عقليّة صائدي الهنود الحمر
د. سماح هدايا
عقدٌ جديد من الحروب المفتوحة لتأديب الخارجين على طاعة الطغاة والمستعمرين. والشعوب تدفع الثمن، بينما الحكام ينعمون بتقاسم الأرباح. لكنّ السؤال هل النموذج المنتصر الحالي هو النهائي؟
مازال العقل السياسي الأمريكي يتصرّف بعقلّية حقبة صائدي الهنود الحمر، يعتدي على أرض الآخرين ويقتل الذين يجاهدون في مطلب حريتهم وكرامتهم؛ فألبس ثوار سوريا وثورتها رداء هنديّ أحمر، هو داعش، وراح يقصفهم معتمدا على تفوّقه العسكري ، وعلى مباركة حلفائه وتابعيه الذين ضغط عليهم.
حلف أصدقاء سوريا يقصف الشعب السوري لضرب الإرهاب. يقتل المدنيين ويخرّب ما تبقّى من البنى التحتيّة في حربه؛ كأن نظام الأسد ليس إرهابيا ولم يزل إرهابيا؛ فيقيم عليه حربه.
أين خطاباتهم حول نظامٍ فقد شرعيته ؟.
الحقيقة انكشفت. الحلف يتعاون مع نظام بشار. يقصفون بطائراتهم، ويقصف النظام بطائراته من المجال نفسه، بتنسيق، ثم يتقدّم النظام على الأرض.
عبر التاريخ... بعض الأمم تم تطهيرها. وبعضها أبيد. وكثير أمم ظلت قائمة صامدة، وانكفأ المستعمر والغازي. السيناريو نفسه يحدث في سوريا، لكن بحبكة مختلفة وإخراج جديد. ...نتائج المعركة لا يمكن حسمها لصالح عدوان عالمي؛ لأنّ الثورة مرتبطة بكيان حضاري يدافع عن حياته.
الممارسات العدوانيّة للرأسمالية والاستعمارية، قائمة على النهب والسرقة، بشرعنة أيديولوجية، لا تخرج عن مسلمات عرقية ودينية وسياسية. ومن المنظور نفسه، لا يمكن للعنف والقوة الانتصار على العدو السياسي العقائدي، الذي لديه، أيضاً، قناعات راسخة، تشكّل طاقة حرب باسلة لنيل الحرية والحق. بل قد تزيد عداوته ويزيد عدد الأعداء من نفس مشربه العقائدي، الذين كانوا متشرذمين في جماعات وأحزاب متصارعة على المكاسب، وجاؤؤوا يصطفّون إلى جانبه، روحا واحدة، ضد عدو مشترك، ولصالح هدف مشترك هو التخلص من العبودية وإقامة دولة الاستقلال.
الأفكار التي تأتي من الخارج فرضا بقوة السلطة لا يمكن أن تلقى قبولا لدى الناهضين في طلب الحرية. المستعمرون في حروبهم ضد الشعوب الأخرى التي صنّفوها اقل منزلة وشأنا، حاولوا إحلال عروقهم وأفكارهم وقومياتهم فيها مكانها لتذويبها وإنهاء حضاراتها وثقافاتها ومجتمعاتها المتجانسة؛ كأنْ لا حضارة إلا حضارتهم، ولا أعراف ومعتقدات سوى معتقداتهم وأعرافهم... لكنّ الأمم الحيوية والشعوب الأبيّة التاريخيّة استمرّت وبقيت وظلت حضاراتها. مكافحو العبودية والذل في سوريا، هم من الشعوب الأبية الحيّة. وانتصارهم حتمي.
بالقطع، لا تتحقق المنجزات إلا بثمن باهظ من التضحيات، وبتراكم الآداءت الناجحة. لكنْ، قد تتحول المنجزات إلى معوّقات إن لم يجر نقدها ومراجعتها لتقويمها والتعلم من أخطائها. وعلينا أن ندرك أن ما سهّل الأمر على أمريكا وحلفائها في حرب سوريا هو نجاحهم في اختراق المعارضة والناشطين عبر منظوماتهم الاستخباريّة. فقد جرت المشاريع الغربيّة الحداثيّة بجيدها ورديئها سريعا في أوساط الناشطين والمعارضين السوريين، وتلقفوها، بعد عهود الكبت، بشغف وفوضى، من دون دون حذر وحكمة، بأشكال التمويل المختلفة من الإعلامي والحقوقي والمدني والعسكري؛ مما هيّأ أرضا خصبة للعمل الاستخباراتي ولحركة جماعاتيّة في اختراق الثورة وخنق المعارضة العسكرية الوطنيّة وفرض الإملاءات والشروط، وإشاعة التشكيك في نزاهة الثورة وثوارها، وتأجيج الصراع الطائفي...بهدف سحب الأنظار عن نصرة الثورة إلى معادة الثورة بحجة انحرافها، والتحوّل إلى معارك جانبيّة.
ما يحصل الآن هو عملية تدمير ممنهجة تحت عنوان الإرهاب، وبرنامج مدروس لحماية نظام بشار وتمكينه، مقابل إبادة الثورة ورجالها، خصوصا بعد أن تم تحريض العالم عليها بتنميطها في الصورة المخيفة لإرهاب داعش، وبالمقابل التعتيم الكبير على جرائم نظام بشار. لذلك يقتلون الثوار على الأرض، تحت مسعى قتل المسلحين الإرهابيين، ويعملون جاهدين على إنهاء الثورة المسلحة وإطفاء شعلة الثورة، بعد أن عجز بشار عن إنهائها عبر ثلاث سنوات ونصف.
أما دعم المعارضة المعتدلة؛ فهو إعادة تمثيل الدور التقليدي نفسه لتنصيب العملاء كمنتصري ثورة، وتسليم أطياف من المعارضة جزءا من السلطة بالتشارك مع نظام بشار بعد إضعاف الثورة وتقوية النظام. ربما لن يبقى بشار لكنْ، سيبقى نظامه. الائتلاف ليس، وحده، من شارك في تنفيذ الخطة الأمريكيّة؛ فمعارضات أخرى، ووجوه ثقافيّة مختلفة، وناشطون وإعلاميون أسهموا في الحملة الضخمة لتهويل داعش والتشكيك بالثورة، ومهّدوا لعمليّة التدخل الأجنبي. هم أيضا مسؤولون عن الجريمة الوطنيّة. منهم من عمل وفق مخطط مأجور، ومنهم من عمل وفق عقل انفعالي غير متبصّر بالنتائج.
العلاقة بين المعتقد والمصلحة والسياسة هي أساس الحروب الكبرى. ومن أسّس الحلف السياسي الإسلامي لمحاربة الشيوعية، والجهاد ضد الكفر. هو نفسه الذي أسس الحلف العالمي السياسي ضد الإسلام المتطرف وجهاده. كل الأطراف لا عقيدة لها سوى مصالحها، ولا مبدأ لها سوى نفوذها وسلطتها. تحالفات للمكاسب تستغل الدين. أمريكا التي تنشر الديمقراطيّة على حبال مستعمراتها، يحكمها إما يمين متطرف إرهابي يمحو قادته ذنوبهم وخطاياهم بالهجوم على الأمم الآخرى في حروب مقدسة، أو شركات بمناهج ليبرالية لا يعنيها من الأخلاق سوى ما في حوزنها من أموال وأرصدة وممتلكات. كذلك الحلفاء من حكومات العرب العالم، يسيرون وفق المكاسب. حرب داعش يحرّكها الذين ابتكروها، مستغلين تعمق القهر في الواقع؛ فداعش مجرد عنوان فرعي للإرهاب وذريعة لضرب الثورة السورية وكتائبها. أساس الإرهاب هو الاستعمار والاستبداد. اما الذين أيدوا ضربات الحلف من الوريين، فهم قاصرون سياسيا وفكريا ووطنيّا؛ عندما اعتقدوا أن أمريكا ستخلصهم من الأصولية الإسلامية المرعبة، وتمكّنهم من النصر والحكم. حساباتهم غير دقيقة وتوقعاتهم سطحيّة. فالحرب ستزيد في التعقيد السياسي، وستزيد في تأصيل الحركات الإسلامية التي ستبتلعهم. عقلية شبيهة بنظام الأسد الذي أعطى الحلف الموافقة على استعمال سماء سوريا للضرب، بعد أن فشل في قمع الثورة ومسلحيها، وأصبح مع عدوه المزعوم "أمريكا" شركاء في حرب واحدة على سوريا.
البناء السريع العشوائي بلا دراسة وخبرة، يتعرّض للهدم مع أي عاصفة أو زلزال أو صراع؛ فالأشياء يأتي اكتسابها دفعة واحدة من دون تبصّر. وإن حدث فلا تترك إلا أثرا مؤقتا. وذلك شأن الذين يريدون في سوريا تحقيق نصر ومكسب من دون فقه سياسي ودراية وعقل وطني. التغيير التاريخي قانون، يحتاج وقته ليتحرّك.
ليس أمام الثورة سوى الاستمرار وفتح كل جبهات القتال والمقاومة، وتخطّي الصعاب بتفكير جديد جماعي خلاق يستفيد من الطاقات والظروف والجغرافيا، يبدأ بإزاحة الحرس القديم في المعارضة كلّها؛ لأنه اصطف مع الرجعية ومارس العصبوية والفساد، وإشراك ذوي الخبرة والكفاءة والإخلاص الوطني. اجميع المقاتلين الآن في خندق التصفية. لذلك لابد من تنحية الخلافات والعمل للنجاة وحماية الوطن.
ما فشل نظام الأسد في تحقيقه، لن ينجح في تحقيقه الحلف العالمي باسم محاربة داعش. فعندما يعجز نظام بكل قواه الداخلية والعالمية، في كسب معركته على أرضه نتيجة شراسة المقاومة. سيعجز أيضا القادم من السماء والعابر للقارات والبحار في كسب معركته على أرض غيره نتيجة شراسة المقاومة.
أعداء مشروع الحرية والكرامة محصلة تآمرهم عبوديةّ وحساب عسير من شعوبهم. والذين يريدون الخلاص، ولو بيد الصهيونية والاستعمار، ستطيل الحرب في زمن آلامهم. والذين ينطلقون من ثأر شخصي في التعامل مع الظاهرة الوطنية واستجلاب الآخر للاستقواء على فئة طارئة..هم أشد خطرا على الوطن من الغزاة. أما الثورة؛ فمستمرة لأتّها ليست افرادا. بل حالة . وستنتج دماء جديدة ثمن الانتصار.