المتحدث ومن واقعية حديثه

د. سماح هدايا

قوة الخطاب تنبع من مصداقية المتحدث

ومن واقعية حديثه

د. سماح هدايا

الواقع العربي يثور ويتبدّل. وأدوات الإنتاج الثقافي والاجتماعي والفكري يحب أن تتغير، أيضا، مستفيدة من تقدم وسائل الاتصال، التي أسهمت في نشر الخبر والمعلومة والصورة. وأصبح لازما السعى إلى تقديم خطاب جديد يعيد صياغة الأفق المعرفي، في علاقة كل من الفرد والجماعة بالوطن والهوية والعالم.

وتأمّل الخطاب السوري الظاهر في ضوء الثورة والمتكلم باسمها.. يفرض تقديم نقد إيجابي جريء بهدف صياغة خطاب جديد يليق بالثورة ومشروعها وزمنها؛ لينهض بها وتنهض به.

للأسف لم ينج الخطاب السوري المعارض من الآثار التي خلفها حكم الاستبداد العنصري، والحكم الطويل لقرون الركود والانحطاط والتخلّف السابقة؛ فطالت أفكارنا وثقافتنا وسلوكنا ومرجعياتنا ووعينا.

خطابنا بحاجة إلى تخطي هذه الآثار السيئة التي احتلت موقعها المكين في العقول والضمائر والقلوب، وعلى رأسها، ثقافة الطغيان. فلم يعد الخطاب الذي تقدمه المعارضة، على الرغم من تفاوت مستوياته، مقبولا؛ فهو، في العموم، يفتقد مشروعا واضحا محددا ورؤية متماسكة، ويفتقر إلى كثير الصدق والموضوعيّة، في كل أشكال الخطاب المنطوق والمكتوب سواء في الإعلام التقليدي أو في الإعلام الالكتروني الجديد.

ويبدو الخطاب ادنى بكثير من فوة الثورة، على الرغم من أنه مطالب بحمل مسؤوليات كثيرة نابعة من طبيعة الواقع السوري الذي فيه صراع تناحري مع الظالمين المستبدين.. ومع المغروين المتعالين الذين يتمركرون على مصالحهم في رؤية الحق؛ فيتبعون الباطل والتضليل لحماية مصالحهم، ومع المخدوعين والمضللين الذين تتحكم بهم الأعراف الخاطئة التي اعتادوها وحسبوها صوابا. أو مع الذين يتحركون بجهل وغوغائية وولاءات ضيقة تحركها الغرائز. وأخيرا مع مخاطبة العالم الخارجي بتعقيده الشديد.

ويمكن توصيف الخطاب الحالي أنه:

- خصامي انقسامي، مغلق على التجربة الذاتية ومكسبها وولائها. يعمل بتخبط من دون هدف وطني ناضج ومتطوّر. فهذا لديه ولاء لفلان.. وذاك لفلان آخر...أو لحزب أو لجماعة؛ مما ينعكس انقساما وصراعا وخصاما.

- الخطاب وإعلامه منشغلان بمعارك ذاتية طاحنة لمصالح وتوجهات فئوية، يفتقران إلى استراتيجية منطقية ومنهجية. لذلك يبدو كل منهما عشوائيا ارتجاليا غير مدروس، يفتقد إلى المهنية. ويظهر انفعاليا تتحكم به ردات الفعل، لا يملك وعيا ناضجا ورؤية واقعية؛ فتسود المبالغات وسلوكيات الشتم والتحقير. وليس فقط شتم النظام وأتباعه، بل شتم البعض للبعض. فتنتشر سخرية تحقيرية وتهكم شديد وتشكيك في الآخر وتخوين. يزحر بالتهويل والتباكي وجلد الذات والآخر.

- متناقض بين بؤس النخبوية وفجاجة الشعبوية. فهو تنظيري ومتخشّب عند جيوش من المثقفين التقليديين؛ وهو منحط فكريّا ومتخلف معرفيا وقيميا ولغويا عند الجاهلين.

- محكوم سلبياً بالأيديولوجية الراسخة، غير واقعي بسبب مافيه من إسقاط وأحكام مسبّقة، تؤدي إلى التضليل. مشحون بالصراعات الفكرية التطرية التي تبتعد عن القضايا الجوهرية والمسائل المهمة. تتمركز قيه النخبوية الثقافية، فيبالع المعارضون المثقفون في قراءة الثقافة، وبنصرفون عن قراءة الواقع؛ فيضيعون في أفكار مثالية بعيدا عن الحقيقة؛ حيث الأصولية والجمود في أفكار الجميع(الإسلاميون والقوميون والماركسيون والعلمانيون والليبراليون)، برفضهم للقراءة التاريخية ونقد الذات. وحيث توصيفهم لمشاكل المجتمع وحلولها ضعيف. لا ينتجون تقدما فكريا ووعيا متينا يواكب المسائل الطارئة والمستجدات، بل يستهلكون الأيديولوجيا القديمة أو الوافدة ....فلديهم إجابات راسخة ماضوية أو أخروية ثابتة للأسئلة الثقافية والفكرية والاجتماعية.. بعيدون في معظم الأحيان عن حقيقة الصراع التحرري العادل، بسبب انشفالهم بالتنظير وتكرار الأفكار المثالية والشعارات الأيديولوجية التي لاتنعكس بقوة على أرض الواقع.

