سيحرقون القرآن فما أنتم فاعلون

د. صالح محمد المبارك

د. صالح محمد المبارك

منذ أحداث 11 سبتمير 2001 والعنصرية ضد المسلمين في الغرب تتزايد وخاصة في أميركا . مشاعر العداء هذه أخذت عدة مظاهر منها المواجهة المسيحية مع الإسلام فقد تأسست عدة جماعات في أميركا وأوروبا للتصدي لما يدّعون أنه أسلمة بلادهم وبدأنا نرى حملات غير مسبوقة من الإفتراء والتهجم على الإسلام ورموزه ليس فقط من مواطنين عاديين بل من زعماء دينيين وسياسيين ينعتون الإسلام بأبشع الصفات ولا يتوانون عن المجاهرة بعداء الإسلام كدين والمطالبة بتقييد حرية المسلمين والتحريض ضدهم

بعد الرسومات الكاريكاتيرية للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وتصريحات بابا الكاثوليك المشحونة بالحقد بدأت موجة من الهجمات على المراكز الإسلامية تارة بالحجارة والقنابل الحارقة وتارة بالتخريب والشتائم على جدران المبنى وتارة أخرى بالمظاهرات والحملات السياسية لمنع بناء المساجد أو توسعتها ، وسط هذه الحملات المحمومة المسمومة لم أستغرب سماع إعلان كنيسة أميركية عن نيتها في حرق المصحف الشريف يوم 11 سبتمبر القادم وقد وصلت هذه الأخبار الشبكات العالمية بما فيها الجزيرة وأخذ الخبر حيزا لا بأس به من الإهتمام وقد وضع قسيس الكنيسة شريطا على موقع يوتوب يبرر فيه خطته لإحراق القرآن وقد تفاوتت ردود الأفعال ما بين أقليتين مؤيدة ومعارضة وأكثرية غير مبالية

الكنيسة التي أعلنت ذلك تقع في مدينة غينزفيل وسط ولاية فلوريدا الأميركية لذلك سارعت شعبة منظمة كير (مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية) إلى عقد إجتماع لمناقشة الحدث المترقب واستخلاص أفضل أسلوب لمجابهته أو التعامل معه ، قدّر الله تعالى لي أن أحضر الإجتماع مع حوالي خمسة عشر شخصا آخرين من ضمنهم ثلاثة من أصدقائنا المسيحيين . في البداية تحدث إلينا مدير فرع كير وأحد الأعضاء من تلامذة القانون في جامعة فلوريدا في غينزفيل حيث الكنيسة المذكورة . ذكر لنا الأخوة أن تلك الكنيسة مستقلة أي ليست تابعة لأي منظمة مسيحية معروفة وأن أعضاءها قليلون وأنها في ورطة مالية حيث أن قسيسها وضعها للبيع . وكان القسيس نفسه قد أثار زوبعة إعلامية عندما وضع لوحة مكتوبة أمام كنيسته على الطريق العام تقول (الإسلام من الشيطان) ثم طبع تلك الجملة على قمصان (تي شيرت) وألبسها أولاده أو بعض أولاد أنصاره إلى المدرسة ولكن مدير المدرسة تصرف بشكل مناسب فخيّر الطلاب المرتدين لتلك القمصان ما بين إبدالها بأخرى لا تحوي عبارات تحريضية أو الطرد من المدرسة . وقد حاول بعض المسلمون آنئذ الإتصال به وحواره بالحسنى ولكنه أبى وتكبر وأصرّ على غيّه

كانت هذه المعلومات كافية للتأكد من حقيقة واحدة وهي أن قسيس الكنيسة يسعى لإحداث ضجة إعلامية ينتج عنها دعاية أكبر للكنيسة  سواء إيجابية أو سلبية فذلك لا يهم ، ولكن القسيس المغامر يأمل أن يحقق شهرة وعائدا ماليا لنفسه ولكنيسته . ما لفت نظري هو رد الفعل العاطفي اللاعقلاني من كثير من الإخوة : "لا بد أن نمنعه بأي ثمن...قصدي قانونيا" ، "فلنرسل وفدا من المسلمين إلى تلك الكنيسة ليحاورهم ويقنعهم بعدم القيام بذلك العمل الشائن " ، "برأيي أن نقوم بمظاهرة في نفس الوقت ضد أعمالهم العدائية" ، "فلنرفع دعوى عليهم بتهمة التحريض". ولكن الرأي الآخر والأكثر عقلانية كان يميل إلى تجاهل القسيس وكنيسته وحرمانه مما يصبو إليه وهو الشهرة والضجة الإعلامية .

