مثلكم لا يُخرج

زهير سالم*

زهير سالم*

[email protected]

نظر خلفه حين اجتاز الحدود خلسة، وَجَبَ القلبُ، ودمعت العين، وقال إنك لأحب أرض الله إلي، ولولا أن الظلم أخرجني منك ما خرجت..

سيرة مكرورة منذ المهاجر الأول تودع الأرضُ الطيبةُ أبناءها، الذين ينالهم العسف، ويتمادى بهم الإجحاف فيختصرون الوطن في حقيبة صغيرة، ويُيَمِموا وجوههم نحو أرض الله الواسعة. مخلفين وراءهم ما هو عصي على الهجران يحملون ذكراه همّا يوميا يذكرونه ذكر الخنساء أخاها صخرا..

يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكل غروب شمس

حين تتابع الطاقات المبعثرة تحت القبة الزرقاء، أو فوق المسكونة الغبراء من أبناء سورية الحرة الأبية، حين تتابع العقول التي تبدع وتنجز، والسواعد التي تبني فتعلي، والقلوب التي شغفها الوطن حبا؛ فما نسيته ولا نسيها؛ تتساءل لماذا؟ لماذا كانت القسوة وكان الظلم ولماذا ضاق وطن بأهله ؟ وتنكرت أمنا الأرض لفلذات أكبادها؟!

وحين تتابع الحناجر تصدح بحب الوطن على لسان شاعر العرب، أو شاعر القصيدة السمراء، أو حين تتابع الحرف المشوق يتنزى ألما في تصاريف أصابع كاتب تحترق، وحين تقرأ سطور الإبداع على جبين المهجَّرين الذين احتفى بهم العالم وأنكرتهم أوطانهم؛ تتساءل لماذا كان الجحود؟ ولماذا كان النكران؟!

قال لي صاحبي حين قرروا إهدائي الجائزة الأولى عن قصيدتي في (محمد الدرة..) كان المقرر أن يُكرّم مع الشاعر وطنه الذي أنجبه، فوجئتْ اللجنة الموكلة بتوزيع الجوائز أن شاعرها الأول بلا وطن، فالعلم السوري غائب، والنشيد السوري تخفق به القلوب دون الحناجر، والسفير السوري....!!

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها    ولكن أخلاق الرجال تضيق

وحين تطالع الوجوه الخيرة النيرة تنزرع تحت كل نجم تتذكر (ابن الدغنة ) سيد الأحابيش، وتتذكر معه قيما للجاهلية، زعم زكي الأرسوزي أن عصر الجاهلية كان عصر العروبة – واها للعروبة – الذهبي!!

تتذكر ابن الدغنة الذي استوقف أبا بكر رضي الله عنه خارجا من مكة يريد الحبشة فرارا من أذى قومه..!!

قال ابن الدغنة: إلى أين يا أبا بكر؟ أجاب أبو بكر: لقد أخرجني قومي وآذوني وضيّقوا علي..

فقال له ابن الدغنة: ولم؟!! والله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم، ارجع فمثلك لا يُخرَج..

 كم من موقف يضعنا كفاحا أمام مقولة ابن الدغنة تلك فنصرخ: من يقول لسيل العقول والقلوب والسواعد المهجرّة ظلما وبطرا ارجعي فمثلك لا يُخرَج؟! من يقول لعشرات الآلاف من الأخيار الأبرار من أبناء الشام ارجعوا إلى دياركم فمثلكم لا يُخرَج..

كم من موقف يذكرك بكلمة ابن الدغنة هذه وأنت تتابع حالات جمهور واسع من أبناء الوطن، يُقتلعون رغما عنهم من جذورهم ليجدوا في الهجرة من الوطن أو البعد عنه مهربا ومخرجا من عيش نكد وذل مقيم وكأن واحدهم يردد على مسمعك قول المتنبي:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا..

لا أحد يستطيع أن يلوم هؤلاء الهاربين من شقائهم على ما يفعلون، ولا أحد يستطيع أن يشكك في حبهم لأوطانهم، وولائهم لها ماضيا وحاضرا، سهلا وجبلا، قيما وإنسانا..

والسؤال يبقى دائما مطروحا.. لماذا؟! وإلى متى؟!

كتبت بالأمس أن الخير في الشام (طارف وتليد) فأشكل على بعض الفضلاء أن أتحدث عن خير طارف، ونبهني إلى معاني الطارف في معاجم اللغة .. وكأنه يسألني عن أي خير طريف تتحدث والبلاء قد عم وطم ..؟!! وأضيف اليوم أنني كتبت ما كتبت بالأمس عن معرفة ووعي وقصد.. فالشام المصر أكبر من الشام القصر، و هو في ميزان البر والمعروف أثقل. الشام أكبر من السراي ومن ( القبو )، ومن الحزب، ومن الشركة والبنك ؟! عدِّ عما ترى وتتبع مجالي الخير في أرض الشام تراها ( مملوء بها السهل والوعر).

لكل الراغبين في الهجرة أو الساعين إليها نقول: اصبروا وصابروا ورابطوا. وإنها لأرض رباط إلى يوم القيامة. ولأن نبني وطننا بالعرق والألم والجهد أكرم لنا ألف مرة من أن نستمتع بما بنى الآخرون.

               

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

للاتصال بمدير المركز

00447792232826

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية