ثقوا بالثورة واتركوا روحها تقودكم

د. سماح هدايا

د. سماح هدايا

 سقط بالثورة العربية، داء التّنحّي عن الفعل والمبادرة، الذي أصيب به مجتمعنا العربي واستفحل خبيثا في إرادته. فالهزائم والانكسارات الكثيرة التي هدّت مشروع التّحرّر والنهضة والعدالة في أوّل اليقظة العربيّة، كانت قد أدّت إلى إعاقة شموليّة، أوقعت الإنسان العربي ومجتمعه، في مغالطة خطيرة، مفادها، أنّ هذه الأمة عاجزة تماماّ عن فعل أي شيء مفيد لصالح حاضرها ومستقبلها، انطلاقا من مقولة(هل تقاوم العين المخرز). وأصبح الناس تحت تأثير هذه المغالطة وتداعياتها، أذلاء خانعين راضخين للطغيان، لاهين عن الفعل المنتج، بالتقاط فتات العيش الذليل والفكر الهزيل، ومحاباة الحكم الاستبدادي.

 الفعل العبقريّ الذي تولّد من الثورات العربية متجليا في شجاعتها البطولية وقوة تضحياتها، فجّر مكامن الإرادة الشّعبيّة؛ فبدأت تتكسر المقولات العاجزة، وتتحطّم قوّة مراكز الطغيان والجبروت، التي عملت طويلا على البطش بإرادات البشر وعزائمهم، والفتك بروح المبادرة والفعل وتهشيم الثقة بالذات، وإشاعة رتابة رجعيّة قاتلة تسوقها منظومة الفساد والاستبداد والإفقار والتجهييل والإقصاء.

عندما تفجّرت ثورتا تونس ومصر معلنتين في ميلاد العام 2011 ميلاد الفجر الجديد للأمّة العربيّة بشعوبها الممتدة مما وراء الخليج إلى ما وراء المحيط.؛ لم يكن في يقين أبنائها الوصول إلى ما وصلوا إليه في تحطيم منطق تلك المقولة التافهة التي شاعت وتغلغلت في نخاع الإرادات لتبقي حالة البقاء للعربي الأسوأ والأضغف والأجهل، في ظل هيمنة عصابات الأنظمة الاستبداديّة؛ فقد حوّلت الثورات، فجأة، كثيرا من أبناء الأمة الذين كانوا رازحين تحت وطأة السّلب والنّهب والاستغفال وسلب الحريات والحقوق، من يائسين محبطين، إلى أبطال بواسل يقودون مشروع التحرر من واقع الطغيان والظلم، في اتجاه ميادين الحريّة والكرامة والكبرياء والعدالة.

ولم يكن الشعارالمرفوع "الشعب يريد إسقاط النظام" مطلباً جزئيّا، بل جاء نداءً وطموحا ثوريّاً يحمل عواصف التّغيير الجذري، التي جعلت جبال الخوف الجاثمة، منذ عقود، على الصدور والعقول والإرادات تتهاوى بشدّة، وتكسّر معها البنى التقليديّة المهيمنة: من الاستبداد السياسي بكلّ أشكاله(رأس النظام الحاكم، وأركان الحكم المختلفة، وقوى الأمن، وعصابات القمع، والمسؤولون الأمنيون). إلى الاستبداد الاجتماعيّ المسيطرعلى بنية الأوضاع المجتمعيّة المرتبطة، اصلاً وأساساً، بنظام السلطة السّياسي؛ فأخذ يموج حراكٌ شعبي حرّ مستقل من جموع النساء والأطفال والشباب والرجال الأحرار، وعمل على تفكيك بنية الاستبداد الاجتماعيّة القائمة والمتجذرة في الإرث التقليدي الأبوي، واضعا في أفق تفكيره وبصيرته وسلوكه أهم منظومات المجتمع المدني"لا للذل، لا للظلم والتمييز، لا للفساد، لا للطائفيّة، لا للفكر الإثني الانعزالي في مقابل ما رفعوه من مبادىء الحرية، الكرامة، العدالة. إلى الاستبداد الثقافي والفكــري، الذي كان بجبر المثقف على التّزوير والتّضليل وفقا للرؤية السّلطوية، وتجميل حكم الطاغية ونظامه ومنظومته، فكان أن اخترقت الثورة بإعلامها احتكار الأنظمة للإعلام والمعلومات ووسائل الاتصال وميادين الأدب والفن، من خلال استخدام الإعلام التكنولوجي البصري السمعي في الشبكة العنكبوتيّة، وفي صفحات الثورات، ومواقع التواصل الاجتماعي والمدوّنات، التي كانت محجوبة، وملاحق أعضاؤها من قبل أمن أنظمة الحكم الاستبدادية بدواعي السلم الاجتماعي والأمن الوطني والقومي والممانعة.

وباختصار فإن الثورة العربيّة بدأت تعمل على فك القيود عن الإنسان العربي وتحريره من أمراض الخوف والجبن والإحباط والصمت والرجعية التي أوجدتها عقود النكسات والهزائم وطبائع الاستبداد، ومايتصل بها من قمع وإسكات ومراقبة وملاحقة. وأخذت الثورة تعيد تشكيل فسيفساء العواطف والوجدان والفنون والأفكار والرؤى، بعيدا عن فلسفة تبرير الخوف والاستكانة والذلّ والتّخاذل، بحجج العجز عن مواجهة قوى السلطة المهيمنة. وبدأ الفرد يتعاطى مع واقعه بشكل جديد جريء شجاع، مصمما على نيل حقوقه وحرياته كلها غير منقوصة، راكباً مخاطر التّحرّر حد التطرّف غير مكترث بآلة الرعب، فهو يريد أن يلغي ذله ويعلي شأن كرامته، وقد آمن بذاته ودوره في قيادة نفسه ومصيره؛ فقد أدرك أنّ له حقوقا كثيرة لابدّ من أن ينعم بها، وعليه واجبات تاريخيّة خطيرة، لابدّ من أن ينجزها.

وعلى الرغم من الإنجازات المهمة التي حققتتها الثورات العربيّة؛ فهي لم تصنع إلا خطوات أوليّة. وبركان الغضب لم يبدأ بإلقاء ثورته الحقيقيّة؛ فكل ماتحقق من إنجازات ومفاجآت ومطالب هو فورة من فورات البركان العظيم، مجرّد بداية، والانفجار الكبير قادم لا شيء سيوقفه. وعلينا ألا نتعامل مع الثورة على أنها قد أتت وسوف تنتهي قريبا، أو على أنها مجرّد هبّة وسوف تمرّ وتخلف بعض النار والتغيير والإصلاح، أو على أنها جلبت الدمار للبلاد. إنها الثورة...موكب التغيير، ولايمكن قراءة الثورة بتفاصيل يومياتها فقط، وبالفجائع والنكبات، بل بأهدافها واستمرار سيرها على خط أهدافها.

 هي ثورة واقعنا وأرضنا وتاريخنا وأبطالنا. وسوف تكون قراءتها تالية، بعد مسير طويل مبارك، وليس بعين مسبقة تحتكر التقييم والأحكام. إنّها الثورة.ونحن، مازلنا، في مرحلة أولى من مراحلها، وسوف تنتج كل مرحلة حصادها وقياديها ومريديها ودعاتها، وطاقتها المتجددة التي ستبني المراحل الجديدة القادمة للدولة العصرية. فثقوا بالثورة ودعوا روحها تقودكم.