تونس, تونس
يا حارقة الأكباد!
بسام الهلسه
* يروى عن جورج دانتون, أحد كبار قادة الثورة الوطنية الفرنسية العظمى في أواخر القرن الثامن عشر, تعليله لإنتصار الثورة الشعبية, بكلمة واحدة كررها ثلاث مرات: الجرأة, الجرأة, الجرأة.
قالها في سياق التأكيد على الشرط الأولي الضروري اللازم لكل تحرك شعبي ينهض للمطالبة بحقوقه من حاكميه, قبل أن يواصل تعداده للعوامل الاُخرى التي مكنت الشعب الفرنسي من الإنتصار على نظام حكم الملك لويس السادس عشر: المطلق, الإقطاعي, الكهنوتي الذي ساق فرنسا إلى الإفلاس وأودى بعامة شعبها إلى المجاعة والبؤس, فيما كان يرتع مع عائلته وحاشيته ونبلائه واكليروسه, لاهياً في الفساد والملذات. وحينما طفح الكيل أخيراً بالشعب الذي أعيته المظالم المتطاولة, فثار مطالباً بالخبز والحرية, كان الأوان قد فات على الملك الذي لم يكن الشعب ليخطر بباله إلا عند جباية الرسوم والضرائب!
* * *
ما قاله دانتون, فيما يخص ثورة الشعب الفرنسي, يصح تعميمه على حالات الشعوب والطبقات المُستضعفة المقهورة, التي تتحرك وتنتفض عند تلك اللحظة الي تكف فيها عن تصديق أقاويل ووعود حاكميها, وعن إنتظار الحلول التي سيأتون بها لمصائبها. وعندما تثق بنفسها وبقدرتها وتكسر أغلال الخوف والرهبة, وتمتلك الجرأة على تحديهم ومواجهة بطش أجهزتهم الأمنية القمعية, فتندفع للتعبير عن رأيها وإرادتها مستعدة لبذل التضحيات في سبيل كرامتها وحقوقها, كما هي حال شعب تونس الذي فجَّرت غضبه حادثة مؤلمة أقدم فيها خريج جامعي مُعطل عن العمل على إشعال النار في جسده إحتجاجاً على وضعه البائس وعلى الإستهتار والتعامل الفظ الذي قوبلت به شكواه.
* * *
هذه الحادثة, التي تبدو وكأنها جانبية وعارضة, كانت بمثابة الصاعق ونداء الإنطلاق للغضب المكبوت الحبيس الذي يغلي في صدور أبناء وبنات الطبقات والمناطق المُهمشة المحرومة, الذي قدِّر لشعب ولاية ( محافظة) "سيدي بوزيد" أن يكون مُفجِّره الأول, واستجاب له أهالي بقية المناطق الذين وجدوا في صرخته الأليمة الغاضبة ترجمان ضمائرهم ولسانهم الناطق بآلامهم وآمالهم. فتحوَّل التحرك الإحتجاجي العفوي ذو الطابع المحلي في ولاية "سيدي بوزيد" الفقيرة الفلاحية الواقعة في وسط تونس, إلى هبَّة شعبية إتسع مداها بشكل يومي مع إنضمام مناطق وفئات جديدة لها شملت جموعاً تزايدت أعدادها باستمرار من المُعطلين عن العمل والفلاحين والعمال والعناصر الطليعية من المثقفين والمتعلمين وصغار الكسبة والنقابيين, وبخاصة المحامين.
وكما يحدث في كل حركة شعبية أصيلة, حيَّة, نامية, تطورت لغة خطاب المنتفضين من مجرد التعبير عن مظالم تتصل بالفقر والحرمان والحريات والتهميش والفساد والتعسف, والمطالبة المجردة غير المحددة بالإنصاف, إلى طرح الأسئلة النقدية للنهج والخيارات السياسية والإقتصادية والإدارية التي سارت عليها البلاد التونسية, والدعوة إلى مراجعتها بحيث تلبي متطلبات سياسة وتنمية وطنية مستقلة, متوازنة, متكاملة, عادلة, تحول دون إستئثار فئة خاصة ومنطقة بعينها بالثروة والسلطة والوظائف والخدمات على حساب أغلبية الشعب.
* * *
لكن هذا النجاح الأولي في تحطيم حواجز الخوف, والجرأة في التعبير, الذي شقَّ طريق التغيير الصعب وفتحَها على الإحتمالات والآفاق, لا يعني بعد سوى عبور المرحلة الأولى التمهيدية: مرحلة البداية والإنطلاق نحو الشروع في العمل التاريخي الجاد الذي يقرر فيه الشعب أن يصنع مصيره بيديه, وأن لا يكتفي بالرفض السلبي فقط لما هو مفروض عليه من السلطات الحاكمة, بل أن يتقدم هو بالذات لصياغة وإقرار ما يريده من خيارات لحياته بحرية, منتقلاً من طور وخطاب المعارضة, الجزئي, الآنِي, الى طور وخطاب البديل الوطني, الشامل, المستقبلي.
ولبلوغ هذه المرحلة المصيرية الحاسمة, ما زالت هناك محطات ومحطات ينبغي إجتيازها في المسيرة الكفاحية العادلة التي دشنها الشعب بشجاعة أبنائه وبناته وتآزرهم الذي يستثير مشاعر الإعجاب والتضامن لدى ملايين الملايين من العرب الذين يدركون أن مظلمة أهالي ولاية "سيدي بوزيد" وعامة شعب تونس, وصيحتهم الباسلة, هما مظلمة وصيحة الأغلبية الشعبية العربية الملقاة بمهانة كالأشياء البالية على قارعة أوطانها. وهي ترقب بإهتمام, وتعاطف, وأمل, وإستبشار, وتحفز, ما يقوم به إخوتها وأخواتها التوانسة, بعدما وصلها بيان جرأتهم ونهوضهم برغم تعتيم وتلفيق الإعلام الرسمي العربي, وخرس الإعلام الغربي.
* * *
ها هي تونس تذكرنا من جديد بأنها ما زالت خضراء واعدة بالخير كما عهدتها الأُمة, وكما أنشد لها بحبٍ ولوعة ابنها زجَّال مصر الكبير, الشاعر بيرم التونسي, في اُغنية فريد الأطرش لبلاد العرب " بساط الريح" :
تونس أيا خضرا.. يا حارِقة الأكباد!
ـــ فلنُحَي شعبها..