منذ فجر الإسلام والحملات على الإسلام ورموزه لم تتوقف ولن تتوقف حتى قيام الساعة ولكنها لم تنل من الإسلام ولم تفت من عضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم توهن عزم المؤمنين الصادقين ولم تمح القرآن أو تنجح في التشكيك فيه . لو أحصينا الأفراد والهيئات والمواقع الإلكترونية التي وظفت أنفسها ومواردها في سبيل الهجوم على الإسلام ورموزه لوجدنا الملايين منها ما كان من أفراد وهيئات مغمورة ومنها ما كان من شخصيات مشهورة ، منها ما كان كلاما ومنها ما تعدى الكلام إلى الفعل ، فأين نرسم الخط بين ما يجب الرد عليه وما ينبغي تجاهله ، وكيف يكون الرد؟

لو ألقمنا كل كلب ينبح حجرا لما بقيت حجارة نبني بها ولما بقي لدينا وقت أو جهد نصرفه في البناء والتعليم ، بل إن في الرد أحيانا خدمة للخصم فقيمة المواقع على الإنترنت غالبا ما تقاس بعدد الزوار للموقع فيأتي أحدنا بجهل وحسن نية (وما أكثر أولئك الذين يؤذوننا بنية طيبة !) فيرسل الإيميلات لأصحابه مع عنوان الموقع المعادي "انظروا ماذا يقول هذا الحاقد" وقد يُتبعها برجاء تحويل الإيميل لكل أصحابك وأحبابك فيزيد الطين بلة وتتكاثر زيارات اللاعنين للموقع المذكور ومع كل زيارة تزداد قيمته وربما يدعو لنا ويأمل بزيادة إيميلاتنا ولعناتنا له .

هل معنى ذلك أن نتجاهل كل حملة معادية؟ بالطبع لا ولكن علينا أن نختار معاركنا فليس بمقدورنا أن نخوض معركة مع كل من شتمنا أو هزأ بمقدساتنا ولو فعلنا ذلك لخسرنا قسطا كبيرا منها ، ولكن الأحرى أن ننتقي منها والإنتقاء يكون بناء على معطيين اثنين : الأول مصدر الحملة والثاني هو تقدير النتائج والأرباح والخسائر من المعركة فلا يعقل أن نخوض معركة نرى خسائرها تزيد عن أرباحها .

حين يكون المصدر رسميا أو هيئة معروفة أو شركة تجارية لها سمعتها فعلينا الرد بأفضل طريقة ممكنة وذلك يبدأ بأسلوب التفاهم قبل التصادم وكثيرا ما يتبين أن مصدر المشكلة هو الجهل وتنتهي المشكلة بمجرد لقاء بين وفد من عقلاء الجالية المسلمة وصاحب المشكلة كما فعلت منظمة كير في كثير من الحملات ضد الإسلام والمسلمين بما فيها وضع لفظ الجلالة على حذاء رياضي من شركة نايكي التي وافقت فورا على سحبه من السوق . وربما نستعمل أسلوب الضغط إذا لم يُجْدِ أسلوب التعليم وأذكر أنني منذ عقد من الزمان أرسلت إيميلا لمدير تحرير صحيفة أميركية كبيرة دأبت على التحيز ضد المسلمين وشن الحملات عليهم وقلت له أنني إن لم أر موقف الصحيفة يتغير ويعتدل فسأقود حملة لمقاطعة الصحيفة بيعا وشراءا وتوزيعا وإعلانا وأبلغته أن هناك أكثر من خمسين ألفا من المسلمين في نطاق توزيع الجريدة ، فلم يلبث أن رد "لنجتمع ونتفاهم" وقد تم ذلك وكان له أثر طيب أفادنا كثيرا في أحداث 11/9

في ردود أفعال المسلمين على الرسوم الكاريكاتيرية المقاطعة الإسلامية للرسول صلى الله عليه وسلم كان هناك الجيد الفعال كالمقاطعة الإقتصادية والحملات التوعوية التعليمية ، كما كان هناك السيء ذو الآثار السلبية كأعمال العنف والتكسير والحرق خلال المظاهرات . في تصريحات بابا الكنيسة الكاثوليكية كان لابد من الرد وقد قام الكثير من علماء المسلمين مشكورين بالرد بطرق مختلفة وإن غابت الردود الرسمية من زعماء المسلمين رغم أن البابا يعتبر أيضا زعيما لدولة الفاتيكان التي لها سفارات في معظم الدول المسلمة . قبل ذلك كانت المهزلة في ردود الأفعال على رواية (آيات شيطانية) لسلمان رشدي الذي تحول بعد المعمعة وفتوى الخميني والجائزة المالية لقتله من كاتب مغمور نسبيا إلى شخصية عالمية تملأ وسائل الإعلام ضجيجا وزادت مبيعات روايته إلى الملايين

يذكر أن عنترة بن شداد العبسي سُئِل بعد أن شاخ وتقاعد عن القتال عن سر شجاعته وقوته فقال "كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما ولا أدخل موضعا إلا أرى لي منه مخرجا وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأثنّي عليه فأقتله"

لنفكر قبل أن نفعل ولنُعْمِل العقل قبل العاطفة ولنحارب بذكاء ودهاء ولنختر معاركنا وأسلحتنا ولنحاول أن نحول الهجمات علينا إلى فرص للكسب ، ثم لنتوكل على الله.