افتتاحيات 20-08-2011

حمص - دم وشموخ وابتسامة

د. أسامة الملوحي

حمص اليوم هي التفاؤل العظيم بالنصرالمبين ففي حمص دمٌ وشموخٌ وابتسامةٌ.

حمص اليوم هي التفاؤل بحتمية انتصار الثورة السورية المباركة بإذن الله الجليل

كل من يريد ان ينهي يومه بمعنويات عالية يشاهد مقاطع لاحدى أمسيات الثورة في حمص فيمتلئ ثقة وعنفوانا وطمأنينة .

حمص آمنت بنصر الله قبل أن تنتفض وتزداد يقينا بنصره كل يوم وتوزع للثوار في كل سورية نفحات هائلة من التفاؤل واليقين كل ساعة .

حمص آمنت فانتفضت من البداية بعد ومع حوران البطولة واجتمع بين الأرضين الثورة الحمراء والتربة الحمراء ,احمرارتربة البراكين واحمرار الدم المنتفض .

في حمص سال الدم ثم سال وظل يسيل وظن كثيرون أن اهل حمص أهل النكتة والطيبة لن يحتملوا سيلان الدم وضريبته ففوجئوا بأن أهل حمص يقدّمون في كل يوم شهداء ولا يتوقفون .بل كانوا يتساءلون بظرافتهم في اليوم الهادئ : أين السفاحين لنواجههم بصدورنا العارية .في حمص ايقن أهلها كسائر الثوار في سوريا أنهم ماضون لإحدى الحسنيين بعضهم للجنة وبعضهم للنصر العظيم .

في حمص شموخ كبير منبعه اليقين العظيم بنصر الله وفتحه القريب .وقد حاول النظام الفاشي مع حمص لكسر شموخها حاول فعل كل شيء ,

اعتقل من حمص آلاف الشباب وشمل النساء ولم ينس الاطفال أن يزجهم في المعتقلات ومارس كل أنواع التعذيب الوحشي ولم يتأثر شموخ حمص الا ازديادا .

ومع الشموخ ابتسامة تقول (يا الله الذي لا يدخل السجن مو سوري)

اجتاحت دبابات النظام الفاشي حمص مرات ومرات ولكثرة المرات اهملنا الحساب وقصفت الدبابات البيوت ودمرت السيارات والممتلكات وفي كل مرة يظن النظام أنه قد قمع الثوار وأسكتهم ولو الى حين قصير فيفاجأ فورا بعد كل اجتياح باستمرار وشموخ وابتسامة تقول (دبابة بالشارع احسن من قناص على السطح )

وأثناء اجتياح الدبابات كان الثوار يتصدون لها بقاذفات (شحوار),وقنابل (بيتنجان) المضادة المترافقة مع رشاشات البامية الثقيلة.

وتعمد النظام في كل عملياته القمعية في حمص لكسر شموخها تعمد أن يوقع أكبر عدد من الشهداء والجرحى وفي كل يوم .ويبدو أن النظام الجاهل لم يعرف ان أهل حمص قد تعاهدوا على ارسال اثنين مكان كل شهيد يسقط او معتقل يغيب .وهم يرددون عهدهم ويكررونه كل حين .

ومع الشهادة لا تغيب الابتسامة في حمص .

والله لقد جزم كل من رأى وشيع الشهداء أن محياهم كان باسما وأن على وجوههم سعادة وفرحة. انهم كما قال الجليل فرحين ويستبشرون .

هذه هي حمص اليوم نموذج ومشهد عن كل مدن سوريا وفي كل مدينة سورية نموذج ومشهد للتضحية والشموخ لا يقل ولكن قد تكون حمص قد أضافت الابتسامة للدم والشموخ لتعطي التفاؤل والامل ...انها حمص فيها الدم والشموخ والابتسامة ...........سلام على شهدائها مع كل شهداء الثورة السورية المباركة .... والله اكبر.

               

ثوار سوريا يشكرون ثوار ليبيا

م. عبد القادر زيزان

[email protected]

مع بدء عمليات تحرير طرابلس احتفل البنغازيون ببداية النصر المحتوم للحرية على الظلم والطغيان ، كذلك في سوريا شعر ثوارها أن الحل العسكري الأمني لن يجدي نفعاً في وقف عجلة التغيير نحو الحرية .

صحيح أن ليلة الواحد والعشرين من رمضان لم تغطي ثورة سوريا إعلامياً بسبب سخونة الحدث في طرابلس لكنها رفعت المعنويات بشكل غير مسبوق وجعلت ثوار سوريا يفكرون كما فكر إخوانهم ثوار ليبيا .

ثوار ليبيا جعلوا تلك الليلة المباركة فتح مكة عنوان فتح طرابلس والثوار في سوريا يفكرون في جعل ليلة القدر - السابع والعشرين من رمضان - ليلة قدر سوريا .

التجهيزات واضحة لا تخفى على أحد ، سخونة المظاهرات في حلب الثورة باتت على درجة عالية من التنسيق – تجمع أحرار حلب وريفها للتغيير السلمي مثالاً .

حشود حي الصاخور لم توقفها أسلحة الشبيحة التقليدية من سكاكين وعصي كهربائية فباتوا يستخدمون الرصاص الحي والقنابل الصوتية والمسيلة للدموع ، رغم ذلك كانت وستظل الحشود بعشرات الألآف ، ودخول ثوار حلب الحديقة العامة وساحة سعد الله جابري متحدين الكثافة الأمنية في يوم ذكرى غزوة بدر ( بدر حلب ) كانت لها دلالات واضحة على بداية سقوط النظام الإجرامي كما سقط في الريف .

دمشق كذلك الأمر لأول مرة مظاهرة قرب منزل بما يسمى الرئيس (المخلوع قريباً بإذن الله) لم يفصل بينها إلا أمتار قليلة ، وسماع دوي إطلاق نار كثيف في مقر الحرس الجمهوري يدل ذلك أن دائرة الولاء قد انحسرت جداً والتفكك ينخر فيها ، بمعنى آخر قلب العاصمة بات مسرح ثورة ساخنة يومية .

لذلك سارع الغرب بطلب التنحي بعد تقييم الوضع في حلب الشهباء ودمشق الفيحاء ووضعهما في خانة الخروج عن السيطرة كما في المحافظات الأخرى ، فسوريا اليوم كلها ثورة .

الحسم في العشر الأواخر وبشائر النصر في ليلة القدر .. تشكرات ثوار ليبيا ..

               

حكم دفع الزكاة لمنكوبي الشعب السوري

د. عامر أبو سلامة

يسأل بعض الإخوة, عن حكم دفع الزكاة, للمنكوبين من أبناء الشعب السوري, هل هذا جائز, أم أنه لايجوز؟

نقول بعد حمد الله تعالى, والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وآله الأكرمين, وصحابته أجمعين, وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:

الشعب السوري يمر بمحنة كبيرة, وتحل به كارثة ضخمة, وإن مصاب هذا الشعب أليم, وجرحه عميق, آهات وأنات في كل بيت, شهداء وجرحى في كل مدينة وقرية, معتقلون بالألوف, مشردون ونازحون لا يحصون عدداً, أيتام وأرامل, منكوبون وكثير( خربت بيوتهم).

ذلك أن هذا الشعب, قام ليؤدي واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والنصح والتغيير, وقول الحق عند سلطان جائر, ورأى أن هذا النظام المجرم لابد من الوقوف في وجهه, نصرة للحق, وإبطالاً للباطل, وهذه المسائل من الواجبات الشرعية, التي جعلها هؤلاء الإخوة على عاتقهم, ونهضوا بواجب القيام بها, كل ذلك بالطرق السلمية, وكان شعارهم الأساس في هذا الشأن, سلمية هذه الثورة, ورفضوا ماعدا هذا, خرجوا إلى الشوارع متظاهرين, وفي الميادين معتصمين, وللشعارات مرددين, وللمباديء التي يريدونها يهتفون.

