دمشق

الشيخ أحمد الخطيب

دمشق

الشيخ الجليل أحمد معاذ الخطيب

(دمشق!)، وهل توصف دمشق؟ وهل تصور الجنة لمن لم يراها؟ من يصفها وهي دنيا من أحلام الحب وأمجاد البطولة وروائع الخلود؟ من يكتب عنها (وهي من جنات الخلد الباقية) بقلم من أقلام الأرض فانٍ؟".

 "وبعد فأي مزاياك يا دمشق أذكر، وفيك الدين، وأنت الدنيا، وعندك الجمال وعندك الجلال، وأنت ديار المجد وأنت ديار الوجد، جمعت عظمة الماضي وروعة الحاضر!".

كلمات كتبها علامة الشام علي الطنطاوي فما استطاعت أسوار الظالمين أسرها وتفلتت من أيديهم فسكنت قلب كل دمشقي فتبادلت معه ألحان الهوى. نعم شامي متعصب أنا... دمشقي حتى الجنون أنا... أبغض كل جرادة مرت فيك يا دمشق فلم يأسرها ربيعك، بل بقِيَت جرادة شرهة تقضم سندسك الأخضر الفتان. وأُجِلُّ كل ضيف حل فيك فحنا عليك حنواً زاد فيه على حنو بنيكِ... عاشق مفتون بك يا دمشق أنا... أكره كل بومة هاجرت إليك، فلم تتعلم من رقيك شيئاً بل نشرت فيك الخراب والنعيق... وأحالت حضارتك السامقة خرائب، وبيوتك الفواحة ياسميناً وفلاً وقرنفلاً إلى حظائر للدجاج والصيصان... وأحني رأسي احتراماً لمن جاءك غريباً فعلم من أنت فحرص عليك فنقش على صفحات مجدك أثراً صالحاً أعلى منارة الحضارة فيكِ. متيم بحبك يا أيها الجامع الأموي أنا... وقد سمعت علماءنا يروون عن الشيخ مصطفى الفرا.. أنه كان عند كل سارية فيك َعالمٌ وحَلَقةٌ... قبل أن يصبح مكاناً لأمثال الغربان السود.. من لطَّامات الخدود.. بل خاناً وفندقاً وحديقة.. بل مطعماً تفوح من سجاده رائحة (الزَفر)، ويعلو الغبار والأوساخ أغلب رحابه، ويكاد يضيع سحره في نتن (كلسات) الغرباء، ممن أتوا إليه لا لعبادة ولا اعتبار.. بل دخلوه في رمضان قبل المغرب فأكلوا فيه الطعام قبل وقت الإفطار ثم انصرفوا منه بعد المغرب دون صلاة... فهل يتخيل إنسان مسجداً يدخله الناس بلا صيام ولا صلاة... كم لا أطيق أن أرى منتسباً يا دمشقُ إليك، وقد تعافى من الغيرة عليك... لك الله يا دمشق... كيف نُزع منك الياسمين واغتيل بردى ووئدت أزهار النارنج... بل اختطف فجرك.. فصارت سماؤك كلها سحب دخان.. تحمل السم وتزداد السرطانات وتنتشر بلا رقيب ولا حساب.. يا الله.. سوق ساروجة الذي كان إسطنبول الصغرى فصار كأنه قرية بدائية مر فيها مغول الرشوة والخراب.. يا لحي القيمرية.. وقد كان مثوى أهل العلم... فغزته المطاعم والحانات والأغراب... يشترون بيوته واحداً وراء آخر ولا أحد يدري من أين يأتون بالأموال التي تنفق بلا عد ولا انتهاء! ويا لحي العمارة الباكي.. والمناخلية.. يراد لهما أن يدكا لتمحى منائر آلاف السنين من العراقة والتاريخ والعبق الدمشقي الأخاذ، وترتفع أبنية الإسمنت اللقيطة على أشلاء التاريخ والحضارة وبيوت أهل الشام! يالفقراء الشام تصادر بيوتهم وأراضيهم وعقاراتهم... بأبخس الأثمان ثم تعطى للمترفين وتجار العمار، بل حَمَلة الخراب فيجنون