لبنان .. الجيب الأخير

ربيع الحافظ

لبنان .. الجيب الأخير

ربيع الحافظ

معهد المشرق العربي

[email protected]

الشبكة الهاتفية التي أقامها حزب الله لنفسه والمرتبطة بالشبكة السورية فالإيرانية تذكرنا بمشاريع البناء في بلداننا التي يشكل الربط بالشبكة الهاتفية إيذاناً بانتهاء أعمال الإنشاء وقرب تدشين المشروع.

الناظر إلى لبنان اليوم يراه جيباً أخيراً في الطرف الشمالي الغربي من المشرق العربي لم يفرض النظام الإقليمي الإيراني قبضته عليه بشكل كامل. المساحة الجغرافية ليست كبيرة، والنظام السياسي الذي يوشك أن يرفس في مياه المتوسط لا يجسد مبادئ سياسية ذات أهمية، أو نقاءً فكرياً، لكن النظام البديل وقياساً على صنوه في العراق الذي استباح الدولة وأنهى الحياة المدنية، يعطي معركة الجيب الأخير دلالات مهمة، ويجعلها فصلاً مهماً في المسلسل الطائفي الإقليمي.

شكل سقوط العراق انفتاح الممر الجغرافي الممتد من الحدود الشرقية لإيران وحتى سواحل المتوسط بطول 2500 كم وعرض 1000 كم. اعتبرت إيران هذه المساحة الجزء الشمالي لمجالها الحيوي في المنطقة (والجنوبي هو الخليج العربي)، واعتبرته مسألة أساسية لتصدير الثورة، لكنها أخفقت في فتحه طوال حرب السنوات الثمان مع العراق، أما اليوم فليس هناك ما تستطيع إيران فعله في العراق المحتل ما تعجز عنه في سوريا "المستقلة" وفي لبنان الانتقالي.

بعد الخروج من الحرب مع العراق من دون مكاسب، ثم وقوع العراق تحت الحصار الدولي، اتجهت إيران إلى الاستفادة من المعطيات الاستراتيجية الحتمية للاختلال السياسي في المنطقة، والتهيؤ لتبعات انقلاب سياسي إقليمي جذري يغير وجه الخريطة السياسية كانت معالمه تلوح في الأفق. انكبت إيران منذ أوائل التسعينيات على مشاريع لوجيستية ضخمة (آلاف الكيلومترات من سكك الحديد على أراضيها في الاتجاهات الأربعة) التي ستجعلها عصب الشبكة اللوجستية ومفترق الطرق الأهم في القرن الواحد والعشرين حال حدوث الانقلاب وانفتاح الممر الجغرافي.

الخطة الإيرانية ـ في حال تحقيقها ـ تعد التغيير السياسي الأكبر في المنطقة منذ الفتح العربي الإسلامي، والثورة اللوجستية الأهم منذ اكتشاف رأس الرجاء الصالح وشق قناة السويس، حيث ستؤمن إيران شبكة مواصلات برية (مختزلة الزمن والكلفة) تحتاجها أوربا للوصول إلى الشرق الأقصى، وتحتاجها وروسيا للوصول إلى حوض المحيط الهندي، وتحتاجها تجارة شرق البحر المتوسط للوصول إلى شبه القارة الهندية.

ما إيران بصدده هو تنفيذ مقاولة فازت بها بشكل مبدئي في مناقصة حربي احتلال أفغانستان والعراق، لا زالت بنودها النهائية قيد مفاوضات بين الإيرانيين والأمريكان في بغداد. من الصعب التكهن بالصيغة النهائية للاتفاق، لكنها لن تكون بمعزل عن طبيعة الأوراق الإقليمية التي يزج بها كل طرف، أمريكيا: حشد الأساطيل، المحكمة الدولية، ومجاهدي خلق، والجزر العربية في الخليج العربي. وإيرانيا: الملف النووي، الاغتيالات في لبنان، خطف جنود إسرائيليين، إشعال اليمن، تحريك جيش المهدي، وأخيراً ـ حسبما ذكرت وكالة الأنباء الألمانية بالأمس ـ التهدئة في بيروت مقابل صفقة نووية.

الشبكة الهاتفية سبقتها شبكات أكثر دلالة مرت بدون ضجيج. فهناك شبكة الطاقة الكربائية التي ربطت جنوب العراق بإيران، وشبكة سكك الحديد مع جنوب العراق أيضاً، والشبكة الأمنية الإيرانية التي تشترك مع شبكات المخابرات المحلية بقاعدة المعلومات وبإمكانها الوصول إلى أي عنوان في بغداد ودمشق وبيروت، وشبكة التعاون العسكري مع سوريا، والشبكة الاقتصادية، وشبكة السياحة الدينية، وشبكات الفضائيات العربية الممولة أو المسيرة وفق المشيئة الإيرانية.

ما أنجزته إيران خلال عقد ونصف يعد شوطاً بعيداً على طريق تأهيل "المجال الحيوي" الذي تعود إليه بعد غياب طويل. وليس من اللاواقعية أن يكون لإيران في مكان ما على أرضها غرفة للسيطرة الأمنية المركزية تستقبل البيانات الصوتية والمرئية من شبكات هاتفية وكاميرات رقمية Digital من مواقع حساسة في المجال الحيوي مثلما تراقب إدارة المرور الأمن على الطرقات الخارجية.

الجدير بالملاحظة هو أن الجهة المالكة للمشروع الذي سيغير وجه المنطقة هي الأقلية، وأن الجهة المنفذة هي شعوب المنطقة. هذه الظاهرة قابلة للاستنساخ وإعادة الانتاج في أي نقطة من العالم العربي، بصرف النظر عن التكوين السكاني للمجتمع، ولا يوازيها سوى المشروع الصهيوني الذي حقق شعار "من الفرات إلى النيل" من دون جيش وكثافة سكانية، فالبؤر الاقتصادية والثقافية الإسرائيلية المنتشرة على هذه المساحة الشاسعة تفسير ميداني مرضٍ لآيديولوجية الشعار.

نزول حزب الله إلى الشوراع وتحويله العاصمة إلى ثكنة عسكرية واستباحة المباني العامة واحراق المحطات الفضائية أمر لا يستدعي العجب أو العتب، فالاختلال السياسي والأمني وضعف قبضة الدولة المركزية هي لحظة ازدهار الأقليات في السلم السياسي للأمم والشعوب، والفرصة التي تتكرر مرة في كل قرن أو قرنين لتحقيق ما لا تعجز عن تحقيقه بطرق قانونية ثم لا تدوم.

الأمر ليس بهذا التبسيط على الدوام، فحظوظ الأقلية مرشحة للارتفاع، والأوضاع العامل مرشحة للتعقيد عندما تعثر قوة كبرى على ضالتها في الرقم الطائفي في المعادلة الإقليمية، حينها يصبح المشروع الطائفي المحلي رقماً عالمياً، وأمراً واقعاً ليس بالسهولة التعامل معه، والحديث هنا عن روسيا التي يحتدم التنافس بينها وبين أمريكا على إيران الصفوية و"سوريا النصيرية".

الخاسر الأوحد في انقلاب سياسي إقليمي ينهي المجتمع والحياة المدنية على النحو الذي عرفناه في المحيط العربي على مدى زهاء تسعة عقود هو المدرسة السياسية التي أنشأت ذلك المجتمع.

كان من الطبيعي أن لا يكون لصرخة التحذير من الهلال الشيعي وقع يذكر في شارع بعد عشرة عقود من ثقافة وطنية تنسف دعائم مثل هذا التحذير، وأجيال ثلاثة لا تفهم لغته. هذه الثقافة تخسر كل يوم مساحات جديدة من المجتمع لصالح مشاريع طوائف وأقليات، وأثبتت أنها أضعف أمام هذه المشاريع من العين أمام المخزر. هذه الثقافة كتبت في ظل دولة مركزية قوية لا وجود لها اليوم، وفي ظروف سلام يحل محلها اليوم طور ندية الميليشيات للدولة المركزية كما تحدث عنه أمين عام حزب الله بنشوة أشبه بنشوة العصابات الصهيونية قبيل الإعلان عن قيام إسرائيل.

الدول تراجع برامج التوجيه السياسي والثقافي الجماهيري وقت الحروب والأزمات، ودولنا غدت تتهاوى الواحدة تلو الأخرى كقطع الدومينو، فمتى تراجع ثقافة ثبت أنها كانت مولجاً للطوابير الخامسة؟ ومتى ترمم الأسوار؟

هذه الثقافة أراد لها واضعوها أن تكون كساءً وطنياً يستر العورات التاريخية والفكرية لأقليات لم تتشرف بوضع لبنة في صرح الوطن أو الدفاع عنه، لكنها مزقت الكساء وكشفت السوءات مع أول قدم أجنبية وطأت تراب الوطن، حدث هذا في العراق، ويحدث اليوم في لبنان الذي سلمه حزب إلى إيران، ومع ذلك لم تتأثر أسهمه في بورصة الإعلام العربي.

مشكلتنا ليست مع البسطاء والعوام، وإنما مع المثقفين والمفكرين والمناضلين، الذين كلما خوطبوا عن أزمة التيه الثقافي وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا. استكبار ضاعت وتضيع فيه الأوطان وتتمزق المجتمعات، عوضاً عن أن تكون الأفكار والمعارف "راداراً" تستشرف به الأمة ما يضمر الأعداء.