إلاّ أن النظام الفاجر, الذي اعتاد القهر والظلم والقمع, لم يرق له هذا الحراك المبارك, فقابله بالحديد والنار, قتلاً وتنكيلاً وتعذيباً, لهؤلاء السلميين, الذين خرجوا بصدور عارية.

أدخل النظام الفاجر دباباته وآلته العسكرية, إلى المدن والقرى, وارتكب جرائم وفظائع في حق هذا الشعب الأعزل, لم يرحم صغيراً, ولم يقدر كبيراً, ولم يفرق بين ذكر وأنثى, بل مارس عمليات اجتثاث بكل ماتحمل الكلمة من معنى, فالوضع العام يحكي قصة مأساة شعب, على يد نظامه الفاجر المجرم, الذي لايعرف قيمة من قيم السماء والأرض, يلتزم بها ويعمل على ضوئها, فلا هم له إلاً كيف يبقى على كرسي الحكم, لينهب أكثر, ويمارس الفجور بكل مفرداته, ومنها تكميم الأفواه, وسجن الأحرار, وتعذيب الأبرار, وقتل الأخيار, وتشريد الثوار.

لذا ياأيها الإخوة الكرام في كل مكان, يجب علينا أن نقوم بواجب النصرة لهؤلاء الإخوة الذين يقومون بهذا الواجب العظيم في التصدي لهذا النظام المجرم, وأن نعينهم ولو بدرهم من أجل تجاوز هذه المحنة التي هم فيها.

يقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) [المائدة] ولاشك أن دفع زكاة مالك لهذا الشعب المنكوب, من أعظم أبواب البر, وأوسع أبواب التقوى. وفي الحديث المتفق عليه, عن زيد بن خالد الجهني- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ( من جهز غازياً في سبيل الله, فقد غزا, ومن خلف غازياً في أهله بخير, فقد غزا).

والمسلم أخو المسلم, فلا يخذله, ولا يسلمه, ويجب عليه أن ينصره, ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتناصرهم وتعاطفهم, مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى, كما جاء في الحديث المتفق عليه, من حديث النعمان بن بشير- رضي الله عنه.

وهاهم إخوانكم في سورية, يعانون ما يعانون على يد هذا النظام المجرم, فأين المدد الإسلامي, لنصرتهم والوقوف إلى جانبهم في نكبتهم؟؟؟!!!!

وبناء على ماتقدم, فإنه يجوز دفع الزكاة, لشعب سورية المنكوب, لأن إغاثتهم واجب شرعي, وضرورة إنسانية, ورحمتهم لازم ضروري (ومن لا يرحم الناس, لا يرحمه الله) كما جاء في الحديث المتفق على صحته.

يقول الله تعالى: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله) [ التوبة]

وإخوانكم أبناء الشعب السوري المنكوب, فيهم عوائل الشهداء- رحمهم الله- الذين تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً, ونساء, فهؤلاء يدخلون في صنف الفقراء والمساكين, وفيهم عوائل المعتقلين الذين لا يجدون ما يسد الرمق, يدخلون قطعاً في هذا الصنف, وفيهم المشردون والنازحون الذين انقطعوا عن أهليهم وأموالهم, فيدخلون في أكثر من صنف في الآية الكريمة, وفيهم الذين أحرقت منازلهم ومحالهم ودكاكينهم, فما عادوا يملكون شيئاً, ومنهم الذين يطاردهم الشبيحة, فترك أهله وعمله فيحتاج إلى إغاثة, فآية الزكاة تشمله, ومنهم من يشمله قوله تعالى: ( وفي سبيل الله) إن أخذناها على مذهب جمهور العلماء, تنطبق عليهم, إذ هم في جهاد سلمي, لكن فيه آلام وجراح, وإن أخذنا بقول بعض العلماء في توسيع مفهوم وفقه ( وفي سبيل الله) فإنا نجد بغيتنا في هذا المقام فيسعنا حتى ندخل فيه كثير من الحالات التي تنتظم المفرغين لعمل الثورة, وما لا يتم الوجب إلاّ به فهو واجب.

