يؤسس لتغيير سوريا انطلاقا من داخلها

إعلان دمشق

المجلس الوطني لإعلان دمشق

افتتاحية موقع النداء

لم يكن المجلس الوطني لإعلان دمشق الذي عقد في مطلع كانون الأول  من العام الماضي لحظة سياسية عابرة في تاريخ سورية. فمنذ أوائل الخمسينات لم تشهد  مثل هذا الحدث السياسي، ومثل هذا الاجتماع الموسع لقوى معارضة تنشد تغيير الاستبداد والديكتانورية باتجاه الديموقراطية وتكريس الحريات السياسية والمدنية.

وتاريخية هذه اللحظة تكمن في أن أطيافاً أوسع، وتنوعاتٍ أكثر من النسيج الشعبي السوري، تشمل أحزاباً سياسية مختلفة وهيئاتٍ من المجتمع المدني وشخصياتٍ ديموقراطية وطنية، قد حزمت أمرها على بناء هيكلها التنظيمي ومؤسساتها، والاتفاق على أهدافها المرحلية المشتركة من أجل التغيير الديموقراطي.

لقد أكدت حيثيات انعقاد المجلس توطيد التوجهات الديموقراطية لدى قوى الإعلان ، وبرهنت على إمكانية التحالف  على برنامج مرحلي انتقالي بين قوى سياسية قومية ويسارية وإسلامية معتدلة وعلمانية وليبرالية. وفي الوقت ذاته لم  يدَّعِ الإعلان احتكار العمل المعارض، فلم يعتبر نفسه القوة المعارضة الوحيدة في الساحة السورية.

فقد حملت خطوة انعقاد المجلس بحد ذاتها، رزمة من عناصر القوة ربما فاجأت السلطة، وأثبتت بشكل ملموس أن القوة لا تكمن دائماً في امتلاك وسائل القمع، والقدرة على استخدام العنف سواءً كان من السلطة أو من نقيضها.  ومن أهم هذه العناصر:

 -2 إن النقاشَ الواسع الذي دار بين الأطراف المجتمعة داخل المجلس ، والإفساح في المجال لإمكانية الاختلاف فيما بينها، وانتخاب الهيئات القيادية بحرية وشفافية، والتوجه إلى تفعيل دور المرأة  وإشراكها الجِدّي في تركيب هيئاته، أعاد للساحة السياسية السورية عبق ممارساتٍ  وتقاليد كانت قد غيِّبت عنها منذ أكثر من نصف قرن. وكذلك أكدت أعمال المجلس ونتائجه أن سورية ليست صغيرةً على الديموقراطية كما تصورها الآلة الإيديولوجية للسلطة وملحقاتها، وبالتالي فقد قدمت المعارضة نموذجاً بديلاً عن استراتيجية (التعيين مقابل الرضوخ) الذي يتبعها النظام السياسي القائم.

-3 لقد وجهت أعمال المجلس ومجرياته ضربةً مؤلمة للطقوس السلطوية السائدة في مجتمعنا السوري؛ حين بينَّت أنه ليس ضرورياً أن تؤخذ القرارات بالإجماع ، وأنه من الطبيعي أن يجري التنافس بين الأطراف والجماعات وحتى ضمن الحزب الواحد، وأن تظهر الخلافات بشكل علني دون الحاجة إلى تستيرها بالوحدة الشكلية الكاريكاتورية، وأن يأخذ الجدل مجراه بين الموضوعي والذاتي سواء على مستوى الجماعات أو مستوى الأفراد..

-4 إن تبني الطابع السلمي في استراتيجية التغيير ونبذ ممارسة العنف ، في ظل نظام شمولي استبدادي يملك آلة قمعٍ ضخمة، ينطلق من رؤية عقلانية لموازين القوى، و يضيف عنصر قوة للمعارضة وليس عنصر ضعف كما يرى البعض. وانطلاقاً من ذلك يركز البيان الختامي على هذا الطابع حين يقول: " إن التغيير الوطني الديموقراطي كما نفهمه ونلتزم به هو عملية سلمية متدرجة، تساعد في سياقها ونتائجها على تعزيز اللحمة الوطنية، وتنبذ سياسة العنف وسياسات الإقصاء والاستئصال، وتشكل شبكة أمانٍ سياسية واجتماعية تجنب البلاد الكثير من الآلام  التي تمر بها بلدان شقيقة مثل لبنان وفلسطين والعراق..."