من ورائها المليارات من عرق الناس ودموعهم وجهدهم وشقائهم. يالمياهك يا دمشق إذ كانت كل قطرة منها عنوان طهارة، ونعمة قدسية، فصار المبذرون يتبارون في استنزافها وهدرها وكأن لهم مع كل تحضر ثأر ومع كل رقي ونعمة عداء... يا لله من حل بالشام من اللئام فلم يعرفوها ولم يعرفوا أهلها رغم أن علي الطنطاوي وصفهم منذ أكثر من ستين سنة: "وأهل الشام كالماء لهم في الرضا رقته وسيلانه، وفي الغضب شدته وطغيانه، بل ربما كان لهم من البركان فورانه وثوراته". مر بدمشق عبر تاريخها كثيرون أداروا الراح بدماء أبنائها ونهبوها وكانوا حشرات زاحفة وعوالق طفيلية ما فيهم واحد له همة أبناء الشام وجلدهم وجهدهم، وقعدت بهم الدنيا واحتاروا ماذا يعملون فاتخذوا السرقة والنهب واللصوصية عملهم، وبه يشرفون وبه يعرفون. مساكين من لم يفهموك يا دمشق... ولم يعلموا أن أبناءك نوعان... شجاع وخائف.. فأما الشجاع فبصدره يتلقى سكاكين من حسدوا.. وبقلمه يدفنهم في غياهب التاريخ... يصبر من أجلك ولا ينسى... ويعادي لأجلك ولا يحقد.. وأما الخائف فمَكرُهُ بالظالمين شديد... وسلوا من سبقوا يأتونكم بالخبر اليقين! حبيبتي دمشق... تنوع أبناؤك بين متدين وماجن وعالم وجاهل وغني وفقير ومستقيم وغافل... لكنهم اتفقوا عليك وفي حبك تاهوا... أرأيت كيف أضناهم الهوى فما استطاعت صدورهم أن تحبس معانيهم فباحوا بحبهم فكتب شاعر الشام نزار قباني بوحَهُ بحراً متمرداً لمن ظلموا، وديعاً لمن عشقوا... بحراً ليست له شطآن... ولا حدود: آه يا شامُ كيفَ أشرحُ ما بي وأنا فيكِ دائماً مَسكونُ سامحيني إن لم أكاشِفكِ بالعشقِ فأحلى مَا في الهَوى التضمينُ نحنُ أسرَى مَعاً.. وفي قَفَصِ الحُبَّ يُعاني السَّجَّانُ والمسجُونُ يا إلهي جَعلتَ عِشقِيَ بَحراً أحَرامٌ على البحَّارِ السُّكونُ رضي اللهُ والرسولُ عن الشامِ فنصرٌ آتٍ وفتحٌ مبينُ.. حبيبتي يا دمشق.. أسمعت وصف علامة الشام علي الطنطاوي لك عندما لبثتِ في مطلع سنة 1936 خمسين يوماً مضربة في وجه الفرنسيين فقال عنك: "لا تجد فيها حانوتاً واحداً مفتوحاً، مقفرة أسواقها... فتعطلت تجارة التاجر، وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب على الخبز القفار، وطوى ليله من لم يجد الخبر، ثم لم يرتفع صوت واحد بشكوى، ولم يفكر رجل أو امرأة أو طفل بتذمر أو ضجر، بل كانوا جميعاً من العالم إلى الجاهل ومن الكبير إلى الصغير، راضين مبتهجين، يمشون ورؤوسهم مرفوعة وجباههم عالية، ولم نسمع أن (دكاناً) من هذه الدكاكين قد مس أو تعدى عليه أحد، ولم يسمع أن لصاً قد مد يده خلال هذه الأيام إلى مال، وقد كانت الأسواق كلها مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير، فهل قرأ أحد أو سمع أن بلداً في أوروبا أو أميركا أو المريخ يسير فيه اللصوص جياعاً ولا يمدون أيديهم إلى المال المعروض حرمة لأيام الجهاد الوطني؟ ولقد بقي الأولاد في المعسكر العام في المسجد (الأموي) أياماً طوالاً يرقبون وينظرون، فإذا فتح تاجر محله ذهبوا فأغلقوه، ففتح (حلواني مشهور)، فذهب بعض الأولاد فحملوا بضاعته، صدور (البقلاوة والنمورة والكنافة) إلى المسجد، وتشاوروا بينهم ماذا يفعلون بها؟ فقال قائل منهم: نأكلها عقاباً له، فصاحوا به: اخرس ويلك، هل نحن لصوص؟ ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلا جائع". ماذا أقولُ لمن جاءكِ يا دمشق لا يتقنُ في الحياةِ شيئاً، ورأى كل الكرم والبذل والجود والعطاء، فلم يتعلم من بَنيكِ مهارتهم بل حَسدَ هِمتهم حَسدَ مكيود، وماذا أقول بمن مر فيك يا حبيبتي دمشق من بعض اللصوص على مدى القرون فستر بعضهم عواره ببناء مسجد أو تكية أو سبيل.. وبمن مر بك من لصوص آخرين امتصوا كل ذرة خير فيك ثم لم يبنوا (ليس لك)، بل لقومهم وأهلهم حتى ساحة دبكة ولا اصطبلاً مما سرقوه منك فقد كانوا بخلاء حتى على أهلهم وجيرتهم... هكذا كان أهلوك قبل أن يأتيك صاحب عمامة صنعته قسراً عنك أيدي الساسة غليظ الطباع سمج الحديث مهما تكلم... ثقيل الظل أينما سار... أو أصحاب شهوات ملصوقة بطين الأرض لا يفارقون عالم الحس الغليظ في صباح ولا مساء... الفجور صاحبهم بلا توبة ولا ارتقاء... وهاهو نزار يخبرك عن عشق كل دمشقي وحبه لك: ولو فتحتم شراييني بمِديتكم سمعتم في دمي أصوات من راحوا زراعة القلب، تشفي بعض من عشقوا وما لقلبي إذا أحبَبتُ جرَّاحُ مآذن الشام تبكي إذ تعانقني وللمآذن كالأشجار أرواحِ كل من أحبك يا شام وكل من ذاق من عشقك وصلاً فهو دمشقي أصيل وإن أتى من أقاصي الأرض... وكل من كان لئيماً مخرباً فهو لقيط فيك لا ينتسب إليك ولو تسلسلت وجمعت له الأنساب العظام. منذ أيام خرجت من منطقة المكتبات في حي الحلبوني مذهولاً... بعدما يئست من أن أجد كتاب علامة الشام علي الطنطاوي الذي يبوح بحبك يا دمشق... وقد أخبرني الباعة أن كتب الشيخ قد سحبت من السوق!! غرغرت الدمعة في عيني وتخيلت الشيخ علي الطنطاوي عندما توفي أبوه وهو طفل صغير فمر بظروف من الفقر والضيق لا يعلمها إلا الله، وعاش في بيت مثل القبر لا يكاد يدخله نور ولا هواء وكان إذا استيقظ في الليل يرى قطرات الدمع تنسكب من عيني أمه الحنون، وقد هدها المرضُ، وأحاط بها الفقر المدقع من كل جانب، وهي تدفع البق والحشرات عن الأطفال الأيتام الذين مضى والدهم وتركهم بين أيديها... وتخيلت الشيخ علي مرة ثانية عندما زرته منذ سنوات كثيرة فبكى رقة لذكر ابنته (بنان) وقد أطلق المجرمون النار عليها فأردوها قتيلة بخمس رصاصات، وما رحموا لها غربة ولا أمومة ولا إنسانية، فيا خجلة المؤرخين من أفعال الجبناء... أفقت مما تخيلته ونظرت حولي فوجدت اللافتات التي تغزو الطرقات تدعو الناس إلى انتخاب أصحابها.. وقد مل الناس من معظم الأسماء التي صارت كالضيف الثقيل لا يصدق الإنسان رحيله... بعدما خبروا أكثر أصحابها فلم يروا فيهم شيئاً من الوفاء... لا