فابذلوا أيها المسلمون زكاة أموالكم, لشعب سورية المنكوب, ولكم الأجر والثواب - بإذن الله تعالى- ادفعوا الزكاة لأبناء الشهداء وللأرامل والثكالى, ادفعوا زكاتكم لأبناء المعتقلين, ادفعوا زكاتكم للأيتام, ادفعوا زكاة أموالكم لنصرة الحق, ادفعوا زكاة أموالكم لدفع الظلم, ادفعوا زكاة أموالكم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ادفعوا زكاة أمولكم للمشردين, ادفعوا زكاة أموالكم للذين صاروا يفترشون الأرض, ويلتحفون السماء, ويعيشون بالعراء, ادفعوا زكاة أموالكم, لشعب تسلط عليه الآلة العسكرية فتحرق الأخضر واليابس, ادفعوا زكاة أموالكم للجرحى, ولتأمين العلاج, وقد حرمهم النظام من هذا, فأغلق المستشفيات, وصارت المساجد دور علاج. الله...الله في إخوانكم, فإن الله سائلكم عنهم يوم القيامة, ماذا قدمتم لهم؟؟

بل نقول: يجب إعطاء المنكوبين في سورية, من المال ما يغطي حاجات المحنة التي هم فيها, ومن كل الجوانب, ولا نتقتصر على الزكاة فحسب,

واعلموا أن الله يعوضكم ويخلفكم خيراً مما قدمتم, قال تعالى:( وما أنفقتم من خير فهو يخلفه) [ سبأ]

وفي صحيح مسلم, من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: ما نقصت صدقة من مال).

وفي الحديث المتفق عليه, عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : ( ما من يوم يصبح فيه العباد, إلاّ ملكان ينزلان, فيقول أحدهما: اللّهم أعط منفقاً خلفاً, ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)

ولا يستقلنّ المرء ما يبذل, ودرهم سبق ألف درهم, وفي الحديث المتفق عليه, عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة).

والحمد لله رب العالمين.

               

دعوة المسيحية إلى العقل

ميشيل كيلو

يبدو أن الخراب صار عاما إلى الدرجة التي تجلعنا نغادر ونحن سعداء خير ما كان في حياتنا من عادات وتقاليد تضامنية ومفيدة. في طفولتي الأولى، اصطحبني والدي من القرية التي كان يخدم فيها كدركي إلى اللاذقية. خلال سيرنا في الشارع، كنت ارتبك واخف عندما يترك يدي أو تمر واحدة من السيارات، النادرة جدا تلك الأيام. وبينما نحن على هذه الحال، بدأ الخلق يغلقون حوانيتهم ويقفون أمامها لتلاوة الفاتحة، بينما كان المسيحيون يرسمون إشارة الصليب، ووالدي يقف باستعداد رافعا يده نحو رأسه بتحية عسكرية نظامية، بعد أن جمع قدميه بعضهما إلى بعض في وقفة انضباطية رسمية. بعد مرور الجنازة، علمت أن المتوفى كان رجلا يهوديا من آل شيحا، الأسرة المعروفة والمحترمة في لاذقية ذلك الزمن، رغم أنه لم تكن تفصلنا فترة طويلة عن مأساة فلسطين وتخلي الصهاينة العرب عنها للصهاينة اليهود .

