من يتذكّر رائد صلاح

عبد العزيز كحيل

عبد العزيز كحيل

[email protected]

تساءلت في مقال سابق: من السجين حقّاً؟ رائد صلاح أم نحن؟ ويبقى السؤال مطروحاً والإجابة واضحةً: هو الطليق في زنزانته ونحن الأسرى في السجن العربي الكبير، مكبّلون بالمخاوف والأوهام، قابعون في غرفة الانتظار حتّى يخرج المهدي (!)، منهزمون نفسيّاً قبل المعركة، وإذا خضنا معركة فمع غير عدوّ، نخاصم الضعفاء ونلاحق الأشباح، ونلتمس الأعذار للاعنينا وندير الحدود لكل من يضربنا ولو كان قزماً مهترئاً أو كان لكع بن لكع!

إن الشيخ يسبح في سجنه بين الذكر والفكر، يزكّي نفسه بالأوراد ويتقرّب إلى ربّه بمزيد من الركوع والسجود، كما لا شكّ أنّه في خلوته يفكّر في بلده ودينه وأمّته ويبتكر من الأساليب من يبقي قضيّة الأقصى والقدس وفلسطين حيّةً صلبةً مستعصيّةً على الموت حتّى يأذن الله بالنّصر الموعود.

ومنذ دخل الشيخ السجن عمل أبناء المقاومة في فلسطين كلّها على إبقاء ذكراه غضّةً طريّةً، وعملت أوساط التطبيع والمفاوضات العبثيّة على إهالة التراب عليه تماشيّاً مع خطتهم في إهالة التراب على القضيّة الفلسطينيّة ذاتها، ولا شكّ أن النظام الرسميّ العربي – وسلطة رام الله جزء منه – مرتاحة لتغييب الشيخ لأنّ عناده يزعجهم ومرجعيته الإسلامية تثير مخاوفهم .

مرّ العيد والعيدان والرجل العظيم خلف القضبان ، فهل سمعتم صوتا عربيا رسميا يذكره ؟ هل قرأتم لمثقفي الأنظمة العربية مقالا يأسف فيه لسجنه فضلا عن أن يطالب بإطلاق سراحه ؟ لم يفعلوا ولن يفعلوا لأن السجين مواطن '' إسرائيلي '' ، وهم أناس متحضّرون يحترمون القوانين الدولية ولا يتدخّلون في شؤون غيرهم الداخلية !!! بل لقد أسدى إليهم الكيان الصهيوني خدمة كبيرة عندما غيّب هذا '' الثائر '' الذي يقلق راحتهم ويفسد خططهم '' السلمية '' مع إخوتهم اليهود المحبّين للسلم والأمن ، أوليس رائد صلاح – في النهاية – إسلاميا ، أي إرهابيا بالولادة وفق معايير أمريكا والعدوّ الصهيوني والحكّام العرب ، وفي مقدّمتهم سلطة رام الله ؟ أنا لا أستبعد أن تكون هذه الأطراف الأخيرة قد أوعزت للسجان أن يفتح ملفّا آخر للسجين ويختلق له قضية أخرى ليطول غيابه ويسكت صوته الذي يصمّ الآذان بمسألة القدس والأقصى وفلسطين ؟ أليس هو في النهاية عدوّا مشتركا لأطراف المفاوضات المؤمنين بالحلّ السلمي ، أي بالتفريط في كل ما يتشبّث به رائد صلاح ؟

 لا ، قضية الرجل - من زاوية أمراء الطوائف ومثقّفيهم وإعلاميّيهم - مجرّد قضية جنائية عادية بل حتى عند المدافعين عن حقوق الإنسان الذين يثقون في النظام القضائي الصهيوني لأنّه رمز العدالة والشفافية ، فإذا أصدر حكما فلا رادّ لحكمه ، لذلك يمّموا وجوههم شطر طهران يستنفرون ذوي القلوب الرحيمة على المرأة الزانية والقاتلة لزوجها ، فهي لا تستحقّ الإعدام لأنّ حكمه صدر باسم الشريعة ، أمّا رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق فلا شكّ أنّه لم يسمع برائد صلاح نهائيا أو هو منشغل بقضايا مصيرية عالمية أكثر أهمية ، لذلك وجّه رسالة لرئيس بلدية نيويورك يطالبه فيها بمنع الرئيس الإيراني من دخول المدينة لأنّه يمثّل خطرا محدقا بالسلم العالمي !!! أمّا الكيان الصهيوني فدولة محترمة ضحية مشاكسات بعض الحالمين والحاقدين من أمثال حماس ورائد صلاح !

 إذن ، من يتذكّر رائد صلاح ؟إنّها الشعوب العربية الملدوغة بسياط الاحتلال الظاهر والمتخفّي بالشعارات الوطنية ، المكبّلة بقيود الاستبداد ،الممنوعة من التظاهر والاعتصام لنصرة قضاياها ،ومنها قضية الشيخ الجليل ...إنّه الشعب الفلسطيني كلّه ، في غزّة والضفّة وداخل الخطّ الأخضر وفي المخيّمات والشتات الذي فقد – ولو مؤقّتا – صوتا قويّا جريئا يصدع بالحقّ في وجه العدوّ الصهيوني ، ويرابط في المسجد الأقصى المبارك لردّ هجمات اليهود المتعصّبين ، ويأبى أن يهجّر من تبقّى من الفلسطينيين ، يتشبّث بالأرض والحقوق ويرفع راية الإسلام خفّاقة في زمن غربة الدين والتآمر عليه باسم محاربة الإرهاب .

إذا نسيه الرسميون فلن ننساه نحن في بلاد العرب والمسلمين كلّها ، وإن أسكتوا صوته بعض الوقت فسوف يزأر قريبا إن شاء الله ،وإن ظنّوا أنّهم قادرون على إطالة تغييبه فإنّ ربّه لن يتخلّى عنه " والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون " ، وفي أرحام نساء فلسطين ألوف من أبناء رائد صلاح ، ولئن اتسعت الساحة اليوم للرويبضة فإنّ العاقبة لفحول الرجال.

حفظ الله شيخنا الأبيّ وأمدّ إخوانه وأتباعه بالعون وعجّل فرجه ليواصل مسيرة الأمل حتى تهزم يهود وتنتصر فلسطين.