-5 وما هو هام جداً في البيان الختامي تركيزه على " إقامة النظام الوطني الديموقراطي" و تركيزه في آن على" الحفاظ على الاستقلال الوطني وحمايته، وتحصين البلاد من خطر العدوان الصهيوني المدعوم من الإدارات الأميركية والتدخل العسكري الخارجي". حيث يؤكد دون أي لبس على الربط العضوي بين الديموقراطي والوطني في متلازمةًٍ لا قطعَ بين طرفيها. وفي الوقت ذاته يؤكد على صلتنا بالعالم الذي أصبح أكثر تداخلا وانفتاحاً، فيجعلنا "غير مترددين في الانفتاح على القوى الديموقراطية والمنظمات الدولية والحقوقية والإنسانية بما يخص قضيتنا في الحرية والديموقراطية".

-6 وكذلك لأول مرة  تصدر وثيقة سياسية لا ترى أي تناقض بين الوطني والقومي، أي بين تكريس روح المواطنة و تساوي المواطنين في حقوقهم السياسية والمدنية والاجتماعية والثقافية بغض النظر عن قوميتهم ودينهم ومذهبهم، وبين اعتبار سورية جزءاً من الوطن العربي. فهو يركز هنا على أهمية بناء الوحدة داخل القطر عبر توطيد دولة الديموقراطية والمواطنة، للتهيئة إلى إمكانية إقامة أشكالٍ من الاتحاد أو الوحدة في المستقبل مع الأقطار العربية الأخرى.

-7 إن تأكيد البيان على روح المواطنة وتكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين السوريين عرباً وأكراداً وآثوريين وغيرهم، على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم، يوطد المفهوم الحقيقي للوحدة الوطنية، المختلفة كلياً عن تلك الوحدة الصورية التي يروج لها النظام، والتي يستخدمها دائماً كأداةٍ إيديولوجية قمعية، لمنع المواطنين من الكلام والتعبير والرأي، وحرمانهم من الدخول إلى ميدان السياسة وساحة الشأن العام وممارسة العمل فيهما.

**********

ربما محتوى البيان الختامي هذا قد شكل إحراجاً كبيراً للسلطة، وخاصة حين ربط بين الديموقراطي والوطني والقومي والاجتماعي، و حين أكد على أهمية الدور المركزي للداخل في التغيير، و رفض كل تدخل عسكري خارجي من أجل هذه الغاية.

 و بكل بساطة، فالمعارضة التي تراهن على التدخل الخارجي من أجل التغيير، لا يمكن أن تطرح في وثائقها وتصريحاتها أن التغيير الذي تنشده سيكون سلمياً ومتدرجاً وهادئاً ورافضاً لأي عنف. إن رفض قوى إعلان دمشق التغيير عن طريق التدخل الخارجي ليس تكتيكاً إنما ينطلق من قناعة كاملة، لكونها تعرف تماماً أن مثل هذا التدخل يضع البلاد تحت سيطرة المحتل ويرهنها لمصالحه واستراتيجيته كما هو الحال في العراق الآن؛ لذلك فهي منذ الوثيقة التأسيسية وحتى البيان الختامي، لم تكن إلا بصدد تغيير ذي نفس طويل، على عكس ما يطرح بعض الكتاب الموالين للسلطة. و كذلك ما افترضه بعض أصدقائنا من الكتاب حول المراهنة على العوامل الخارجية وتطورالظروف الإقليمية لم يكن صحيحاً، فربما لم يدقق هؤلاء كثيراً في متن النص، ولم يكتشفوا ذلك التناقض بين رهن التغيير على العوامل الخارجية و طرح التغيير السلمي المتدرج النابذ للعنف.