... واليوم، تعقد في مكان محدد من دمشق حلقات رقص ودبكة وغناء، يمجد خلالها النظام القائم وتعظم رموزه، مع أن رائحة الموت تزكم أنف سوريا من مكان الرقص السعيد إلى أبواب بيوت وأحياء كثيرة يقتلها الحزن. ما الذي جرى للناس ولسوريا، حتى انقسمت إلى هذا الحد، وفقد بعض ناسها الشعور بالتضامن مع غيرهم؟ ممن يطلبون شيئا يريدونه للجميع، يفتقر إليه السوريون - بمن فيهم هؤلاء الراقصون في حضرة الموت - هو الحرية، ويعلنون في كل مناسبة أنهم يرون حتى في الراقصين أخوة لهم، وأن حريتهم هم أيضا، يجب أن تكون مضمونة بقوانين الدولة المدنية الديموقراطية، التي تستحق أن يضحي المرء من أجلها؟ أين كنا وأين صرنا؟

هذا الذي قلته هو مجرد مدخل إلى المسألة التي أريد مناقشـتها. صحيح أن الراقصين يمثلون أنفسهم فقط، بدليل أن هناك نيفا وستين صبية وشاباً مسيحيين اعتقلوا خلال الأسبوع الفائت وحده في حي باب توما، حيث يرقص هؤلاء. وصحيح أن الراقصين أحرار في أن يحبوا ويكرهوا من وما يريدون، لكن موقفهم يتحول إلى مشكلة بقدر ما يوهم بأنه يعكس حصة المسيحية السورية الرسمية من الأحداث العربية عموما والحدث السوري بوجه خاص، ويعد خروجا على تقاليد مجتمع يحترم الموتى، بغض النظر عن دينهم، وضربا من سلوك غير إنساني يصل إلى حد الرقص على جثث الآخرين، لمجرد أنهم ليسوا من طينة الراقصين، أو لأن هؤلاء يرفضون مواقفهم، مع أن بينهم ضحايا يجب أن يمتنع الراقص عن إبداء سعادته لمقتلهم هم جنود الجيش وعناصر جهاز الأمن!.

هل فاتت الراقصين هذه الحقيقة، وهل فات من يستطيعون التأثير عليهم أن رقصهم قد يفضي إلى مزيد من القطيعة والعداء بين مكونات الشعب الواحد، التي عاشت متآلفة متآخية على مر تاريخ يمتد لنيف وألف وخمسمائة عام، احترم المسلمون خلالها الوجود المسيحي في دياره، وحموه ودافعوا عنه، واعتبروه جزءا من ديانتهم الخاصة ووجودهم الثقافي والحضاري، ومكنوه من تجاوز محن وتحديات تاريخية هائلة الخطورة كالحروب الصليبية، التي دأبوا إلى اللحظة على تسميتها «حروب الفرنجة « لفصلها عن الدين المسيحي، وكالاستعمار الأوروبي، الذي لعب التبشير الديني دورا تمهيديا خطيرا في الإعداد له، ودورا لا يقل خطورة في ديمومته وسطوته، بينما لعب المسيحيون العرب، بالمقابل، دورا لا يقل أهمية في بناء وتوطيد الدولة العربية / الإسلامية، وفي التأسيس الفكري والمعرفي للثقافة التي عرفتها حقبة الازدهار التي أعقبت انتشار الدين الحنيف في أرض العرب. في حين بلغ التسامح المتبادل درجة جعلت الفهارس العربية، التي تحدثت عن علماء المسلمين، تبدأ بأسماء بن بختيشوع وحنين ابن إسحاق وسواهما من علماء الدولة والحضارة المسيحيين، من دون أن يجد مسلم واحد غضاضة في ذلك أو يسجل التاريخ أن أحدا من المسلمين اعترض على اعتبار هؤلاء العلماء المسيحيين مسلمين .

كان المسيحيون جزءا من الجماعة العربية / الإسلامية، ولأنهم رأوا أنفسهم بدلالتها، وليس بأية دلالة سياسية ضيقة، تمكنوا من لعب دورهم في حاضنة واسعة وعامة اعتبرتهم جزءا تكوينيا من نسيجها، لا حياة لها بدونهم، وبالعكس، لذلك حرصت عليهم وأبقت على إيمانهم، الذي لم يحفظ التنوع داخلها وحسب، بل وازدهر أيضا بفضل التكامل والتفاعل مع مكوناتها الإسلامية وغير الإسلامية.

