ما أجمل البلاد بغير طغاة

عبد العزيز كحيل

عبد العزيز كحيل

[email protected]

كانت الفرحة عارمة في تونس وليبيا يوم 23/10/2011  ،ولا شكّ أن كثيرا من العرب قد ذرفوا دموع الفرح وهم يرون البهجة تعمّ الناس في البلدين المتجاورين اللذين تقاسما العيش تحت أنظمة الاستبداد ردحا من الزمن، فالليبيون أعلنوا تحرير بلدهم نهائيا من حكم الطاغية ليدخلوا مرحلة بناء الدولة الحديثة في ظلّ  الحرية والعدل وحقوق الإنسان والتنمية الحقيقية والاستفادة من خيرات البترول التي كانت حكرا على " الأسرة الحاكمة " وحاشيتها، أما التونسيون فدشنوا عهد الحكم الراشد عبر صناديق الاقتراع غير المزيّفة، وقد كان إقبالهم على التصويت متجاوزا لكلّ التوقعات، وبدت هناك وهناك الرغبة في الانعتاق نهائيا من الطاغية وحكم الأسرة وعهد "الزعيم الأوحد"، ولا ينسى أحد ما عانى الشعبان من كل ذلك عقودا من الزمن، ويستحقّان اليوم شهادة شرف ووسام تقدير لإطاحتهما المدوية بالاستبداد وإعلانهما الواضح التمسّك بالهوية الأصيلة والاعتزاز بالانتماء الإسلامي .

كانت تونس سباقة إلى الثورة الشعبية السلمية التي بهرت العالم بإسقاط نظام مستبدّ متجذّر ثم بإنجاح انتخابات تعددية جرت بشكل حضاري رفيع المستوى، لكن ليبيا اضطرّت لحمل السلاح للدفاع عن شعب بأكمله كان الطاغية يهدّده بالمحق، وأكرمها الله بنصر مؤزر يفتح الباب للحياة السياسية النظيفة، وبين تونس وليبيا نجحت ثورة مصر وهي تشقّ طريقها نحو استكمال بناء دولة المؤسسات المنتخبة رغم التحديات الضخمة.

ولا شكّ أن الإنسان إذا زار هذه البلاد المحررة يحسّ بطعم الحرية ويشمّ رائحتها ويتقلب في أعطافها ويكتشف مع الشعوب المتحررة جمال البلاد العربية عندما تنعتق من الاستبداد ، فهو وحده الذي ساق إليها القبح الحسي والمعنوي، والأقطار العربية كلها أرض جميلة يطيب فيها العيش، حباها الله باحتضان أقدس الأماكن الدينية، وبتنوع المناخ وجمال البحر والأنهار والسهوب والغابات والصحراء، وأنعم عليها بنعمة النفط التي تدرّ أموالا طائلة، فهي مهوى أفئدة المسلمين ووجهة السياح، ولكنها إلى عهد قريب كانت عبارة عن سجون كبيرة لا مكان فيها لحرّ أبيّ، حتى تجرأ محلّلون ومراقبون وكتّاب فاستنتجوا أن العرب لا يناسبهم إلا النظام الدكتاتوري، وفسروا ذلك بالإسلام والتاريخ و...الجينات أيضا !!، وجاءت الثورة تكذب هذا التحليل وتؤكد أن العرب بشر قبل كل شيء، تواقون للحرية والكرامة والاستمتاع بالحياة كغيرهم من شعوب الأرض، وامتدت شرارة الثورة – بعد انتصارها في تونس ومصر -  لتهدّد الأسر  الحاكمة في اليمن وسوريا، وهي منتصرة هناك لا محالة إن شاء الله لتعمّ كل الأقطار المحرومة من نعمة الحرية، وليكتشف كل الناس بعدها أن بلادنا جميلة عندما تخلو من الطغاة المستبدّين، ولن يؤخّر هذه اللحظة ، ولن يوقف تيار التحرير والتغيير لا طابور خامس متربّص ولا فتاوى علماء السلاطين الجاهزة المثبّطة للشعوب والمؤيّدة للباطل والجور والفساد ،لأنّ المنطقة العربية تهيّأت للانفجار وأخذت موقعها في طريق الانسجام مع سنن الله في المجتمعات ، وهي سنن أو قوانين لها نفس "علمية" وصرامة ووضوح القوانين الفيزيائية والطبيعية لمن أحسن التدبّر والفهم والتنزيل.