أما الحملة القمعية التي تشنها السلطة على قوى إعلان دمشق، فهو يأتي من أهمية هذه الخطوة التأسيسية التي قامت بها المعارضة السورية في الداخل ، و لشعورها أن هذه الخطوة يمكن أن تشكل البديل، عدا أنها لم تعتدْ على أن تقوم في سورية معارضة ديموقراطية وطنية بعقد مجلس وطني واسع ينتخب قيادييه بحرية، و يختار امرأة لرئاسته ويطرح خطة تغييرية سلمية. لذلك اندفعت في قمع معارضيها في الوقت الذي يفترض أن تحاورهم، وكذلك استنفرت كل كتابها وملحقاتها الإيديولوجية وأزلامها من أجل تشويه سمعة قادة إعلان دمشق وتخوينهم. ولكن السلطة لم تقف عند هذه الحدود، فخوفها من نمو وتطور هذا البديل الديموقراطي، دفعها لأن تعتدي حتى على أبسط حقوق المعتقلين، فلجأت إلى تزوير إفاداتهم. إذ لم تقدم للنيابة العامة الإفادات التي وقعوا عليها، بل أرسلت لها إفاداتٍ أخرى بديلة بعد محاولة إجبارهم على التوقيع عليها تحت التعذيب، وطبعاً تتناسب هذه الإفادات الملفقة مع التهم الباطلة التي قررت توجيهها لهم. وآثار التعذيب لم تكن تخبئ نفسها حينما أحْضِر معتقلو المجلس الوطني لإعلان دمشق إلى قاعة المحكمة لاستجوابهم.

ولم تكتف أجهزة السلطة بالاعتقال والتعذيب وتزوير الإفادات، بل لجأت في مدينة حلب إلى أسلوب قمعي جديد حينما اعتدت على أملاك بعض ناشطي إعلان دمشق وذلك بتكسير وتحطيم سياراتهم و تخريب مشغل الفنان التشكيلي طلال أبو دان وتمزيق وتشويه لوحاته.

***********

لكن ما كان كاريكاتورياً ومزرياً، مواقف بعض القوى التي تدعي (التقدمية واليسارية) من نتائج انعقاد المجلس الوطني؛ فهذه القوى فشلت فشلاً ذريعا في طرح أي وجهات نظر نقدية متماسكة للإعلان، ولم تتحلَّ بأبسط  قواعد النقد. فجلَّ النصوص الصادرة عنها كانت تؤكد إلى حدٍ كبير أن كتابها لم يقرأوا البيان الختامي، ولم يكلفوا أنفسهم بأن يستشهدوا بفقرات من هذا البيان تدعم وجهات نظرهم وتهمِهم وتخويناتهم. وبدا الأمر كأنه نوع من التكليفات الشرعية(السلطوية). ويبدو أيضاً أن هذه القوى حينما زجت بنفسها في هذه الحملة من الردح والتشكيك والتخوين، كانت تعتقد أن تلفعَها بيافطات (الوحدة المستحيلة للطوائف الشيوعية السورية) و(الكفاح ضد العولمة والليبرالية المتوحشة) و (الدفاع عن حقوق الإنسان) يمكن أن يبرأها ويبيض صفحتها لدى شعبنا الذي يعاني الأمرين من الاستبداد والفساد والفقر والتخلف!!

فبعضهم يقول أن هذه المرحلة ليست الأولوية فيها للديموقراطية، إنما مرحلة التصدي للامبريالية والصهيونية والرجعية. ونحن بكل بساطة نقول لهم: هل يمكن لهذا التصدي وهذه الممانعة والمجابهة والمقاومة بدون حرياتٍ و حقوقٍ مدنيةٍ وسياسية للمواطنين، وفي ظل حالٍ من الفساد قلَّ نظيرها؟ وألا تكفي تجربة خمسة وأربعين عاماً من حالة الطوارئ والأحكام العرفية لتقنع هؤلاء ببطلان مقولتهم، وخاصة أن حصاد العقود الخمسة انتهى إلى الكثير من اللا وحدة واللا حرية واللا اشتراكية؟؟

البعض الآخر من هؤلاء يقول أن المجلس الوطني لإعلان دمشق انتهى بانتصارٍ لليبراليين والليبرالية(وربما خجلوا من واقع حالٍ يعرفونه أكثر من غيرهم فلم  يضيفوا للامبريالية كلمة المتوحشة). ونحن نسألهم أين هذه الطغمة الليبرالية التي انتصرت في إعلان دمشق ومن هم عناصرها؟ رياض الترك الذي قضى في سجون النظام السوري حوالي العشرين عاماً، أم أكرم البني الخارج من سجن الخمسة عشر عاماً، أم طبيب الأسنان أحمد طعمة الإسلامي المعتدل الذي يرى أنه لا إكراه في الدين ويمكن أن يتعايش المتدين والعلماني ولا ضير في ذلك، أم الصحفي المناضل علي العبدالله ، أم الدكتورة فداء الحوراني القومية العربية نشأة وأصولا وممارسة، أم الفنان التشكيلي طلال أبو دان الذي لا يملك غيرمشغله ولوحاته التي حطمت أخيراً.. ولا نعتقد أن الأمر يحتاج إلى سرد سيرة باقي المناضلين المعتقلين... فمعروف البئر وغطاؤه حول ما يملكون من ثروات..  أما إذا كان (مدعو اليسارية والتقدمية) يقصدون بليبراليي المجلس الوطني، المناضل الدمشقي والنائب السابق في مجلس الشعب رياض سيف؟ فكم ذاكرة هؤلاء ضعيفة جداً حينما  نسوا أو تناسوا أن هذا المناضل الليبرالي هو أول من وضع يده على فضيحة الخليوي ودافع عن مصالح الدولة والمواطنين وكان ثمن ذلك بقاءه ست سنوات في السجن ،في الوقت الذي بقيت ومازالت أقلام هؤلاء مصابة بالخرس المزمن حول هذه الفضيحة.

أما إذا كان الأمر بالنسبة إليهم لا يتعلق بالليبرالية الاقتصادية، بل بالليبرالية كمفهوم فلسفي وفكري ثقافي له علاقته التاريخية بنشأة الحرية والديموقراطية ، فإنهم يكفرون بما يدَّعون، وينسون أن الحرية والديموقراطية المكرستان في الغرب، فلنضال لحركات العمالية والديموقراطية حصة مرموقة من هذا الفضل.  ويبدو أنهم نسوا ما قاله ماركس بأن حرية المجتمع تبدأ من حرية الفرد. قاتل الله النسيان!! إننا نحيلهم إلى البيان الشيوعي  وإلى الرواد الأوائل ماركس وانجلز وبليخانوف و روزا لوكسمبرغ وبوخارين وآخرين كثر، وإلى الياس مرقص وياسين الحافظ. فكل هؤلاء الرواد ثمنوا في كتاباتهم المحتوى التاريخي الحداثي والتقدمي لليبرالية. وكذلك لينين الذي يتكنّون به كثيراً،( الذي لم يكن له شرف اختراع مذهب الماركسية اللينينية) فهو قد بدأ جدياً في أوائل العشرينات يتكلم حول السياسة الاقتصادية الجديدة وكتب آنذاك (مرض الطفولة اليساري)،حينما نشأت لديه شكوك كثيرة حول إمكانية انتصار الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي. ويبدو أن شكوكه لم تكن بعيدة عن الواقع آنذاك.

 إننا في حزب الشعب الديموقراطي، لسنا ليبراليين بمعنى الانتماء السياسي، ولكننا لا نخجل من تثمين الدور التاريخي الحداثي والتنويري والتقدمي لليبرالية. ولقد أقمنا صلحاً تاريخياً في مؤتمرنا السادس بين الديموقراطية والاشتراكية. وإن كفاحنا من أجل العدالة الاجتماعية والاشتراكية كنظام مستقبلي، لا يعمينا عن تشخيص وتقييم ما هو تقدمي في المراحل التاريخية الأخرى، ولا ينسينا ما قاله ماركس وانجلز في البيان الشيوعي عن المجتمع البرجوازي بأنه هو المجتمع المدني الذي أسهم إسهاماً كبيراً في تكنيس البربرية والإقطاعية.

أما بالنسبة إلى الذين لم يرق لهم انعقاد المجلس الوطني ونتائجه، من بعض جماعات حقوق الإنسان في الخارج لأسباب نرجسية وذاتية، فهذا من حق نرجسيتهم وذاتيتهم . ولكن مع ذلك من الأفضل لهم أن يتركوا أمور السياسة، ويكرسوا وقتهم لتأدية مهنتهم جيداً، وليقوموا بواجبهم بإخلاص في الدفاع عن حقوق الإنسان، كي لا يخسروا كثيراً على المستوى الأخلاقي..

على الرغم من هذه الهجمة الظالمة من السلطة وأقربائها، فإن قوى إعلان دمشق ستستمر في نضالها من أجل التغيير الوطني الديموقراطي السلمي مهما كانت التضحيات، ونعتقد أن هذا الطريق هو قدر شعبنا بأطيافِه ومكوناته كافة، لكونه يؤمن عتبة الانتقال الأفضل من عهد الاستبداد إلى عهد الديموقراطية بأقل الخسائر....