بكلمات أخرى: لم تكن الجماعة - الأمة - المسلمة ترى الآخر في مسيحييها، بل كانت ترى نفسها فيهم أيضا، فهم هي، في صيغة خاصة، مغايرة. وكل مساس بهم يعد مساسا بوجودها وتكاملها وطريقتها في العيش، كما في تسامحها، الذي كان معياره الرئيس الموقف من المسيحيين وديانتهم. بينما استعرت في الوقت على جبهات التنوع الإسلامي الخاص صراعات قاسية لم تعرف التسامح في أحيان وحالات كثيرة. بدورهم، اعتبر المسيحيون أنفسهم جزءا تكوينيا من جماعة تاريخية سابقة للدولة والسياسة، فلم يروا حقوقهم بدلالتهما، لأن الجماعة نفسها لم تكن تنكر عليهم حقهم في الصعود والارتقاء داخلها، دون تمييز اجتماعي أو أخلاقي، حتى أنها سمحت لهم في بعض الحالات باستثناءات تتعلق بدورهم العسكري في الدولة، الذي كانوا عادة وتقليديا بمنأى عنه .

هل فقد مسيحيو العصور الحديثة هذا الدور وتحولوا من جزء في جماعة تاريخية إلى جزء من سلطة طارئة وعابرة، فبدلوا دورهم وغربوا أنفسهم عن حاضنتهم المجتمعية، التي كانت السلطة من خارجها معظم الوقت؟ وهل يعبر الرقص الحديث عن هذا الموقف بالطريقة الفظة التي يتقنها منخلعون عن الواقع يجهلون أو يزدرون تاريخهم، يظن من رباهم كنسيا على عنصرية دينية قاتلة أنهم يجب أن يكونوا كأسلافهم خدما للسلطة، وأن عليهم تمضية أعمارهم في اتقاء شرورها وخطب ودها ولعق قفاها؟

إذا كان هؤلاء قد أصبحوا جزءا من الســلطة، فما هي المزايا الـتي عادت عليهم من لذلك؟ هل يبرر التحاقهم بالسلطة انفكاكهم عن الجماعة التاريخية، التي لطالما انتموا إليـها وتكفلت باستــمرار وجودهم بينها، وبتمتعهم بقدر كبير من الحرية الدينية والمدنية، علما بأنها هزيمتها على يد السلطة الحالية ليست غير ضـرب من المحال أو من المصادفات العابرة؟ هل وازن هؤلاء بين الربح والخسارة، وقرروا الرقص على جثث الجماعة؟ وفي هذه الحـالة، ألا يرون ما وقع للمسيحيين في العراق، حيث كان ارتباطهم بالسلطة المسوغ الذي استخدمه مجانين الإسلاميين للقــضاء على وجودهــم في بلاد الرافدين؟ وهل فكر المسيحيون بالمعنى التاريخي الهائل للتغيير الذي يشهده العالم العربي الآن، وبانعكاساته على الجماعة التي ينتمون إليها وعليهم هم أنفسهم، ويرجح أن تعقبه حقبة نهوض غير مسبوقة ستبدل أوضاع المجتمعات والدول، ستكون قيمها متفقة لأول مرة في تاريخنا مع القيم التي يقوم عليها العالم الحديث، وستتيح مصالحة تاريخية تطوي صفحة الصراع بين عالمي الإسلام والمسيحية الأوروبية، الذي بدأ عند نهاية القرن السابع الميلادي واستمر إلى اليوم، دون أن يتأثروا هم بنتائجه، مع أنه شهد مراحل حلت خلالها هزائم جسيمة بالمسلمين؟ يبدو أن الكنائس المسيحية لا تفهم ما يجري، ولا تفكر بلعب أي دور جدي فيه، وأنها تفوت السانحة الفريدة على الجماعة التي تنتمي إليها، وهي في غالبيتها من المسلمين، وعلى نفسها، وتفضل البقاء حيث هي: إلى جانب الظلم والاستبداد، والرقص على أشلاء الأموات المظلومين.