أجل ، تواجه الثورات المنتصرة تحديات ضخمة ،وتنتظرها ورشات متعدّدة تتّصف كلّها بالخطورة والضخامة والاستعجال ، وهذا أمر طبيعي تعرفه الشعوب والأطراف السياسية والمجتمع المدني ، ولا مفرّ من اقتحام العقبة وبذل العرق والجهد والتحلّي بالصبر واستجماع الكفاءات من كلّ مكوّمات المجتمع ليتحمّل الجميع مسؤولية الانتقال السلمي إلى الحياة المدنية الراقية والاستقرار الؤسّسي وتسيير الاختلافات وبعث التنمية ،ويهون كلّ هذا أمام العمل الأكبر والأصعب المتمثّل في إعادة صياغة الإنسان بتحريره من أوهامه وتحصينه من قبول الاستبداد بأي شكل من الأشكال وتفجير طاقاته الابداعية في كلّ المجالات وجعله يُثبت ذاته ويمسك بمصيره بنفسه متوكّلا على الله معتمدا على العلم والايمان رافضا لجميع أنواع الوصاية الفوقية ، ولا شكّ أنّ هذا في حاجة إلى ثقة في الله وفي الشعب وإلى أدوات بعضها مقتبس بذكاء من التجارب الانسانية التاريخية والمعاصرة ، وبعضها مبتكّر غير مسبوق تتفتّق به قرائح الأحرار والحرائر .

سيستعجل كثير من الناس قطف الثمار ويريدون تغيير كلّ شيء في فترة وجيرة ، وستتزاحم الأولويات على السياسيين والدعاة والمصلحين والمؤسسات الجديدة ، ورضا الناس غاية لا تّدرَك ، لذلك يجب ألاّ ينسى الشعب زمن القهر والكبت والظلم وأن يستشعر حجم التركة السلبية وثقَلَها ويتحلّى باليقظة والحسّ الوطني ويتسلّح بالصبر والعزيمة ويقدّم أداء الواجبات على المطالبة بالحقوق في المرحلة الأولى من انتصار الثورة على الأقلّ ،لأنّ الاستعجال والإلحاح في المطالب المختلفة – ولو كانت مشروعة – باب يدخل منه المتربّصون وأعداء الثورة ورموز العهد البائد ليُفسدوا الفرحة ويخلطوا الأوراق ويُعيقوا السير الطبيعي لمؤسّسات الدولة الوليدة التي تحتاج إلى وقت وتجربة لتكتسب الخبرة اللازمة لتسيير شؤون البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلاقاته الخارجية وغيرها ، وهذا غير خاف على قادة الرأي الذين لا يُسعفهم شيء أفضل من عرض مشروع واضح على الشعب ،والصدق في التعامل معه ،والرجوع إليه في جميع الخيارات الكبرى ،وتبصيره بالتحديات والتضحيات ،ومدّه يوميا بجرعات قوية من الأمل ،وجعله يستمتع فعلا بأجواء الحرية ويلمس ثمراتها بعد أن تجرّع غصص الدكتاتورية وحُرم من الابتسامة والسرور والتفاؤل ، عسى أن يتذوّق طعم العيش الهنيء في بلاد عربية إسلامية بلا طغاة مستبدّين ولا حكّام متألّهين، فذلك هو الحصن المنيع الذي يحول دون الانتكاسات.