الأزمة تشكل تهديداً لأمن المجتمعات العربية في الصميم، لكن الاستنفار الأمني وحده ليس الحل. نحن أمام شارع تكفيه خطبة واحدة مليئة بالأكاذيب والمغالطات لأمين عام حزب الله لكي يستدير 180 درجة، ويكفيه ظهور صدام حسين مشنوقاً بالحبل الإيراني ليعود 180 درجة، ثم يستدير ثالثة في اليوم التالي. هذا الشارع أسير إعلامين: إعلام أرضي رسمي عقيم، وإعلام فضائي شبه رسمي تموله وتسيره الأقليات، فهو بين خواء فكري وتسمم فكري، وفي الحالتين فاقد للمناعة الثقافية ومعبر للمشاريع التقويضية.

نحن متأخرون في إيجاد الحل. متأخرون جداً، وتوقظنا من نوم عميق أزمات فنجد أنفسنا وسط فصل سياسي إقليمي متقدم، تقلع فيه الطائرات الإيرانية وتحط على رقعة المجال الحيوي وقتما وحيثما تشاء، بحمولات معلومة وغير معلومة. فصل تتتابع فيه العروض والمقايضات الاستراتيجية بين إيران وأمريكا وإسرائيل بحثاً عن طور للتفاهم الشامل والتعايش النفعي المتبادل بين القوى الحقيقية الجديدة في المنطقة.

من غير المعلوم المدى الذي ستذهب إليه أمريكا في مقايضاتها مع إيران من أجل نظام إقليمي يحفظ أمن إسرائيل. لكن مقايضة أمريكية في هذا الاتجاه ستنطوي على قدر كبير من الحكمة التاريخية، وبعد النظر، والتصويب الاستراتيجي الإقليمي وصولاً إلى علاقة بين أمتين (الفرس واليهود) اللتان تؤكد مصادر التاريخ والدراسات الاستراتيجية اليهودية والغربية على انتفاء عداء حقيقي بينهما، بل على قواسم كره واحتقار مشتركة تجاه عدو مشترك هو الجنس العربي، ما يوفر قاعدة صلبة لتعايش دائم.

مقايضة أمريكية إيرانية في هذا الاتجاه لن تكون ضرباً في الرمل، فالصفقة المطلوبة لها (بروفا) عملية على الأرض، ذكرها آريل شارون في مذكراته، التي أدام حزب الله فيها أطول سلام (5 سنوات) عرفته منطقة الجليل الأعلى، ومنعه ذبابة واحدة من عبور حدود إسرائيل.

هل تطلق أمريكا يد إيران في مساحات أخرى من "المجال الحيوي الإيراني"، تحديداً دول الخليج؟ هذا ما تطالب به إيران منذ عام 2001 مقابل إنهاء "مقاومة" حزب الله والتخلي عن فصائل المقاومة الفلسطينية السائرة في ركبها. ليس بالإمكان معرفة الإجابة على السؤال، ولكن ما بالإمكان معرفته هو أن انهيار المجتمعات المدنية في المنطقة لن يبقى لشعوب المنطقة سلاحاً تنهض به وتستعيد زمامها غير الصواب الثقافي والسياسي.

بالأمس سقط العراق بيد الصفويين، وقبله سقطت سوريا بيد النصيريين، واليوم يسقط لبنان بيد الصفويين، ودول المجال الحيوي الجنوبي الخليجية أسهل على السقوط من لبنان، بل هي ساقطة. نحن نقف اليوم على مشارف ما قبل معركة ذي قار، عندما كان العرب ترساً في الآلة العسكرية والاقتصادية والعسكرية الفارسية، يأتمرون بأمره ويخربون بيوتهم بأيديهم، قبل أن يحققوا نصرهم على الفرس في معركة ذي قار التي قال الرسول صلى الله عليه وسلم عند سماع خبرها: "هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم ، وبي نصروا".

ما بدا لأول وهلة في ذلك اليوم أمراً تافهاً، كان سبباً فيما بعد للانتصار التاريخي. لم يكن ذلك الأمر أكثر من صحوة ضمير لرجال من قبيلة إياد تمردوا على سلطان فارس نصرة لإخوة عرب لهم، فأحسّ العرب بروابط الأخوة التي تنتظمهم وانسحب من جيش فارس عرب كثيرون كانوا يعطون ولاءهم لهم من قبائل تميم وقيس عيلان.

لابد من الإدراك أن الفرس أعادوا عقارب التاريخ إلى الوراء، وردوا الكرّة على المسلمين العرب الفاتحين، وجعلوا قطاعاً منهم أجناداً في آلتهم الإعلامية والاقتصادية والعسكرية التي يسومون بها المجتمعات سوء العذاب.

لابد من صحوة ثقافية وفكرية تقر بفداحة أخطاء ثقافة فتحت ثغرات خطيرة في أسوار الأمة وأوقعتها تحت احتلال فارسي في ظرف 90 عاماً من عمر الدولة العربية الحديثة.

هذه الصحوة لا ينبغي أن تبدو أمراً تافهاً.