والآن، وبما أن الدين ليس ملك الكنيسة، التي تبلد شعورها وفقدت علاقتها مع الواقع ومع حساسية المسيحية الإنسانية، ولأن للعلمانية الحق في ممارسة وفهم الدين بالطريقة التي تريدها، خارج وضد الكنيسة أيضا، فإنني أدعو العلمانيين من مسيحيي المولد إلى فتح نقاش أو عقد ندوة حول موضوع وحيد هو سبل إعادة المسيحيين إلى موقعهم الصحيح من الجماعة العربية / الإسلامية، وإلى دورهم الثقافي / المجتمعي في خدمتها، بعيدا عن أية سلطة غير سلطة الجوامع الإنسانية والمشتركات الروحية والمادية التي تربطهم بها، في زمن التحول الاستثنائي الذي لا سابقة له في تاريخ العرب، ويمثل فرصتها لامتلاك وبناء الدولة التي تعبر عن حريتها وحضورها في شأن عام عاشت المسيحية فيه وبفضله، لأنه كان مرتبطا بالدولة في مفهومها المجرد والسامي، ومنفصلا عن شأن سلطوي استبدادي الطابع والدور، مما حمى المسيحية من شرور وبطش السلطوية وغرسها بعمق حاضنتها الطبيعية، المستقلة نسبيا عن السلطة والسياسة، بفضل الإسلام وفضائه الإنساني: المتسامح والرحب .

إذا كان العلمانيون في الدول العربية المختلفة يدركون أهمية هذا التحول التاريخي، الذي يجب أن يرد المسيــحية إلى مكانها الصحيح من مجتمعاتها، فإن واجبهم يكون المبادرة إلى فتح هذا النقاش أو عقد هذا المؤتمر الذي لا بد أن يضم ممثلين عنهم يلتقون في بيــروت أو القاهرة، يتدارسون خلاله كل ما هو ضروري لرد المسيحية إلى موقعها التاريخي كجزء من المجتمع العربي / الإسلامي، يخوض معاركه ويشاركه مصيره، يفرح لفرحه ويحزن لحزنه، ويرفض اعتبار نفسه جزءا من سلطاته أو خادما لديها، فيتقاسم مع مواطنيه أقدراهم، سهلة كانت أم صعبة. بغير ذلك، لن تبقى المسيحية في هذه المنطقة، وسيكون مصيرهم كمصير النظم التي يخدمونها: على كف عفريت، خاصة إن انتصرت بالفعل جماعات الإسلام السياسي المتطرفة، التي ينتحرون اليوم انتحارا مؤكدا لشدة خوفهم غير المبرر منها، ولا يجدون طريقة يردون مخاطرها بواسطتها عن أنفسهم غير الارتباط المجنون باستبداد يعلمون تماما أنه إلى زوال مهما طال الوقت، وأن طريقهم إلى التوطن في قلوب وعقول مواطنيهم لا يمكن بحال من الأحوال أن يمر من خلاله أو على جثث ضحاياه .

باختصار شديد: إما أن تغير الكنيسة مواقفها وتعود ثانية إلى كنف مجتمعها العربي / الإسلامي، أو أن يؤسس العلمانيون كنيسة مدنية تأخذ المسيحيين إلى حيث يجب أن يكونوا، مواطنين حريتهم جزء من حرية مجتمعهم وفي خدمتها. وللعلم، فإن التاريخ لن ولا يجوز أن يرحم أحدا: كنسيا كان أم علمانيا، إن هو وقف جانبا، أو رقص على جثث من يموتون من أجل حريته!