- يشط في التعاطي مع موضوع أخطاء الثورة والثوار والناشطين والمعارضين. وتنقلب معادلة الاضطهاد عندما يحمّل الشعب الذي يعاني أشد انواع المعاناة مسؤولية مستمرة عن العتف والفساد المستشري بدل استمرار الوقوف عند الأمر في أصله وجوهره، وهو نظام الاستبداد والإرهاب. المسؤول الأول عن التدمير. . كأنما الأساس في المقدمات لا النتائج..

- يكرر ما يتردد في العالم حول موضوع الإرهاب الإسلامي والأسلمة وصراع الأقليات، ويثير جدلا انفعاليا طويلا.

إن هذه الحالة من الخطاب تستدعي نقدها وتغييرها لكي يتكوّن وعي جديد يتجاوز الأزمة التاريخيّة ويتطوّر. من العطالة والتعطيل في الفكر والوجدان، إلى الإبداع والإنتاج والإنجاز. ومايكسبه قوة في الإنجاز الإنساني والوطني، انتقاله من الانفعال إلى الفعل، ومن الفوضى إلى المنهجية والمأسسة. ومن الغموض إلى الوضوح. ولعل في عمق الشعور وصدقه وفي شفافية الفهم والتعبير ورهافة التعاطف الوجداني مع الآخر قوة للخطاب يحتاجها؛ فعندما يكون القلب صادقا في الحديث والخطاب يقوى التأثير..

.أما أهم النقاط التي تفيد في تكوين خطاب واع ناضج فهي:

- منهجة الخطاب بالرؤية الواضحة وبالمصداقية والحجة والبينة والأدلة المادية والتوثيقية والبراهين، مع احترام الرأي الآخر المخالف أو المختلف واتباع الإقناع العقلي .

- بناء الخطاب على لغة عربية فصيحة راقية وإيجابية ومفهومة، وتنويعه بالقصص. والمحاورات والأمثلة والمواعظ، واستخدام المحاورات الهادفة. وفي المعرفة الثقافية المتخصصة مصداقية وقوة.

- واقعية الخطاب ليستوعب الواقع ويناقش احتياجات الحياة، ومخاطبة الناس بما يفهمون ويعقلون ونرك الأحاديث التي تثير لديهم كراهية ونفورا. وتقوية الدمائة الخطابية.

- تحرير الخطاب من سطوة الانفعالات، والتركيز على نبل المقصد؛ فشدة الانفعال تترك الإنسان يخطيء في السلوك والأحكام. فحالة الانفعال وردود الأفعال المباشرة، تأخذ المرء إلى معارك ثانوية، وقضايا غير جوهرية

- تأسيس الخطاب على المعايير، وخصوصا المعايير الأخلاقية والعلميّة. وإلا سيتحكم الجهل والتخلف وتنتشر الأكاذيب والشائعات والأفعال غير المنطقية....فيسقط الحطاب في الابتذال.

- تجنّب تفتيت الوعي الجمعي الوطني بموضوعات الأقليات. ودمج الجميع في الدولة المدنية التي تحترم الإنسان لإنسانيته وتساويه بأخيه الإنسان في حقوق المواطنة في دولة الحق والعدل والحرية والكرامة الحداثية بالمعنى العلمي والمعرقي. 

- تفعيل دور الإعلام باستخدام ما استجد من فنون وتقنيات واستراتيجيات مع اعتمادمصداقية الوسيلة الإعلامية وجديتها وضبط الخطاب الإعلامي بالقواعد والمعايير المهنية.

ونختم بالفول: إن الخطاب متصل بذاتنا التاريخية وواقعنا ووجداننا، ومتصل بالحياة ويومياتها وإنتاجاتها من معرفة وأدب وسياسة وفكر، وجدل، يحمل المعرفة ومنطق النفكير والإقناع، يحتاج منا إلى الشجاعة في التجديد، وإلى التقة بقوة الذات الوطنية، وإلى النزاهة في السلوك الوطني وإعمال العقل والنفكير؛ لكي يرسخ مفهوم الإبداع والتجديد قي كل المسائل والمقولات لإحراز تطور نوعي في مسيرة إنساننا ومجتمعنا. لتأسيس منظومة ثقافية جديدة تنهض بالوطن والأمة لترسم دورها الحضاري وسط التحديات والإشكاليات.