للشام ولا لدمشق.. ولا لحق ضاع فيها.. ففي عهدهم تآكلت المنابر من المساجد إلى الصحافة إلى الكتابة إلى السياسة... حتى كأنها من عهد عاد... وفي زمنهم ضاعت غوطتها... بعدما عملت الوسائط والرشى في اقتلاع شجرة جوز وراء أخرى.. حتى أصبحت مثل الصحراء التي عرّشت فيها جحافل الجراد... وما بين ذلك من دمار الحجر والشجر والبشر... ما لا تنتهي من كتابته الأقلام... وسيتوارى التاريخ خجلاً من سوء ما ستقع عليه عيناه... لو كنتم أيها المرشحون العظماء تحبون الشام لما صارت في شر حال... عدت بذاكرتي إلى ما قرأته عن فترة الخمسينيات عندما كانت الانتخابات مفتوحة، والجميع يتنافسون، ولا يوجد أحد يصادر قرار أحد... ولا حزب يدعي العصمة أو يؤله نفسه فوق العباد.. وأسماء قادة الأحزاب وزعماؤهم معروفة للجميع.. فارس الخوري.. صلاح الدين البيطار... مصطفى السباعي.. رياض المالكي.. خالد العظم.. وأجلت النظر ثانية فيما تقع عليه عيني من اللافتات فلم أجد من بين كل الأسماء رجلاً يستطيع أن يدعي أنه عاشقٌ للشام... وفيٌ لدمشق... رجل يستطيع القول إن له فيها تاريخ حافل بالحفاظ عليها والدفاع عنها دفاع المستميت... قدموا أنفسكم وعلقوا صوركم ولافتاتكم أيها المرشحون الكرام.. ولكن ثقوا أن الناس تعرف كل مفصل في حياتكم وتعرف المحب من الوصولي... والصادق من المنافق..... وأنا لن أنتخب واحداً منكم وهنيئاً لكم فوزكم الظافر المبارك... على أشلاء مدينتكم وأهلكم وعلمائكم ودهمائكم أيها المرشحون العظام! تلفتت إلى الوراء... ونظرت إلى واجهات المكتبات، ثم غرغرت الدمعة في عيني... أسَجناً للشام حتى في كتب علامتها الطنطاوي... أقيداً على العقول في أمة صارت من أدنى أمم الأرض ثقافة وقراءة ومعرفة... أمصادرة للكتب في زمان صار همُّ الناس فيه (سندويشة) يسدون بها جوعهم ولا يهم أكثرهم مقال ولا كتاب... أوصاية على البشر في عصر طلق الناس فيه فكر المعصومين والأوصياء.... أظناً أن ذلك ممكن في عصر انفجرت فيه المعلومات وامتدت أخطبوطاً بمليون ذراع تتعانق فيها مصادر العرفان... أتحريماً لحب الشام وكل حبة تراب فيها سقته راية قائد ولوعة فقيه وغيرة محب ومهارة تاجر وأنين عاشق ودلال صبية وقصيدة شاعر ولوحة رسام! حسنٌ... فلتمنع كتب الشيخ علي الطنطاوي... وليحرم أهل الشام من رمز من أعظم رموزهم... ولكن ليثق الكل أن الشيخ علي الطنطاوي وأمثاله أرسخ في قلوبنا من جبل قاسيون... نزلت دمعتي أخيراً وأنا أغادر منطقة الحلبوني... وتذكرت دموع علي الطنطاوي وحبه للشام.. ومرت بي أطياف نزار قباني عاشق الشام... وتتابعت أمامي ألف صورة وصورة، ثم اعتراها الغبش من دموعي الهاملة... ونظر إلىَّ شخص يعبر الشارع مدهوشاً لرجل يبكي في الطريق... لم أخبره لم كنت أبكي فقد حبست أشجاني في صدري والآن أبوح لكم بها أيها الناس... كنت أبكي على المساكين الذي سحبوا الكتب من السوق... وهم لا يعرفون من هو علي الطنطاوي.